مقالاتمقالات مختارة

التحذير من الإلحاد في البلد الحرام

التحذير من الإلحاد في البلد الحرام

بقلم د. محمود بن أحمد الدوسري

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده.

من خصائص البلد الحرام أن الله تعالى توعَّد بالعذاب الأليم مَنْ أراد الإلحاد فيه، فقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج:25]. (وخَصَّ الله تعالى الحرمَ بالوعيد في الملحد فيه؛ تعظيماً لحرمته،ولم يختلف المتأوِّلون للآية أن الوعيد في الإلحاد مراد به مَنْ ألحد في الحرم كلِّه، وأنه غير مخصوصٍ به المسجد)[1].

معنى الإلحاد بظلم:

الإلحاد في اللغة: هو العدول عن القصد[2].

قال الطبري رحمه الله: (الإلحاد: الظلم في الحرم)[3].

وقال الماوردي: (وفي الإِلحاد بالظلم أربعة تأويلات: أحدها: أنه الشرك بالله بأن يعبد فيه غير الله، وهذا قول مجاهد، وقتادة. والثاني: أنه استحلال الحرام فيه، وهذا قول ابن مسعود. والثالث: استحلال الحرام متعمداً، وهذا قول ابن عباس. والرابع: أنه احتكار الطعام بمكة، وهذا قول حسان بن ثابت)[4].

الإلحاد في الحرم يشمل جميع المعاصي:

الذي عليه المحققون: أن الإلحاد بظلم يشمل جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر[5]، ومما ورد في ذلك:

1- ما قاله الرازي – رحمه الله – بعد سرده للأقوال في تحديد معنى الإلحاد: (أنَّ الإلحاد بظلم عامٌّ في كلِّ المعاصي؛ لأن كلَّ ذلك – صغُر أم كبُر – يكون هناك أعظم منه في سائر البقاع)[6].

2- وما قاله القرطبي – رحمه الله: (وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر)[7].

3- وقال ابن كثير – رحمه الله – بعد سرده لبعض الآثار في معنى الإلحاد: (وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكن هو أعمُّ من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها، ولهذا لما هَمَّ أصحاب الفيل على تخريب البيت، أرسل الله عليهم ﴿ … طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴾ [الفيل: ٣]. أي: دمرهم وجعلهم عبرةً ونكالاً لكل مَنْ أراده بسوء)[8].

ثبت عن عَائِشَةَ – رضي الله عنها – أنها قالت: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فإذا كَانُوا بِبَيْدَاءَ من الأرض، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ). قالت: قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ ليس منهم؟ قال: (يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ على نِيَّاتِهِمْ)[9].

وقال ابن مسعود – رضي الله عنه – في قَوْلِهِ تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ﴾، قال: (لو أَنَّ رَجُلاً هَمَّ فيه بإلحادٍ، وهو بِعَدَنِ أَبْيَنَ لأَذَاقَهُ الله عز وجل عَذَاباً أَلِيماً)[10].

الإلحاد في الحرم من كبائر الذنوب:

الإلحادُ في البلد الحرام واستحلالُه من الكبائر، ودليله:

1- ما جاء عن عُمَيْرٍ بنِ قتادةَ اللَّيثيِّ – رضي الله عنه – وكانت له صُحْبَةٌ – أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ! ما الْكَبَائِرُ؟ فقال: (هُنَّ تِسْعٌ…) وذكرَ منها:(وَاسْتِحْلاَلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ؟ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا)[11].

2- وله شاهد من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما، يرويه أيوب عن طيسلة بن علي النهدي قال: سألتُ ابنَ عمر – وهو في أصل الأراك يوم عرفة، وهو ينضح على رأسِه الماءَ ووجهِه – فقلت له: يرحمك الله، حدثني عن الكبائر، فقال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ…) وذَكَرَ منها: (وَإِلْحَادٌ بِالْبَيْتِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَاً)[12].

وعلى هذا، فإنَّ خطورة الإلحاد في الحرم ترجع إلى كونه كبيرةً من الكبائر من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه اجتراء على الله تبارك وتعالى في حَرَمِه وحِماه.

والخلاصة: أن الآية الكريمة دلت على وجوب احترام البلد الحرام، وشدة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه، وفعلها، وصاحبه متوعَّد بالعذاب الأليم.

وفي هذا الوعيد صيانةٌ للحرم من عبث العابثين وظلم الظالمين، ولئلاَّ يُستهان به وبحرمته، فكان العذاب على مجرَّد الهَمِّ عاجلاً في الدنيا؛ ليكون صاحبه عبرةً لمَنْ يعتبر.

درجات الهَمِّ بالمعصية:

الأصل في الشريعة الإسلامية أن المكلف لا يؤاخذ بمجرد الهمِّ حتى يتحوَّل إلى فعل أو قول؛ لما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عن أُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ما لم تَعْمَلْ أو تَتَكَلَّمْ)[13].

ضابط الهم بالمعصية:

وضابط الهم بالمعصية هو:(ترجيح قصد الفعل، تقول: هممتُ بكذا، أي: قصدتُه بهمَّتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب)[14].

ولذا: فإن عامة السلف – من الفقهاء والمحدثين – خصَّصوا حديث النفس بما لم يصل إلى العزم المُصَمَّم، فأما إذا وصل إلى العزم المُصَمَّم فإنه يؤاخذ به[15].

فمَنْ (عزم على المعصية بقلبه، ووطَّن نفسه عليها، أثِمَ في اعتقاده وعزمه، ويُحْمَل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالِها على أن ذلك فيمَنْ لم يُوَطِّن نفسَه على المعصية، وإنما مَرَّ ذلك بفكره من غير استقرار، ويُسَمَّى هذا هَمّاً، ويُفَرَّق بين الهَمِّ والعزم…

فأما الهَمُّ الذي لا يُكتب: فهو الخواطر التي لا تُوَطَّنُ النَّفسُ عليها، ولا يصحبها عقد، ولا نية وعزم)[16].

درجات ما يقع في النفس:

قسَّم أهل العلم كالسبكي – رحمه الله – وغيره ما يقع في النفس من قصد المعصية إلى خمس مراتب، وهي:

1- الهاجس: وهو ما يُلقى في النفس.

2- الخاطر: وهو جريانه في النفس.

3- حديث النفس: وهو ما يقع في النفس من التردد، هل يفعل أو لا؟

4- الهَمُّ: وهو ترجيح قصد الفعل.

5- العزم: وهو قوة ذلك القصد، والجزم به.

فالهاجس: لا يؤاخذ به إجماعاً؛ لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيء وَرَدَ عليه لا قدرة له، ولا صنع.

والخاطر، وحديث النفس: أيضاً مرفوعان بالحديث الصحيح السابق ذكره، وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق الأَولى، وهذه المراتب الثلاثة أيضاً لو كانت في الحسنات لم يُكتب له بها أجر، أما الأوَّل: فظاهر. وأما الثاني والثالث: فلعدم القصد.

وأما الهَمُّ: فقد بيَّن الحديثُ الصحيح[17]: أنَّ الهم بالحسنة يُكتب حسنة، والهم بالسيئة لا يكتب سيئة، ويُنْتَظر فإن تركها لله كُتِبَت حسنة، وإن فعلها كُتِبَت سيئة واحدة.

وأما العزم: فالمُحقِّقون على أنه يؤاخذ به.

الأدلة:

1- قوله تعالى: ﴿ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ [القلم: ١٧].

وجه الدلالة: أكدوا عزمهم على الفعل بالقَسَم؛ لذلك عوقبوا قبل فعلهم.

قال القرطبي – رحمه الله: (في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم)[18].

2- قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ)قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! هذا الْقَاتِلُ، فما بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قال(إنه كان حَرِيصًا على قَتْلِ صَاحِبِهِ)[19].

وجه الدلالة: علل استحقاقه للنار بحرصه، وعزمه المصمَّم على قتل صاحبه المسلم، وكذلك وقع الإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب؛ كالحسد والغل ونحوه[20].

الخلاصة: (أَنَّ ما يَقَعُ في النَّفْسِ خَمْسُ مَرَاتِبَ: هَاجِسٌ: وهو ما يُلْقَى فيها، وَخَاطِرٌ: وهو جَرَيَانُهُ فيها، وَحَدِيثُ نَفْسٍ: وهو تَرَدُّدُهَا، هل تَفْعَلُ أَمْ لا؟ وَهَمٌّ: وهو تَرْجِيحُ قَصْدِ الْفِعْلِ، وَعَزْمٌ: وهو قُوَّةُ ذلك الْقَصْدِ وَالْجَزْمِ)[21].

والشاهد: أن المكلف لا يؤاخذ على الهم بالمعصية.

التواصي بترك الإلحاد في الحرم:

كان السلف الصالح يوصي بعضهم بعضاً بترك الإلحاد في الحرم: فقد أتى عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ – رضي الله عنهما – فقال: يا ابنَ الزُّبَيْرِ! إِيَّاكَ وَالإِلْحَادَ في حَرَمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فإني سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سَيُلْحِدُ فيه رَجُلٌ من قُرَيْشٍ، لو وُزِنَتْ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَرَجَحَتْ) قال: فَانْظُرْ لاَ تَكُونُهُ [22].

استقباح فعل المعاصي في الحرم:

وكان السلف الصالح أيضاً يستقبحون فعل المعاصي في الحرم، ومما ورد في هذا الشأن عندهم:

1- ما جاء عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما؛ (أنه كان له فسطاطان، أحدهما: في الحرم، والآخَرُ: في الحِلِّ، فإذا أراد أن يُصَلِّي صلَّى في الذي في الحرم، وإذا كانت له الحاجة إلى أهله، جاء إلى الذي في الحل. فقيل له في ذلك؟ فقال: إنَّ مكة مكة)[23].

2- وروى الأزرقي بسنده عن مجاهد – رحمه الله – في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25]. قال: (كان لعبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – فسطاطان، أحدهما: في الحِلِّ، والآخَرُ: في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحِلِّ، وإذا أراد أن يُصلي صلَّى في الحرم. فقيل له في ذلك، فقال: إنا كنا نَتَحَدَّث أنَّ مِنَ الإلحاد في الحرم أن يقول: كلا واللهِ، وبلى واللهِ)[24].

الفرق بين الحرم وغيره:

فإن سأل سائل: ما الفرق بين الحرم وغيره؟

فجوابه: أن الآية الكريمة جاءت لتحذر الناس من الوقوع في الإلحاد في الحرم خاصة؛ لأنه من شعائر الله المكانية التي عظمها وأمر الناس بتعظيمها؛ ولأن المعصية في الحرم أقبح وأشنع، وجزاؤها أفظع؛ لانتهاك هذه الحرمة[25]؛ ولذا كان الملحد في الحرم من أبغض الناس إلى الله تعالى، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ – وذكر منهم: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ)[26]، إذْ كيف يُحَرِّم الله تعالى مكاناً، ويجعله حرمَه، ثم يأتي آتٍ ليلحد فيه، فالحكمة هنا هي تعظيم أوامر الله تعالى وحدوده، فالمكان في ذاته لا فضيلةَ له إلاِّ بما منحه الله تعالى إيَّاه، ثم إنَّ الله تعالى يتعبَّد عبادَه بما شاء من صنوف العبادات؛ لينظر مَنْ يُطيعه ممَّنْ ينقلب على عقبيه؛ فيجازي هذا بإحسانه، ويؤاخذ ذاك بجريرته.


[1] أحكام القرآن، للجصاص (5/ 63).

[2] انظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (8/ 511).

[3] تفسير الطبري، (17/ 141).

[4] تفسير الماوردي، (4/ 63).

[5] انظر: تفسر الطبري، (17/ 142)؛ تفسير ابن كثير، (3/ 216).

[6] التفسير الكبير، (23/ 23).

[7] تفسير القرطبي، (12/ 36).

[8] تفسير ابن كثير، (3/ 216).

[9] رواه البخاري، (2/ 746)، (ح2012).

[10] رواه أحمد في المسند، (1/ 428)، (رقم4071)، وحسنه محققو المسند، (7/ 155)،  (رقم4071).

[11] رواه أبو داود، (3/ 115)، (ح2875). وحسنه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 209)، (ح2875).

[12] رواه الطبري في (تهذيب الآثار – مسند علي)، (3/ 192-193)، (رقم314)؛ والبيهقي في (الكبرى)، (3/ 409)، (رقم6515). وحسنه الألباني في الإرواء، (3/ 155).

[13] رواه البخاري، (5/ 2020)، (ح4968).

[14] فتح الباري، (11/ 323).

[15] انظر: الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/ 129).

[16] شرح النووي على صحيح مسلم، (2/ 151).

[17] رواه البخاري، (5/ 2380)، (ح6126)؛ ومسلم، (1/ 118)، (ح131).

[18] تفسير القرطبي، (18/ 240).

[19] رواه البخاري، (1/ 20)، (ح31).

[20] انظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي (1/ 33-34)؛ فتح الباري، (11/ 328)؛ الفواكه العِذاب في الرد على من لم يُحكِّم السنة والكتاب، لحمد بن ناصر الحنبلي [ت:1225هـ] (4/ 358).

[21] حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، (1/ 138).

[22] رواه عبد الرزاق في (مصنفه)، (6/ 204)، (ح30687)؛ وأحمد في (المسند)، (2/ 136)، (ح6200)؛ والحاكم في (المستدرك)، (2/ 420)، (ح3462) وقال:(صحيح الإسناد ولم يخرجاه). وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (3/ 285): (رجاله ثقات). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (7/ 292)، (ح3108).

[23] رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه)، (3/ 269)، (رقم14096)؛ والأزرقي في (أخبار مكة)، (2/ 131)؛ وابن جرير في (تفسيره)، (9/ 132)، (رقم25028). وإسناده صحيح.

[24] رواه الأزرقي في (أخبار مكة)، (2/ 131).

[25] انظر: فضائل مكة المكرمة، د. عبد الله بن محمد نوري (ص118-119).

[26] رواه البخاري، (6/ 2523)، (ح2523).

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى