التجربة السودانية في الحكم بين التمكين والتفكيك
بقلم د. عبد الرحمن بشير
سقط السيد عمر البشير، وذهب إلى مزبلة التاريخ، ولَم يعد حاكما، بل لم يجد حاضنة شعبية دافعت عنه، وعن مشروعه السياسي ولهذا سقط، ولكن البعض ما زال يدافع عنه، ويرى فيه الصواب والخلاص، وهذه خطيئة أخلاقية قبل أن تكون سياسية، وخطأ فكري وحركي قبل أن يكون رأيا سياسيا، ذلك لأن السيد عمر البشير نجح في ثلاثة أمور، كلها تصب في مجال الاستبداد في الحكم، والاستغلال السياسي، فالأمر الأول يكمن في احتواء الوطن تحت عباءته، فلا وطن بدون وجوده، ولا وطن بدون رأيه السياسي (وما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، فقد حكم السودان في عقود ثلاثة، ورفض أكثر من مرة التنازل عن الحكم لمصلحة السودان، وبقي في الحكم كغيره من الطغاة حتى سقط، ومن هنا فقد دخل في سجل المستبدين من أوسع الأبواب، أما الأمر الثاني، فقد أزاح عن الحركة الإسلامية موقعها الفكري، وقبولها للتدافع السياسي والفكري، ودفن تحت قصره الفكر السياسي الإسلامي، بل وجعل الحركة مؤتمرا وطنيا، والمؤتمر الوطني حركة إسلامية، ولهذا صارت اليوم الحركة الإسلامية تتقدم إلى الناس باستحياء وخجل، والأمر الثالث هو إقصاء الشرفاء من العمل السياسي العام، فقد أصبح كبار السياسيين في التيار الإسلامي يتساقطون من المؤتمر تباعا، ويخرجون منه زرافات، واستخدم في حق الناس العصا والجزرة معا حتى يطيل أمد حكمه، ومع هذا لم يتنبه له الرجل ما الإنذارات التي جاءت إليه من كل مكان، بل وعاش مع شهوة الحكم حتى سقط تحت صيحات الشعب الغاضب، فلم تنفعه الرقصات الشعبية المعروفة عند لقاءه مع الناس والجماهير، ولا التكبيرات المرتفعة من الأمعاء الفارغة، فالشعوب لا تدافع عن الشعارات الجوفاء فقط، بل هي بحاجة إلى حلول حقيقية.
ذهب السيد عمر البشير، وارتحل من السياسة بعد حكم دام ثلاثة عقود من الزمان، فهو الآن وراء القضبان ينتظر حكم القضاء، والقضاء له كلمته في هذا الباب، ولكن السؤال هو، لماذا تم تفكيك حزب المؤتمر الوطني؟ هل وراء هذا العمل من خطة سياسية تستهدف تيارا بعينه؟ ماذا يريد أصحاب القرار من قانون التفكيك؟ هل يريدون مواجهة التمكين بالتفكيك؟ أم يريدون استنساخ تجارب الدول الأخرى في المنطقة؟ هل ثمة استنساخ لتجربة العراق في اجتثاث البعث؟ أم يريدون نقل تجربة تونس في إلغاء حزب بن علي ما بعد نجاح الثورة الشعبية؟
السياسة بين التفكيك والتركيب.
هناك معركة عميقة ما بين خصمين سياسيين في السودان، فالخصم الأول يتمثل في التيار العلماني الذى يريد إقصاء الإسلام السياسي بكل تياراته، ويعمل في محاربة الفكر الإسلامي بكل فصائله الفكرية والسياسية، ولدينا الدولة العميقة التى حكمت السودان باسم الإسلام، أو باسم التيار الإسلامي، وهذه الدولة العميقة لا تريد أن تنجح الثورة في السودان، ولكن لأجل تفكيك المسألة نحتاج إلى قراءة عميقة، ونتساءل، هل يمكن للتيار العلماني إقصاء التيار الإسلامي؟ وهل يمكن للقوة، وخاصة خين تكون ضعيفة كالسلطة في السودان اغتيال الفكر قانونا؟ وهل يمكن للقانون محو الفكر؟
لقد علمتنا التجربة بأن الفكر لا يختفي من الساحة بقوة السلطة، ولا بقوة القانون، وهذا مجرّب في المنطقة برمّتها، بل في السودان ذاتها، لم يستطع السيد عمر البشير أن يتخلص بقوة الدولة من التيار العلماني، والخصم السياسي الإسلامي الممثل بالمؤتمر الشعبي، ذلك لأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر، بل ولَم تستطع الدولة المصرية، وهي تمثل أكبر تجربة بوليسية وأخطرها في المنطقة محو الإخوان المسلمين من الوجود في عقود سبعة، وما زال الإخوان يمثلون أهم التيارات وأوسعها في مصر، ولهذا فليس من العقل ولا من المنطق محاربة الفكر الإسلامي تحت شعار تفكيك حزب المؤتمر الوطني.
إن المؤتمر الوطني يجب أن يُحلّ، بل في رأيي لقد تم تجاوز هذا الحزب، فقد أسقطه الشعب من خلال الثورة، ويجب أن يُحلّ من قبل أهله قبل غيرهم ولكن السؤال، هل الحزب يمثل التيار الإسلامي بكل أطيافه؟
إن الموتمر الوطني ليس ممثلا للتيار الإسلامي، فهناك المؤتمر الشعبي الذي قاده الترابي رحمه الله، وتم بينهما المفاصلة التاريخية، بل ودخل كثير من أبناء المؤتمر الشعبي السجون، وقادوا المعارضة كثيرا، وهناك التيار السلفي المنظم، وحركة الإخوان المسلمين وغيرها، فالتيار الإسلامي أوسع من المؤتمر الوطني، بل في داخل المؤتمر الوطني من نافح استبداد السيد عمر البشير في الداخل، وكان من المضطهدين فكريا، والمبعدين تنظيميا، والمجمّدين حركيا، ولهذا ليس من العقل ولا من المنطق محاربة التيار الإسلامي في السودان.
قد يكون من أولويات الحكومة الحالية بيع نفسها في السوق العالمي، ويكون من الخطط المطروحة لتحد قبولا دوليا إعلان الحرب على الحركة الإسلامية، وبهذا تقع في سقطة سياسية وأخلاقية، ذلك لأن الشعب لا ينتظر من الحكومة الحالية تقديم خدمات للخارج، بل ينتظر منها تقديم خدمات حقيقية للداخل، فالشعب ما زال يواجه الموت البطيء، وليس من الحكمة مرة أخرى بيع الأوهام، فقد كان النظام البائد يبيع الشعارات، وأصبح النظام الحالي يبيع الأوهام، فلا الشعارات خلقت نهضة سياسية واقتصادية، ولا الأوهام تصنع دولة القانون والعدالة والحريّة، ونحن رأينا كم هي ضعيفة في استقبال حمدوك رئيس وزراء السودان في الولايات المتحدة، وخفض دائرة المرحبين به، فالغرب لا يحترم الضعفاء، بل يحترم الرجال الأقوياء بالأعمال لا بالشعارات، ولا بالأوهام.
إن السودان في هذه المرحلة ليست بحاجة إلى فلسفة تمكين سياسي، فقد جربت هذه الفلسفة في زمن البشير، ورأت بعينها الفشل الذريع حيث تم تقسيم السودان في عهد التمكين السياسي، بل وتم تقزيم السودان، وبهذا خرجت من الفعل السياسي، كما أنها ليست بحاجة إلى تفكيك سياسي، فهذا المشروع قد يؤدى إلى أحد الاحتمالين، فقد يؤدى إلى عودة العسكر إلى الحياة السياسية، وإلغاء التجربة السياسية وهي في المهد (السيسي) نموذجا، وقد يؤدى التفكيك السياسي إلى تفكيك الدولة، وقيام دول جهوية، أو إقامة حروب أهلية (حفتر) نموذجا، فليس من الذكاء السياسي تمصير السودان، أو نقل التجربة الليبية إلى السودان، فالتجربتان يتم رعايتهما من الخارج إقليميا ودوليا، وهناك صيحات في الغرب تقتنع، وتُقنع الآخرين بأن العرب والمسلمين ليسوا جديرين بالديمقراطية.
هناك خصومة سياسية عنيفة ما بين التيارات، وهي تاريخية، وتتجدد بشكل مستمر لتتجذر، وهي كذلك موجودة في السطح كما في العمق، وهذه الخصومة تتمثل بين رؤيتين، فالرؤية العلمانية لها وجود في الساحة السودانية، وليس صحيحا ما نسمعه بين الفينة والأخرى من الإسلاميين في أن هؤلاء أقلية، كما أن الرؤية الإسلامية لها وجود في الساحة، وليس صحيحا ما نسمعه بين الحين والآخر من العلمانيين بأن التيار الإسلامي معادٍ للحريات والديمقراطية، وأنه يدعو إلى الدولة الشمولية، فهذا ليس صحيحا، ولَم يكن المؤتمر الوطني ممثلا شرعيا للفكر الإسلامي السياسي، بل كان مشوّها له، ومبدّدا لثروته الفكرية، ولهذا ليس من العقل مرة ثالثة حصر الرؤية الإسلامية في هذه التجربة التي يجب أن تكون عبرة للإسلاميين قبل الآخرين، ولكن الذكاء يكمن في هذه المرحلة تقديم نموذج سياسي بعيد عن التمكين الحزبي، والتفكيك السياسي، فلا يجوز أن تصبح الدولة بكل ما فيها في جيب تيار سياسي، أو نصيب فصيل فكري، كما أن العقلية التي تخطط في التفكيك فهي تعمل في إسقاط الدولة في حين غفلة من أهلها.
لا يمثل السيد عمر البشير التيار الإسلامي، ولكن لأجل التاريخ، يجب أن يعلن الإسلاميون خطأهم الإستراتيجي حين وضعوا التجربة الإسلامية تحت رجل عسكري لديه أطماع سياسية تتجاوز الفكرة والحركة، كما أنه يجب أن يعلن الإسلاميون الخطيئة الإستراتيجية في عسكرة السياسة في السودان، ووقوعهم تحت الإكراه السياسي كغيرهم، وهذا ليس أمرا خالصا لهم، بل كل التيارات في السودان وقعت، وسقطت، كما أن الإسلاميين في السودان يجب عليهم مراجعة التجربة بعقلية جماعية، وعندهم قامات فكرية، ورموز عظيمة لا يمكن تجاوزهم بسهولة.
لا يمثل أبناء الحرية والعدالة كل الشعب السوداني، والتمثيل الحقيقي سوف يأتي حين تتكلم الصناديق في الانتخابات، ولا تمثل المرحلة الانتقالية التاريخ السوداني كله، فالشعب السوداني في غالبيته كان وراء الثورة السودانية، وللحقيقة نقول، كانت الثورة مركبة تجمع ما بين المطالَب السياسية، والمطالب المعيشية، ولهذا ليس من الذكاء السياسي أخذ قرار من شأنه أن يؤدى إلى تمكين مجموعة سياسية دون مجموعة سياسية أخرى، أو التفكيك السياسي الذي قد ينتج منه خراب الدولة وتفكيكها.
إن الدعوة إلى تجاوز المرحلة السابقة بالسرعة قد تكون تهوّرا سياسيا، وإن محافظة الدولة العميقة، ووجودها في مفاصل الدولة بدون مواجهتها تعرقل جهود الثورة، فلا بد من السير نحو الأهداف بحكمة وحنكة، وإلا فالعودة إلى الماضي ممكن، كما أن تجاوز الدولة، والسقوط في مربع الفراغ السياسي ممكن، وبين الممكنين ممكن آخر يتطلب ذكاء سياسيا، والعبقرية السودانية مؤهلة لصناعة ذلك، ولكن بشرط تجاوز الأنانية السياسية فقط.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)