التاجُ المُذَهّبُ اليَمانِي .. القاضي العلاّمة مُحمدُ بنُ إسماعيلِ العَمْرانِي “في رحيل مفتي الديار اليمنية”
بقلم د. عامر الخميسي
ماذا أقول عن القاضي العلامة محمد بن اسماعيل العمراني فهو التّاج المُذَهّب اليماني، أحدُ العلماء الأفراد، ورأسُ الفُقهاء الأمجاد، كبيرُ علماء اليَمن، ونفحةٌ من نفحاتِ الزّمن.
مَلا ذكرهُ الآفاق شرقا ومَغربا
فليس لهُ نِدٌ بشامٍ ولا مصرِ
سليلُ التّقى والعَدلِ والعلمِ والنّقا
فَريدُ الذّكا والمَجدِ والرّشدِ والقدْر
أخو هِمةٍ فاقَت على هِمَمِ العُلا
وأوصافه تسمو على الأنجمِ الزُّهرِ
أرقُّ من الماءِ الزلالِ شمائلا
وأَلطَفُ من جِسمِ النسيمِ إذا يسري
إذا ازْدانَ ذو قَدْرٍ عظيمٍ بقدرهِ
ففيه وفي( أشياخه) زينةُ الدهرِ
وإن مَرّ ذكرُ الأكملينَ فذكرهُ
كبسملةِ التالي غَدتْ مَبدأ الذِّكرِ
القاضي العمراني موسوعةٌ في التاريخِ فما كنا نسألهُ عن دولة من الدول أو عصرٍ من الأعصار إلا ويندفع كالسيل لا يردّه راد ولا يصدّه صادّ، يحكي الحوادث كأنّه يراها، فهو ذاكرةُ التاريخِ الحيّة، ودفترُ الزمان المُتحدث، ولا أحسب هذه الأبيات إلا مفصلة عليه:
إذا ما روى الإنسانُ أخبارَ من مضى
فَتَحسبه قد عاشَ من أولِ الدهرِ
وتحسبه قد عاشَ آخرَ دهرهِ
إلى الحشرِ إن أبقى الجميلَ من الذكرِ
فقد عاشَ كلّ الدّهرِ من عاشَ عالما
كَريما حَليما فاغتنمْ أطولَ العمرِ
والقاضي العمراني من القلائل الذين متّعهم الله بطول العمر وحسن العمل فقد عاصرَ عشرة من ملوك ورؤساء اليمن، وزاد عمره على قرن من الزمان..
علمهُ كالروضِ الأنف، وكلامهُ كلآلئ الصُّدف، ودروسُه لا تخلو من الطّرف، ومجالسُه أبهى من التّحف..
انتهت إليه مَشيخة العلم في اليمن، فالكلّ يرجع إليه، يُفتي على كلّ المذاهب يبين لك المذاهب الأربعة بالتّفصيل، ثم يعقّب بمذهب الزيدية، ويذكر خلاف الهادوية، ويعرّج بك على مذهب الظاهرية، ويذكر ما قاله داود الظاهري وابن حزم وابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن الأمير ولا يتوقف إلا عند الشوكاني وغالبا يرجح مذهب الشوكاني وهذا أسلوب القاضي في كل مسألة تُوجه إليه إلا ما ندر وتلاميذه يعرفون هذا…
وفي بعض الأحيان يذكر ما قاله رشيد رضا والألباني وابن باز وابن عثيمين والقرضاوي، وسمعته مرات يقول: ابن باز يشدد قليلا في الفتوى والقرضاوي يتساهل قليلا وأنا بينهما.. ثم يبتسم، ويرجح أحيانا أحدهما ويذكر سبب الترجيح، وذكر أنه ناقش ابن باز مرات واعترض عليه في بعض المسائل، وكان القاضي رحمه الله دائما يصحّح ما صححه الألباني ويستشهد بتصحيح الألباني في جلّ الأحاديث التي من خارج الصحيحين وكأنه حافظٌ كتب الألباني عن ظهر قلبٍ مع أن كُتَب الألباني أغلبها أو جلها ما ظهرت إلا بعد الثمانينيات وما نُشرت إلا حديثا فكيف تفرّغ لها القاضي في آخرِ عمرهِ وأتقنها، أما الأحاديث الموضوعة فلا تسمع بحديث موضوع إلا ويُنبِيك من قال بوضعه فكأنّ كتاب الموضوعات لابن الجوزي، والمنار المنيف لابن القيم، وتنزيه الشريعة للكناني، وكتاب اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي، وكتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني جميعها بين عينيه، وما يخطر على بالك من حديث ضعيفٍ أو موضوع إلا وعند القاضي نبؤ عنه وتفاصيل فيه فبمجرد أن تُوجِه له سؤالك يقوم باسترجاع الملفات من ذاكرته، وقدرته الذهنية فائقةٌ جدا فيسرُد لك من قال بوضعهِ أو ضعّفه حتى ولو بلغوا سبعة أو ثمانية من العلماء، ويذكر لك كتبَهم التي أوردوا فيها الحديث، ولماذا كلّ واحد منهم ذهب إلى تضعيفه أو وضعه.
يأتي إليه المستفتون من أقاصي البلاد، ويسأله الحاضر والباد وما حطّ أحد رحاله بمسجدهِ إلا أدرك أنه بلغ المراد.
بِهِ ضاءَ وجهُ البدرِ وازدادَ بِشرهُ
فحقّا هو الموسومُ بالكوكبِ الدُّري
لقد ضاقَ صدرُ الدهرِ عن كتمِ فضلهِ
وهيهاتَ يخفى البدرُ في ليلةِ البدرِ
آلَت إليه علومُ الحديث في اليمن فجدّد علومها، وأقامَ رسومها، ورفعَ منارها، وأقام أسوارها، وأرشد طلابها، وأتقن بناءها وإعرابها، والقاضي ليس بينه وبينه البخاري في الإسناد إلا ثلاثة عشر رجلا، ويروي عن شيخه العلامة عبد الواسع الواسعي جميعَ ما تضمنه كتابُه «الدر الفريد» عن علماء اليمن، وحضرموت، ومصر، والهند، والشام، وغيرها من الأقطار، والقاضي عنده صبرٌ وجلدٌ على التدريس ويشعر أن متعته في ذلك، فما إن يكمل شرح صحيح البخاري إلا ويشرع في صحيح مسلم ثم لا ينتهي إلا بانتهاء الأمهات الست، وله شَجَن منقطع النظير بسبل السلام لابن الأمير فهناك مستراحه وهجيراه، وله حنين وغرام لوبْل الغمام على شفاء الأوام، وأخبرني أحدهم أنّه لربما قرأ وطالع نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار أكثر من ستين مرة، فلله دره أي همّة بلغت به قمم المجد، وأي طموح أوصله إلى منازل السُّعد.
أمّا علوم الفقه فحدث ولا حرج
فقد أتقن المذاهبَ ونظم عُقودها ونَسَجَ بُرودَها، عانقها عناق المَشغوف، وأقبلَ عليها إقبال الملهوف، مَضى على نهج جَدّه وأَبيه، وكُل إمامٍ متقنٍ مجتهدٍ نَبِيه، إلى أن أصبح غُرةً زاهرة، وشامةً ظاهرة، يفتيك بأقوال الأحناف من كتبهم كما لو أنه حَنفي، وإن خالف الصاحبان بيّن ذلك، ولا ينسى أن يقول: وشذّ زُفر، ثم يغوصُ لك في مذهب المالكية ويرتّب أدلتهم ويُحيلك على كتبهم التي ذكرت الخلاف مع تبيينه نقل ابن القاسم وقول ابن عبدالحكم وما ورد عند أشهب وابن الفرات، وبنفس السّياق يسلك معك في مذهب الشافعية والحنابلة فكأنه قرأ كتب أئمة المذاهب فاستظهرها ويُخَيّل إليّ أنّ المُغني لابن قدامة والمحلّى لابن حزم بين عينيه يختار منهما ما يشاء ويدع ما يشاء فهو في استذكار المذاهب متقدمٌ على أقرانه، منفردٌ بعصره وأوانه، ولو شئت أن أقول ما أنجبتِ اليمن مثله في عصرنا لما جانبتُ الصواب، فهو فرد نادرٌ، وحق علينا أن نذكره بأجمل المفاخرِ، وأفضلِ المآثر، لأنّهُ تجمّل بلباس العلم وتحلّى، حتى فاز بالقدحِ المُعَلّى.
بقي مواظبا في محراب الفتوى إلى أن توفي، ترقّى في سلم المعالي إلى أن أصبحَ هو العالي، فترى العامة والخاصة يقولون ماذا قال العمراني وكأنّ قوله حجة بين الأنام، فهو البحر الطامي، والغيث الهامي..
عاش متواضعا للناس، ليّنا ذا أنس وإيناس، ولرّبما يسألُ السائلَ أحيانا عن منطقته وبلده فيخبره بتفاصيل صغيرة حصلت في غابر الأزمان ويُزجيها بالأمثالِ الشعبية، والمُطارحات النّدية، لا تمل مجالسته، ولا تترك مؤانسته..
إذا ما رأتْ عيناكَ بَهجةَ نورهِ
رأتْ بدرَ تمٍ في منازل أسعدِ
إذا ما ذكرتَ الأكرمين فإنّه
هو الكوثرُ الفيّاضُ والعارضُ الندي
كان يمازحنا بقوله: أنا درستُ في الجامع وأنتم درستم في الجامعة وليس الذكر كالأنثى..
دخل القاضي العمراني البرلمان فكان لا يخشى من أحدٍ في قول الحق، وكان رئيسا للجنة المظالم، ودخل مجلس الشورى فكان عضو تقنين الشريعة قبل الوحدة، وكم نال من الأذى بسبب تدريسهِ في جوٍّ مشحونٍ بالطائفية وقصته مع السيد قاسم العزي معروفة مشتهرة في اتّهامه له وكيده عليه بحجة هدم مذهب آل البيت لكن القاضي انتصر بعزمه وإصراره متأسيا بما حصل قبله لكل علماء اليمن من أذى ومكرٍ وكيدٍ ومحن، ونالَ مانالَ مؤخرا من الأذى حينما صادرَ الحوثيون مكتبته واستولوا عليها، لكن ما ضرّه وقد خدمَ دينه، وجدد أعلام الهدى، وأخرجَ جيلا متمكنّا واعيا، فطابَ ذكره، وتضوّع نَشرُه..
رسَا فوقَ هامِ النّجمِ سامى مقامهُ
فأضْحى له بالفضلِ مرسى ومرْسَخُ
لهُ الكَلِمُ اللاتي بها السّمعُ يزدهِي
وتعنو لها شُمّ العُلى وهي شُمّخُ
شمائلُ ما للمِسكِ في الشمّ طيبها
بأنفاسِها بردُ الشّمالِ مُضَمّخُ
من أجملِ ذكرياتي معه دفتر كامل كتبهُ لي بخط يده يحتوي على العديدِ من المسائل والفتاوى هو عندي حسنة الدهر وبركة العمر، ولِورَعه في الفتيا رغم علمه الغزير يتوقّف أحيانا فقد سألته سؤالا ذات مرةٍ فقال أنا متوقف في الإجابة عنه وتكرر هذا منه ثلاثا..ومرات كثيرة يقول اسألوا هذا السؤال الدكتور الديلمي أو الدكتور زيدان أو العلامة حسن الأهدل فعليهم المعوّل، ولا يعرفُ الفضل لأهله إلا ذووه.
القاضي العمراني بقيةٌ من السلف، وعلمٌ من الخلف، عينُ الأعيان، وإنسانُ حدَقةِ بلد اليُمْنِ والإيمان، وريحانةُ روضة الفقه، وطِيبُ دوحةِ الورع والزهد والعمل، مَجالسهُ عامرة، وطُرَفه حاضرة، يَروي الطلاب من بحرِ علمهِ الواسع، ويشنّف آذانهم بفرائد فهمه الماتع، أجمعت القلوبُ على محبته، فمقره من العين السّواد، ومحله من القلب حبة الفؤاد.
القاضي العمراني عَمَرَ القلوب بعلمه فهو فَردُ عصره، وزينةُ دهره، ولو كتبَ فيه تلاميذُه المصنّفات ما أتوا على مآثره وحسبي هنا أن أشير إلى نفحاتٍ من حياته، وعبَق من سيرته..
نَشأ القاضي العمراني يتيما فقد مات والده وهو في الرابعة من العمر، فربّته أمه أحسنَ تربية واهتمّت به أفضل اهتمام وذاك هو شأن أئمة الإسلام كأحمد والشافعي ومالك، وكلّ مجتهدٍ نابغةٍ سالك، ثم أدخلته في عمر السابعة مدرسة الفُليحي فأفلحَ فيها أيّما فلاح، وقد أتقن فيها مبادئ العلوم، ثم انتقل إلى مدرسة الإصلاح فترقى في درجاتِ الصلاح _فرحم الله أمه العظيمة التي كانت وراءَه _ وقد نال فيها شهادة أرقى، وفي سنّ الرابعة عشر ولج العالَم الكبير وزاحم العلماء بالرّكب بدخوله الجامع الكبير بصنعاء، فجوّد القرآن وكان قد حفظه قبل الرابعة عشر فيما يبدو لي، وكان يتردد أيضا إلى جامع الفليحي فأتقنَ القرآن وحفظ هذه المتون وهي الأجرومية، ومُلحة الإعراب، وقطر الندى، والكافية في النحو، وقواعد الإعراب، وألفية ابن مالك ودرَس شروح هذه المتون على أكثر من عالم حتى تبحّر فيها، كما درَس أيضا مُغني اللبيب، وشرح الجوهر المكنون في البلاغة، وشرح التفتازاني، والمناهل الصافية في الصرف، ودرَس الكشاف للزمخشري، وقد تفنّن وبرع في هذه الكتب حتى أصبح متخصصا، وفي هذه الفترة التي تمتدّ إلى الخامسة والعشرين من العمر دَرَسَ أيضا نُخبة الفكر في المصطلح، وعلوم المواريث، وشرح صحيح مسلم وأبي داود والنسائي وموطّأ مالك، وسبل السلام ونيل الأوطار وشفاء الأوام، كما حفظ متن الأزهار، ودرس علم المنطق، ومتن الكافل، وشرح الغاية في الأصول، وشرح عمدة الأحكام، وأصول الأحكام، وغاية السول، وشرح الروض النضير، والبحر الزخار، وزاد المعاد، فهذه هي الكتب التي درَسها على يد مشايخه لم يدرس غيرها إلا ما كان على سبيل المذاكرة، واستعار جميع كتب رشيد رضا من مكتبة الجامع الكبير وهي خمسة وثلاثون مجلدا فأتى على آخرها، ثم فتح لنفسه المجال في التدريس فكان يُدَرّس صغار الطلبة وكان إذ ذاك في التاسعة عشر من عمره، فأتقن المتون من خلال تدريسه وتردد كثيرا على أكابر علماء صنعاء ولازم القاضي عبدالوهاب الشماحي أكبر عالم في صنعاء بل أكبر عالم في المذهب الزيدي في اليمن حينها وهذا سر من أسرار نبوغه وهو الارتباط بالأكابر فاستفاد من علمه وأدبه، كما استفاد من القاضي زبارة، والقاضي العلامة يحي الإرياني والد رئيس الجمهورية الأسبق عبدالرحمن الإرياني، ثم عُيّن مدرسا في سن الخامسة والعشرين في أول مدرسة علمية افتُتحت في صنعاء وكان هو أصغر مُدرس فيها، فدرّس ما كان قد درَسه على يد أشياخه، ثم طالعَ كتب علماءِ اليمن ابتداء من مصنّف عبدالرزاق الصنعاني، ومرورا بكتب العمراني صاحب البيان، ونشوان، والمهدي، وابن الوزير، والجلال، والمَقبلي، وابن الأمير، والشّوكاني، بَيدَ أنه أُعجِب بالشوكاني كونه شيخ جده ولقرب إسناده منه ولكثرة مؤلفاته وتسلسلها فأتقن ما فيها وتخصص في تدريسها والتعليق عليها بنظرٍ نقّاد، وخاطرٍ وقّاد، وبقيت معه يدرسها للطلاب ويشرحها ابتداء من فتح القدير والدراري وانتهاء بأدب الطلب والسيل الجرار ونيل الأوطار حتى أُطلق عليه لقب مجدد علم الشوكاني، كما أنه طالع كثيرا من الكتب المعاصرة ككتاب فقه السنة لسيد سابق وقد قام بشرحه والتعليق عليه في جامع الزبيري وقد جمع تلك الترجيحات مع تهذيب فقه السنة الأستاذ البرلماني والداعية الموفق فؤاد دحابة وهو كتاب مطبوع متداول، وجزى الله خيرا الدكتور عبدالرقيب عباد في إنشائه مؤسسة العمراني الصرح العلمي الشامخ الذي يعد امتدادا لمسيرة علمية مباركة، وقد كان القاضي يدرّس في المعهد العالي للقضاء وفي جامعة الإيمان وفي مسجده ولم توقفه التسعون عن التّدريسِ والفتوى، ولازال مواظبا على مجلس الفتوى قبل الظهر بساعتين في مسجده إلى أن دَنَت منيّته..
يَقضي الطلاب بجانبه أمتع الأوقات فتراهم يأتون من مناطقَ بعيدة وأحياء مترامية لحضور درسه وكأنهم يقصدون نزهة جميلة_ وما أجمل متنزهات القلوب_ كما قال الشاعر:
يا صاحِ إن رُمتَ المسير لمنزهٍ
فاقصد بسيركَ نحو روضةِ دُمّرِ
فهواؤها مُحي الجَنَانَ وأرضها
مثلُ الجِنانِ وماؤها كالكوثرِ
فمجالسهُ روضةُ القلوب، ونزهة النفوس، وحياة الأرواح…
والقاضي العمراني تَبوَّأَ من العُلا أسنى الغُرَف، وتأثّل مجدُهُ في بحبوحةِ الشّرف، فهو إمام الكُل، ولو حصرَ اللسانُ أوصافه لكَل، تضوّعت مسكا بعبيرهِ البطاح، وانتشر نورهُ انتشارَ الصباح..
إمامٌ قد سما هامَ الثريا
ونالَ من العلا أعلى القداحِ
إلى قصبِ المكارمِ حازَ سبقا
وجارَى الغيثَ في بذلِ السماحِ
وبحرٌ نهرُ موردهِ فراتٌ
جَرتْ بعبابهِ سفنُ النجاحِ
يَفِدُ عليه كبار علماء العالم الإسلامي لينالوا شرف مجالسته وإجازته ومدارسته، يفتح للناسِ قلبه وبيته وكم زرته مراتٍ في بيته فرأيت من توافدِ الناس عليه عجبا فهم لا ينفكّون عنه وهو لا يَصبر عنهم، يَسُره الساعات الطوال يَكتب الأجوبة لهم، ويقدر لهم أسفارهم البعيدة ومِحَنَهم الشديدة، فهذا يقول يا شيخ جئتك من رداع، وذاك يقول جئتك من حضرموت، وذاك يقول وأنا جئتك من تهامة، وآخر من إب وصعدة وعدن، وهكذا يُشكّلون بجانبهِ لوحةَ طيفٍ من أرجاء اليمن، يسألونه في النوازل والمُعضلات ولربما في أحيان كثيرة ما جاءوا إليه إلا لإرشادٍ في مشكلة من المشكلات، وكم سمعتُ من هذا عجبا فالفتوى سيفتيهم أقربُ شيخ لكن يستئنسون برأي القاضي لعلهم يرشدون.
وقد استمر يفتي في إذاعة صنعاء أكثر من خمسين سنة ومفتيا للديار اليمنية قرابة أربعين سنة، وموئلا لطلبة العلم الذين يقصدون مسجده وحلقات العلم بين يديه قرابة ستين سنة.
أكرِم به حبرا إماما عالما
تُطوى القفار لعلمهِ المنشور
اللهم إنّه قَدم عليكَ فأكرم وِفادته، وتغمّده بواسع رحمتك، واسكب عليه شآبيب مغفرتك جزاء ما نافح وكافح عن دينك وأجر ما علّم ودرّس شريعة نبيك.