مقالاتمقالات مختارة

البُوطِي؛ المواقف السّياسيّة إلى ما قبلَ انقلابِ حافظِ الأسَد

البُوطِي؛ المواقف السّياسيّة إلى ما قبلَ انقلابِ حافظِ الأسَد

بقلم محمد خير موسى

  • موقف البوطي من جمال عبد النّاصر

في مقابلةٍ تلفزيونيّةٍ يقول الدّكتور البوطي مفصّلًا القول في موقفه من الرّئيس جمال عبد النّاصر؛ فيقسّم تطوّرات موقفه من عبد النّاصر إلى ثلاثِ مراحل:

المرحلة الأولى: الوثوقُ التّامّ

وقد امتدّت هذه المرحلة من عام 1952م تاريخ حدوث ما يعرف بثورة يوليو إلى عام 1954م تاريخ حادثة المنشيّة وبداية الصّدام مع الإسلاميين.

فيقول عن هذه المرحلة: “جمال عبد الناصر في أوّل عهد الثورة لم يكن هو الذي يظهر على السّاحة؛ بل الذي كان يظهر على السّاحة هو محمد نجيب، ومحمد نجيب كان معروفًا في مصر بتديّنه ولطافته وشعبيّته، فكان هو الوجه البارز  للثّورة، ومن ثَمّ كنتُ أتصوّر أن هذه الثّورة تتمتع بزادٍ روحانيّ دينيّ إسلاميّ لا أدلَّ على ذلك من هذا الشّخص الذي يقودها وهو محمد نجيب ثم بدأت شخصيّة جمال عبد الناصر تظهر شيئًا فشيئًا وبدأت شخصيّة محمد نجيب تتضاءل وتختفي أيضًا شيئًا فشيئًا
في هذه الفترة كنتُ أتعقّب خطابات عبد الناصر قبل عهد الوحدة، الحقيقة أذكر أنّه ألقى جملةً من الخطب التي دلّت على أنّ له توجهًّا إسلاميًّا واعيًا وليس توجهًا إسلاميًا سطحيًا كشأن بعض السّاسة الذين يريدون أن يوظّفوا الإسلام لمصلحهتم.

وأذكرُ أنّه في لقاء مع صحفيٍّ هنديّ، لقاءٍ طويل نشرته الجرائد المصرية قال فيما قال لهذا الصحفي الهندي وقد سأله عن الإسلام:

(نحن مسلمون ولكن أريد أن أقول لك: إنّ الإسلام ليس مجرّد عبادة في المساجد، ليسَ مجرّد صلاة وحجٍّ وصيامٍ وزكاة، الإسلام حُكم، وشِرعة، والمسلمون ينبغي أن يتمثّل الإسلام في الشريعة التي ينفّذونها ويطبّقونها)

هذا الكلام شدّني إليه شدًّا كبيرًا، يعني لا أذكر أنّ غيره من السياسيين تحدّث عن الإسلام بهذه الطّريقة، كثيرونَ هم الذين يصطبغون بالإسلام وهم ساسة في بلادنا آنذاك، لكن كان محمد نجيب شيئًا فشيئًا يختفي ظلّه ويظهر على الساحة أكثر فأكثر جمال عبد الناصر، ولم تكن هنالك أيّة مشاكل بينه وبين الإسلاميين، وهذا الكلام الذي تحدّث فيه عن الإسلام دلّ على أنّ الرّجل نشأ نشأةً إسلاميّة، وأنه يفهم الإسلام حُكمًا ولا يفهمه فقط شكلًا ومظاهر عبادة ونحو ذلك ثمّ إن هذا الكلام تكرَّر في أكثر من مناسبة، وقد شدّني إليه هذا التصوّر، واقتنعت بأنّ هذا الإنسان وإخوانه يتّخذون من الثّورة المصرية خادمًا للإسلام لكن بطريقةٍ سليمة”

المرحلة الثّانيّة: الحيرة واهتزاز الثّقة

وقد بدأت هذه المرحلة مع حادثةِ المنشيّة وما أعقبها من حوادث، ويقول الدّكتور البوطي مجلّيًا هذه المرحلة بقوله:

 “وفيما بعد قام التّصادم بينه وبين الإسلاميين بالضبط مع سيد قطب، وكنت آنذاك في مصر؛ بدأت الصورة تهتز في نفسي، ولا أقول تراجعتُ كليًّا عن صورة جمال عبد الناصر في ذهني ولكن بدأتُ أرتاب، السّبب ما قالوا: إنّ محمود عبد اللطيف إنّه ترصّد للسّيد الرئيس وفي موقف من المواقف أطلق عليه النار ثم إنّه شاء الباري عزّ وجلّ أن يكلأه ولم يصب بأذى؛ وأخذت أتصوّر من البادئ، إذا كان الإسلاميّون هم البادئون فلعلّ الرّجل على حقٍّ فيما فعل، وفي المقابل فيمَ بدأ هؤلاء النّاس؟ فلولا أنّهم يعلمون أنّ هذا الرّجل يخفي شيئًا غير الظّاهر الذي يتبيّن لنا لما أقدموا على ذلك؛ الخلاصة أخذتُ أتردّد في هذه الفترة”

المرحلة الثّالثة: تراجع الثّقة

يقول الدّكتور البوطي:

“لكن لمّا اشتد الخناق على الإسلاميين واشتد الخناق على النّشاط الإسلامي أيضًا تراجعت الثقة في نفسي”
ثمّ يقول: ” كما أنه أطربني وبعث النّشوة في كياني بأحاديث وخطب وأحاديث صحفية عندما كان يتحدث عن أهمية التّطبيق الإسلامي حكمًا لكنّه فيما بعد أكاد أقولُ انقلب انقلابًا كبيرًا وأذكر أنّه أيضًا في خطاب آخر قال: (انظر نحن في أيّ عصرٍ نعيش ثمّ نسمع ما يقال للذّكر مثل حظّ الانثيين؛ كيف يمكن أن أجمع بين عصرنا الذي نعيشُ فيه و الرّؤية التي تقول للذكر مثل حظّ الأنثيين) وكلام آخر مثل هذا القبيل، القضاءُ على محمد نجيب وطيّ نشاطه والأمور التي صاحبت ذلك؛ كلّ هذا لا أقول جعلني أنا بل جعل الشّارع المصري يكتشف أو يفاجَأ بهويّة جديدةٍ لشخص عبد الناصر”

  • تعليقات على موقف البوطي من جمال عبد النّاصر

من الواضح أنّ موقف الدّكتور البوطي من عبد النّاصر مرّ بثلاثِ مراحل مرّ بها كثيرون غيره من العلماء والدّعاة حينَها، لكنّ اللّافت في هذا الموقف الذي أعلنه الدّكتور البوطي وتميّز به عن غيره لا سيما من حالة اهتزاز الثّقة عقب حادثة المنشيّة التي كان من نتائجها إعدام العديد من رموز الإخوان المسلمين وبعضهم علماء وفقهاء وفي مقدمتهم الفقيه الدّستوري عبد القادر عودة، والشيخ محمد فرغلي عام 1954م قد أتبعه الدّكتور البوطي بموقف فيه تمجيدٌ كبيرٌ لجمال عبد النّاصر حين كان رئيسًا في زمن الوحدة.

في كتابه “في سبيل الله والحق” الذي صدر عام 1958م في زمن الوحدة بين سوريا ومصر التي كان يترأسها جمال عبد النّاصر؛ ويضمّ الكتاب عددًا من المقالات المنشورة في الصّحف آنذاك ومقالاتٍ أخرى كُتبت خصيصًا لصالح الكتاب يقول الدّكتور البوطي في مقدّمة الكتاب:

“ولستُ أشكّ في أنّ هذه الوحدة قد بدأت تحيي دفينَ تاريخنَا الغابر، الذي سادَ معظم العالم وحمل إليه رسالةَ السّماء؛ رسالةَ العرب إلى العالم، ولستُ أشكّ في أنّ قائدَ هذه الوحدة يقدّرُ هذه الرّسالة خيرَ تقدير، ويعرفُ مدى خطورتها أدقّ ما تكون المعرفة، ويسيرُ نحو تحقيقِها في أثبت خطى وأقوَم طريق والله المستعان وعليه الاتّكال، والله أكبر والعزّة لرسوله وللمؤمنين”

وبين ثنايا الكتاب يطلقُ بشكل لا لبس فيه توصيفات الإيمان والصّدق على جمال عبد النّاصر، ففي مقالةٍ عنوانها “رسالتنا والحريّة” يقول الدّكتور البوطي:

“ولكنّ الرّسالة على كلّ حالٍ بدأت اليوم تعود، والمفهوم التّاريخيّ لقوميّتنا العربيّة هو الذي أخذ ينتصر، لقد أخذ كلّ ذلك يتجلّى ويفرضُ نفسه على يد قائدنا المؤمن العربيّ الصّادق جمال عبد النّاصر”

  • موقف البوطي من حسين الشّافعي

حسين الشّافعي أحد أبرز الضبّاط الأحرار، ورجالات جمال عبد النّاصر، وتولّى العديد من المسؤوليّات والمناصب كان آخرها منصب نائب رئيس الجمهورية في عهد عبد الناصر، وتوفي عام 2005م

ولكنّ أهمّ ما يعلق في الذّاكرة عن حسين الشّافعي أنّه كان عضوًا رئيسًا في المحكمة التي حكمت على الفقيه عبد القادر عودة والشّيخ محمد فرغلي وبقيّة رموز الإخوان بالإعدام عقب حادثة المنشيّة، كما أنّه كان عضوًا رئيسًا في المحكمة التي حكمت على سيّد قطب بالإعدام.

وفي المقابلة التلفزيونيّة التي تحدّث فيها الدّكتور البوطي عن تطوّر موقفه من جمال عبد النّاصر ختمها بالقول:

“على الرّغم من أنّني إلى الآن أقول: إخوانه كانَ فيهم مَن هم مخلصون للإسلام مثل حسين الشافعي رحمه الله تعالى”

ومن اللّافت أن يصف الدّكتور البوطي حسين الشّافعي بالإخلاص للإسلام على الرّغم من أن حسين الشّافعي بقي إلى آخر حياته يدافع عن قراره بإعدام عبد القادر عودة وسيّد قطب وبقيّة رموز الإخوان ويعدّه قرارًا صائبًا رافضًا أيّة تخطئة له في هذا، وقد ظهر موقفه هذا علانيةً في العديد من المقابلات أبرزها وأشهرها مقابلاته في برنامج شاهد على العصر في قناة الجزيرة.

ولعلّ هذا الموقف الذي تبنّاه الدّكتور البوطي تجاه حسين الشّافعي هو سلوكه الدّينيّ وارتياده المساجد والمسحة الصّوفيّة التي أضفاها على نفسه وحياته، وقد كان الدّكتور البوطي تطربُه هذه المسحة ويعتمدها مرتكزًا للحكم دون النّظر إلى القضايا الأخرى التي كان يراها مجرّد تفاصيل.

  • موقف البوطي من حوادث الجامع الأموي عام 1965م وما سبقها في جامع المرابط

بعد أحداث جامع السّلطان في حماة في نيسان عام 1964م، وقصفه بالدّبابات على المعتصمين فيه بقرار مباشر من أمين الحافظ رئيس سوريا آنذاك واستشهاد أكثر من خمسين من المعتصمين بداخله وتدمير مئذنته وقبّته؛ شهدت سوريا حالة من الاحتقان الشّعبي الواسع.

سرى الاحتقان إلى دمشق فتجلّى في بعض الاحتفالات والموالد التي كان ينظّمها القائمون على إدارة جامع المرابط في حيّ المهاجرين الدّمشقيّ وهم “الدكتور أمين المصري والأستاذ جودت سعيد والأستاذ محمّد القاسمي”

ومن هذه الاحتفالات دعوة المفكر الإسلامي أبو الحسن النّدوي، وبعدها احتفال بالمولد النبوي هاجم فيه كلّ من الأستاذ جودت سعيد والدّكتور أمين المصري السلطة البعثيّة بشدة.

واستمرّت الفعاليّات التي اتّسمت بالنفَس الثّوري في جامع المرابط، إلى أن تفجّر هذا الاحتقان في دمشق على إثر إشاعةٍ سرت عن اعتقال الدّكتور أمين المصري الأستاذ في كليّة الشريعة على إثر خطبة جمعة في جامع المرابط آنذاك؛ فتداعى النّاس لا سيما شباب كلّية الشريعة وشباب المساجد والجماعات الدّعويّة المختلفة إلى الاعتصام في الجامع الأموي للمطالبة بالإفراج عن الدّكتور أمين المصري، وكانت الدّعوات شبابيّة عفويّة وليست هناك جهةٌ معلنة أو واضحة خلف الدّعوة إلى هذا الاعتصام.

وكان هذا الاعتصام في كانون الثّاني من عام 1965م وموافقًا للرابع والعشرين من شهر رمضان في تلكم السّنة، وقد استثمر الاعتصام أيضًا الغاضبون من قرارات التّأميم التي أعلنتها حكومة يوسف زعيّن؛ فأخذ الاعتصام منحى الدّعوة إلى عصيانٍ مدنيّ شامل

كان واضحًا من مشهد الاعتصام في بدايته عدم الترتيب والتنظيم، فتقدّم لإدارة الاعتصام ولملمة شتاته وضبط الفوضى فيه الشّيخ عبد الفتّاح السيّد وهو من أبرز تلاميذ الشّيخ عبد الكريم الرفاعي ومن أعمدة جماعة زيد، وقد شارك معه من أساتذة الجماعة في إدارة الاعتصام الشّيخ عبد القادر قويدر والشّيخ أبو النّور قرة علي، وكان الشّيخ عبد الفتّاح هو من يتفاوض مع وزير الدّاخليّة محمّد خير البدوي عبر هاتف الجامع الأموي آنذاك، ولكنّ تقدّم الشّيخ عبد الفتّاح السيّد كان قرارًا ذاتيًّا اقتضاه الموقف دون تنسيق مع إدارة الجماعة.

ودون سابق إنذار اقتحم الضابط البعثيّ الدرزيّ الشّهير سليم حاطوم بالدّبابات والمصفّحات صحن الجامع الأموي وبدأ إطلاق النّار الكثيف من مدافع البازوكا على المعتصمين ممّا أدّى إلى استشهاد العشرات واعتقل بعد ذلك المئات ومن بين المعتقلين مدير الاعتصام الشّيخ عبد الفتّاح السيّد وتمّ اقتيادهم إلى سجن المزّة العسكري.

لم يعلن الدّكتور البوطي حينها أيّ موقفٍ داعمٍ أو مؤيّدٍ أو رافضٍ لاعتصامات جامع السّلطان في حماة أو الجامع الأموي في دمشق.

كما أنّه لم يعلن أيّ موقفٍ احتجاجيٍّ أو رافضٍ للمجازر التي أودت بعشرات الشّهداء في المسجدين في حماة ودمشق آنذاك، بل يشهد طلّابه الذين تمّ اعتقالُهم أنّه لم يبدِ في ذلك الوقت أيّ موقفٍ كان إيجابيًّا أو سلبيًّا سواء من المعتصمين المحتجّين أو من السّلطات المقتحمة والقاتلة.

ولكنّه بيّن موقفه من هذه الاحتجاجات الشّعبيّة لا سيما التي جرت في جامع المرابط واعتصام الجامع الأموي بعد وقوعها بثلاثين سنةً في كتابه “هذا والدي” الذي صدر سنة 1995م حيث يتحدّث فيه عن لقاءٍ دوريّ كان يجمع كلّا من والده الشّيخ ملّا رمضان والشّيخ حسن حبنّكة والشّيخ عبد الكريم الرّفاعي والدّكتور أمين المصري، وقد انفضّ هذا اللّقاء بعد سفر الدّكتور أمين المصري الذي غادر سوريا إلى السّعوديّة بعد اعتصام الأموي بفترة وجيزة جدًّا؛ يقول الدّكتور البوطي:

“كان من أهمّ الأسباب التي قضت على هذا التّلاقي العلمي الدّوري؛ بعض الهياجات الغوغائيّة التي تبرز فجأةً كعملٍ ثوريّ جادّ وخارق، ثمّ ما يلبث أن يضمحلّ زاهقًا ليودي ويزهق معه تلك الجهود التّعاونيّة الرّاسخة والمفيدة.

كان أوّل هذه التّصرّفات الهياجيّة؛ سلسلة حفلات هائجة صاخبة تمّت في جامع المرابط بالمهاجرين؛ لا تدري كيف نُظّمت وكيف تمّ التّداعي إليها، ثمّ أعقبَها لقاءٌ غوغائيّ كبير في جامع الأمويّ، تداعى له عامّة النّاس والسذّج الأغرار من الشّباب، بدافع من التّحميس والتّهييج، دون أن يستبينَ أحدٌ اليدَ المحرّكة أو الفكر المنظّم.

وهنا أيضًا لستُ بصدد الحديث عمّا أفرزَته سلسلة المهرجانات الخطابيّة الثّوريّة في المرابط، أو عمّا أثمرته الهياجات العاطفيّة التي تلاقت في الجامع الأمويّ، ولكنّ المهمّ هو أن ألفتَ النّظرَ إلى أنّ تلك اللّقاءات العلميّة الدّوريّة الرّاسخة والمفيدة ذهبت ككثيرٍ من الجهود الأخرى ضحيّةَ تلك الهياجات الغوغائيّة التي استُدرِجَ إليها ولا ريب بعض العلماء الذين أدركَتهم الصّحوة المريرة فيما بعد دونَ أن تفيدَهم شيئًا”

بعدَ حوادث الأموي ببضع سنواتٍ تسلّم حافظ الأسد زمام الحكم بعد انقلابه على الرفاق البعثيّين؛ لتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ كان للدّكتور البوطي فيها حضورٌ لافت وآثارٌ عميقة.

(المصدر: سوريا تي في)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى