بقلم د. أشرف دوّابة
نشرت رويترز في 13 سبتمبر/ أيلول 2017 خبرا مفاده “تراجع العملة الرقمية “بيتكوين” (Bitcoin) بنسبة تزيد على 10% على خلفية بيع المستثمرين لها بعد تحذير جيمي ديمون الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورجان من أن العملة الإلكترونية “بيتكوين” عبارة عن خدعة. وأشارت رويترز الى أن بيتكوين، والتي تزال العملة الرقمية الأكبر، شهدت مكاسب كبيرة في الأشهر الأخيرة لتصل إلى مستوى قياسي أقل بقليل من 5000 دولار في بداية سبتمبر/ أيلول بعد زيادة أكثر من خمسة أضعاف في السعر منذ بداية العام”، وقد استمر سعر البيتكوين في الانخفاض ليصل حاليا لنحو 3930 دولارا.
وقد جاء هذا الخبر ليطرح مزيدا من التساؤلات حول العملة الرقمية “بيتكوين” من حيث الرؤية الاقتصادية والشرعية لها.
بداية فإن البيتكوين كعملة افتراضية تتكون من عنوان رقمي مربوط بمحفظة اليكترونية وكل بيتكوين مقسم لمائة مليون وحدة تسمى ساتوشي ، وعند شراء لسلعة ببيتكوين واحد فإن البيتكوين يتحول بضغطة زر إلى محفظة البائع التي تمثل تطبيقا إليكترونيا. وإذا أراد شخص ما تحويل قيمة معينة من البيتكوين إلى شخص آخر فإنه يستخدم ما يسمى بالتوقيع الرقمي الذي يحتوي على رسالة التحويل، والرقم الخاص بالبيتكوين، والعنوان المعلن للشخص الذي سيستلم البيتكوين، وعندما يتم تحويل بيتكوين إلى محفظة أخرى فإن التحويل يذهب إلى شبكة البيتكوين ويدخل في عملية التأكد ويتم حفظه في سلسلة البلوكات (Blockchain).
وقد ظهر البيتكوين في بحث عن العملات المشفرة أصدره تقني مجهول لقب نفسه بـساتوشي ناكاموتي ، وتم طرح البيتكوين للتداول في 2009 بقيمة 0.0001$ وارتفع في منتصف عام 2011 إلى 35$ ووصل في بداية 2017 إلى 1000$ ثم تصاعد البيتكوين بشكل سريع حتى وصل أقل بقليل من 5000 دولار في بداية سبتمبر الحالي.
ومن المتعارف عليه اقتصاديا أن البشرية عرفت من النظم النقدية ما هو سلعي وما هو ائتماني. وقد بدأت النظم النقدية السلعية بالمقايضة فالنقود السلعية فالنقود المعدنية ثم النقود النائبة التي كانت تنوب عن الذهب والفضة في التبادل وتصرف بهما عند الطلب. أما النظم النقدية الإئتمانية فهي نظم لا تستمد فيها النقود قيمتها من ذاتها، ولكن من قبول الأفراد في معاملاتهم لها. لذا فطبيعة المادة المصنوعة منها النقود الائتمانية ليس لها اعتبار، والسمة الأساسية لها هي انقطاع صلتها كنقد عن قيمتها السلعية ، فهي أقل منها بكثير. والنقود الائتمانية لا اعتراض عليها ابتداء في الإسلام ما دامت تتسم باحتفاظها بالقوة الشرائية ولا تستخدم مصدرا للإيراد.
إن نظرة الإسلام للنقود بصفة عامة تتفق مع ما جاء في تعريفها الاقتصادي الذي يركز فيه الاقتصاديون على وظائف النقود متجاوزين تعريفها بسلطة الإصدار أو المكون الذاتي لها، حيث تعرف النقود بأنها: أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل، ويصلح في الوقت ذاته مقياسا للقيم وحفظ الثروة وتسوية الديون والالتزامات. وقد فطن العديد من الفقهاء المسلمين لوظائف النقود الأساسية من كونها مقياسا للقيم ، ووسيطا للتبادل، ومستودعا للقيمة ، ومعيارا للمدفوعات الآجلة قبل أن يهتدي إليها الفكر الاقتصادي التقليدي ، وتناولوها في كتبهم بالبيان والتوضيح ومنهم الإمام الغزالي والكاساني وابن الهمام وابن العربي وابن تيمية وابن القيم وابن خلدون وغيرهم.
لذا فإن الطبيعة السلعية للنقود من كونها ذهبا أو ورقا أو خلاف ذلك ليست محل اعتبار ما دامت تؤدي وظائفها بصورة شرعية، وقد هم الخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- باتخاذ الدراهم من جلود الإبل، وما منعه من ذلك إلا خشيته على البعير من الانقراض.
وها هو ابن تيمية يعكس المنظور الإسلامي للنقود بقوله: “وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها. ولهذا كانت أثمانا بخلاف سائر الأموال فإن المقصود الانتفاع بها نفسها فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت”.. فالعبرة شرعا بقيام النقود بوظائفها بأن يتاجر بها باعتبارها وسيطا للتبادل لا المتاجرة فيها وتحويلها إلى سلعة والخروج بها عن وظائفها.
وبالنظر إلى عملة البيتكوين كعملة افتراضية نجد أن هناك غرر وجهالة بمن يصدرها ومن ثم بالجهة التي تضمن إصدارها، كما أنها تفتقد للقبول العام عالميا باعتبارها عملة عالمية ، وغلبت عليها المضاربات، فأصبح تحرك سعرها يتسم بالتذبذب والمغالاة ، وتحولت إلى كونها مصدرا للإيراد ووسيلة لغسل الأموال، وأصبح من الصعوبة اعتبارها مستودعا للقيمة ، ومعيارا للمدفوعات الآجلة، وهو ما لا يتفق مع القواعد والمقاصد الاقتصادية الإسلامية.
لذا فإن قبول عملة البيتكوين إسلاميا – حتى لو تحققت في تداولها قواعد التعامل الشرعي بالتماثل والتقابض ولو حكميا عند اتحاد الجنس، والتقابض ولو حكميا دون التماثل عند اختلاف الجنس- مرهونا برفع الغرر والجهالة عنها من خلال معرفة الجهة التي تصدرها وقدرتها على ضمان الإصدار، وكذلك تحقيق القبول العالمي لها ، وتوافر عوامل الأمان فيها بصورة تمنع تبخرها من حسابات مستخدميها بحواسبهم الشخصية وضياع حقوقهم، والمتاجرة بها لا فيها، وهو ما لا يتوافر في وضعها الحالي بصورة تجعلها خدعة كما وصفها جيمي ديمون الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورجان. والله تعالى أعلم.
(المصدر: رابطة علماء أهل السنة)