البيان القرآني بين عروج المعاني والقصور الإنساني
بقلم عبدالله الهتاري
البيان القرآني ونشأته في علم التفسير : لقد تفجرت الدراسات البيانية والبلاغية من نبع القرآن الذي لاتنقضي عجائبه، وكتبت كتب إعجاز القرآن منذ القرن الثالث الهجري بعد أن ضعف اللسان العربي وبدأ التشكيك يدب من المغرضين، وأراد جهابذة الإسلام وحملة البيان الوقوف على مكامن الإعجاز والتحدي الذي تنزل به القرآن؛ فكانت كتب الإعجاز.
ثم ضرب شيخ البلاغة الإمام عبد القاهر الجرجاني بمعول فكره، وثاقب نظره، الذي هداه إليه الرحمن، فأعمق النظر ودققه، وأنعم الفكر وعمقه؛ فتفجر علم البلاغة في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فكانت البلاغة علما شامخا نبتت جذوره من أعماق بيان القرآن.
فتأثر علماء التفسير ممن جاء بعده بنظرية النظم التي أقام بنيانها وآتت أكلها، فكان العلماء ينهلون من منهلها العذب النمير في التفسير؛ للوقوف على أسرار التعبير في كلام الله – عز وجل- ابتداء من الإمام الزمخشري وكتابه الكشاف، الذي كشف فيه عن دقائق التعبير وأسرار البيان، متأثرا في ذلك تمام التأثير بشيخ البلاغة الإمام الجرجاني.
وكذلك هرع المفسرون يتأثرون ويفيد كابر عن كابر في ذلك، فأبحر أبو حيان في بحره المحيط، وفتح الرازي مفاتيح غيب التأويل في تفسيره الكبير، وأرشد أبو السعود العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، واقتبس البيضاوي من أنوار التنزيل أسرار التأويل، واستلهم الألوسي روح المعاني من محكم التنزيل، ونهل جهابذة التفسير من معين البيان الحكيم، حتى أقبل خاتمة المحققين البيانيين ابن عاشور؛ فحرر في تحريره المعنى السديد، ونور العقل الجديد في تفسيره البياني العميق، الذي أقامه على معرفة دقائق الإعجاز والبيان في كتاب الله، كما أو ضح ذلك في مقدماته التي قدم بها تفسيره.
وحلق قطب بنظراته الفكرية البيانية الثاقبة، وسار ركب المفسرين كابرا عن كابر في هذا المقام.
وقبلهم جميعا كان شيخ المفسرين الإمام الطبري الذي سمى تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) فأودع فيه نظرات بيانية عميقة الفهم في كتاب الله عز وجل. وجعل الوقوف على دقائق أسرار البيان من جهوده في معرفة تأويل القرآن، وقد كتبت الدراسات العلمية حول تفسير شيخ المفسرين رحمه الله، وجهوده البيانية العميقة للوصول للمعنى القرآني مستخدما اللغة ودقائقها، من ذلك (دراسة الطبري للمعنى من خلال تفسيره جامع البيان) للدكتور محمد المالكي و ( دقائق لغة القرآن في تفسير ابن جرير الطبري) د عبدالرحمن عميرة .
“حتى ترجيحاته المختلفة قامت على نظرات أدبية ولُغوية وعلمية قيِّمة، فوق ما جمع فيه من الروايات الأثرية المتكاثرة”. كما ذكر ذلك الدكتور الذهبي في ( التفسير والمفسرون)
ووضح ذلك مالك بو عمرة في: (البلاغة ووظيفتها الترجيحية بين المعانى فى تفسير ابن جرير الطبرى) لذلك اعتنى شيخ العربية محمود شاكر بتحقيق تفسير الطبري؛ لما وجد فيه من عمق الفهم ودقائق الاستنباط للمعنى، وألمح في حواشيه على تحقيقه فيه.
والذي يبدو، أن تفسير الإمام الطبري الذي بين أيدينا، هو مختصر لتفسير كبير عظيم كان الإمام ابن جرير ينوي القيام بإملائه على طلابه، فاستكثروا ذلك؛ فجاء مختصرا، وهذا ما يفسر لنا قلة الإشارة- في بعض مواضعه – إلى الجوانب البلاغية، ونكات البيان.
البيان القرآني ودراسات آيات المتشابه اللفظي
و أشرقت دراسات آيات المتشابه اللفظي في معجز البيان القرآني، كذلك منطلقة من التحقيق في أسرار البيان، ودقائقه في متشابهه؛ ليدفعوا بذلك شبه المبطلين من المشككين والطاعنين في كتاب الله وزعمهم الاضطراب والتكرار والإشكال في محكم بيانه، فلمعت درة التنزيل للخطيب الإسكافي، وبرز البرهان في البرهان لتاج القراء الكرماني، وملاك التأويل لابن الزبير الغرناطي، وهكذا امتدت كوكبة العلماء البيانيين؛ ليكشفوا عن بلاغة القرآن وإحكام بيانه وإعجازه.
ولكي يتربَّع المفسر على تاجِ حِرفة الإبداع؛ لابد له من زادٍ لغوي وثيق، ومِحراث بلاغيّ مكين، حتى تشرئبَ سنابل البيان بروح اللغة، وهي طاهرة القصد، عفيفة المرمى، عطرة المعاني؛فيرتقي البيان إلى تفسير معجز البيان!
ولقد كان العرب من الصحابة الكرام قبل ذلك، والسلف الصالح العظام يدركون معاني القرآن بسليقتهم اللغوية؛ وبلاغتهم الفطرية؛ فيفهمون من عمق معانيه، ودقائق إعجازه، ما نشأت عليه فطرتهم اللغوية السليمة البليغة في البيان، ولقد كانت بلاغتهم الفطرية في ذلك منقطعة النظير، فنشأ جيل قرآني فريد لامثيل له، تلقى محكم البيان بفطرة البيان، وفطرة الإنسان معا، فخالط القرآن أرواحهم، ووصل تأثيره إلى شغاف قوبهم، إذ فهموه وعقلوه وحرك فيهم مالم يحرك في الأجيال المتعاقبة كلها، فكان الواحد يرخي السمع لبعض آيات محكمه؛ فيغيره إنسانا آخر يتحرك بالقرآن فهما وتنزيلا في واقع الحال، وهذا أمر تتصاغر دونه شوامخ قمم الجبال!
وسر ذلك أنهم عقلوا البيان بفطرة البيان، وهو ما قصرت دونه البلاغة الذوقية في مرحلة لاحقة في الأجيال المتعاقبة، ثم البلاغة التقعيدية التعليمية بعد ذلك؛ لذلك ففهم الجيل الأول من الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم جميعا- لبيان القرآن، حجة على من جاء بعدهم وبرهان.
ثم ضعفت السليقة اللغوية، وداخلها دخن المخالطة مع غير العرب في زمن الفتوحات، وما بعدها؛ فضعف اللسان وضعف الفهم له؛ تبعا لذلك، فكان لابد -والحالة هذه- من تعلم اللسان، وضبط فهمه، والتعمق في معرفة أسرار اللغة، ودقائق تعبير القرآن العظبم؛ لفهم إعجازه ونظمه، ودلالات بيانه.
فنشأت لذلك علوم اللغة والبلاغة، وكان الغرض، منذ نشأتها الأولى؛ فهم معاني القرآن، وتراكيبه وأساليبه، ولم يكن الداعي لذلك- فقط- شيوع اللحن كما يقال.
البيان القرآني وطرق الاستنباط في علم الأصول
بل إن علماء الأصول في الفقه كذلك، دققوا الأساليب البيانية؛ وأعمقوا النظر فيها؛ لمعرفة طرق الاستنباط من النصوص الشرعية، بواسطة اللغة وأسرار البيان العربي في فهم آيات القرآن؛ مستنبطين الحكم الشرعي من المنطوق والمفهوم، من خلال فهم دلالات أساليبه، وبيانه على الحكم الشرعي الحكيم.
إذ لا يمكن استنباط الحكم الشرعي إلا من فهم عمق الدلالة في النص المعجز؛ لأن هناكَ مناطقَ مشتركةً يجلسُ فيها الفقهاء، والمفسرون، والبلاغيونَ، وبينهم محبرةٌ واحدةٌ يغمسون فيها أقلامهم.
فإنك تجد في قوله تعالى : ﴿فَإِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ)
النصب في (ضربَ) يشير إلى الجملة الفعلية الدالة على التجدد والحدوث (فاضربوا الرقابَ ضربا) وهو حكم طارئ حادث موقوت، متجدد بتجدد الملاقاة في حالة مخصوصة، في المعركة والنزال، واشتباك القتال، وليس حكما ثابتا لازما مستمرا في كل ملاقاة عند كل حال، وإلا لضربت كل الرقاب، وارتفع عن العقل الحجاب!
وهنا يبرز الفارق العميق بين دلالة النصب، و دلالة الرفع لو كان البيان (فضربُ الرقاب) أي: (فلكم ضربُ الرقاب)؛ لدلالة الجملة الاسمية على الثبوت والاستمرار، كاستمرار الجهل بدلالة البيان، و دقائق القرآن.
وإذا كانت هذه المباحث لاتعد من صلب التفسير، لمن يشتغل بالتفسير ومعرفة معانيه؛ لاستنباط الحكم الشرعي فيه، أو الدلالة القرآنية في توجيهاته، أو البصائر الربانية في هداياته، أو الدلالة الوعظية و التربوية من بيانه؛ فماهو صلب التفسير حينئذ؟!
نعم قد تختلف اهتمامات المفسرين؛ نظرا لاختلاف فهوماتهم، وعمق اختصاصهم؛ فنشأ التفسير الفقهي، الذي يعنى باستتباط الأحكام وتفسيرها، والتفسير اللغوي والبلاغي البياني، الذي يعنى بالوقوف على دقائق الإعجاز اللغوي ومظاهره، والتفسير الوعظي التربوي، الذي يعنى بهدايات القرآن الروحية، ورسائله التربوية الوعظية، وهذا أمر فيه سعة لأهل التفسير.
وكلهم من كتاب الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم
(المصدر: إسلام أونلاين)