مقالاتمقالات مختارة

البوطي ووفاة ناعِسَة وباسل الأسد

البوطي ووفاة ناعِسَة وباسل الأسد

بقلم محمد خير موسى

في بداية التّسعينات وقع حدثان مهمّان؛ أحدهما كان مفصليّاً في حياة حافظ الأسد وتاريخ سوريا كلّها بعد ذلك، وكان الدّكتور البوطي حاضراً بقوّة في هذين الحدثين.

وفاة “ناعسة” والدة حافظ الأسد

في الثاني عشر من شهر آذار/ مارس من عام 1992م توفيت ناعسة عثمان عبّاد، والدة الرّئيس حافظ الأسد. وهنا لا بدّ من التنويه إلى أنّ المعلومة التي يتبنّاها الكثيرُ من الكتّاب والباحثين من نسبة ناعسة إلى عائلة شاليش غير صحيحة، فناعسة لا تمت بصلة قرابة إلى آل شاليش الذين لهم صلة مصاهرة مع حافظ الأسد من جهة عمّته حسيبة.

كانت هذه المناسبة فرصة لتتسابق الكثير من العمائم في مضمار التقرّب من حافظ الأسد من خلال التّباري في إلقاء الكلمات واستعراض القوة البلاغيّة بين يديه في عزاء أمّه، غير أنّ الأمر بالنّسبة للدّكتور البوطي كان مختلفاً، فهو يملك الحظوة الكبيرة عند حافظ الأسد، فكان العزاء مناسبةً جديدةً ليفصح فيها البوطي عن قناعته العميقة بإيمان حافظ الأسد الذي كان يصفه في بعض المجالس الخاصّة بأنّه “من أهل الله”، فقد كان مقتنعاً بذلك إلى درجة اليقين، فكان مما قاله في كلمة التّعزية بين يدي حافظ الأسد:

كان العزاء مناسبةً جديدةً ليفصح فيها البوطي عن قناعته العميقة بإيمان حافظ الأسد الذي كان يصفه في بعض المجالس الخاصّة بأنّه “من أهل الله”، فقد كان مقتنعاً بذلك إلى درجة اليقين

“فيمَ أبحثُ يا سيادة الرّئيس عن صيغة تعزية، وفيم أبحثُ عن كلمة سلوى، وقد رأيت البارحة ما أغناني عن كلّ شيء.

رأيتُك وأنت مشدود البصر والبصيرة إلى كتاب الله عزّ وجلّ إذ كان يُتلى في ذلك السّرادق الكبير، وقد تأملت مراراً – وأصدقكم القول – وقارنتُ في نفسي بين مجالس مشابهة يُتلى فيها كتاب الله تقليداً، والضّجيج قائم، ومن شاء أن يخرج خرج ومن شاء أن يدخل دخل، وبين هذا المجلس الذي أظلّته السّكينة والخشية، والذي رأيتُ أنّ مصدر السّكينة تتمثّلُ في انشدادك الكلّي إلى كتاب الله تعالى يا سيادة الرّئيس.

وعندما انتهى القرّاء من قراءتهم – وقد أطالوا ولم يقصّروا – التفتَّ إليّ وقلت لي: لقد قطعوا ألذّ ما كنّا فيه من نشوة الإصغاء إلى هذا الكلام العظيم.

وأنا أعلمُ أنّك قلتها خارجةً من صادق مشاعرك، أفيحتاجُ إنسانٌ أكرمه الله بمثل هذا الأنس بكتاب الله، وأكرمه الله بمثل التّجاوب مع كلامه إلى صيغة تعزيةٍ من مثلي؟”.

كانت هذه الكلمات ومثيلاتها من الدّكتور البوطي تحفرُ عميقاً في وعي الكثيرين من تلاميذه وجمهور المستمعين له، ويستندُ إليها الكثيرُ من الخطباء عند الحديث عن حافظ الأسد على منابرهم، فكانت هذه الطريقة تمثّل نوعاً يتجاوز تنظيف حافظ الأسد من جرائمه؛ إلى تكريس صفة “الرّئيس المؤمن” في الوعي العام.

كانت هذه الطريقة تمثّل نوعاً يتجاوز تنظيف حافظ الأسد من جرائمه؛ إلى تكريس صفة “الرّئيس المؤمن” في الوعي العام

وفاة باسل الأسد

عقب الاستفتاء الرئاسيّ عام 1991م تحوّلت كنية حافظ الأسد في وسائل الإعلام وهتافات الجماهير من “أبو سليمان” إلى “أبو باسل”، إيذاناً ببدء تهيئة ابنه البكر باسل لاستلام الحكم من بعده، ولكنّ قدر الله غالب، ويد الله التي تعمل في الخفاء ضربت حافظ الأسد أكبر ضربةٍ تلقّاها في حياته فكسرت ظهره.

وكما قال الصّحفي البريطاني روبرت فيسك: “في سوريا لا شيء مهمّاً يحدث دون موافقة حافظ الأسد، باستثناء فعل الله الذي أخذ ابنه البكر بعيداً”.

في الحادي والعشرين من كانون الثّاني/ يناير 1994م أعلن التّلفزيون الرّسميّ نبأ وفاة باسل الأسد في حادث سيرٍ على طريق المطار، أثناء توجهه إلى مطار دمشق الدّولي للسفر إلى ألمانيا. وما يزال مصرع باسل الأسد لغزاً ستكشفه الأيّام، إذ إنّ العديد من المؤشّرات تشيرُ إلى أنّ ما جرى هو عمليّة اغتيال مدبّرة، والمستفيدون منها كثر سواء من داخل بنية النّظام أو من خارجه.

وعقب إعلان الوفاة صدحت المآذن بالقرآن الكريم وتعطّلت الحياة في سوريا وأقيمت سرادقات العزاء في كلّ مكان، وكان القرآن الكريم هو الشيء الوحيد الذي تسمعه في سوريا كلها منبعثاً من المآذن والمؤسسات، حتّى إنّ جميع مقرّات حزب البعث والحزب الشيوعي انبعث منها صوت القرآن الكريم.

وعلى الفور انتشرت في كلّ أنحاء سوريا صورة ثلاثيّة تجمع حافظ الأسد في الوسط وعن يمينه باسل الأسد وعن يساره بشّار الأسد، مع شعار مكتوب “باسل المثل وبشّار الأمل”.

وأطلق وصف “الشّهيد” على باسل الأسد، ليطلق اسمه على الساحات والمنشآت والحدائق والمهرجانات والفعاليات في مزرعة والده المسماة “سوريا الأسد”.

كان عزاء باسل الأسد يبثّ على الهواء مباشرة ويصطفّ فيه العلماء والدّعاة للحديث، وقد كان الدّكتور البوطي أبرز المتحدثين وأقربهم من حافظ الأسد، سواء في العزاء أو في التّأبين الذي كان بعد مرور أربعين يوماً على وفاته.

وكان مما قاله في العزاء:

“إذن فالموتُ ليسَ عدماً، وباسل معنا ولم يغب عنّا، وإن حيلَ بيننا وبين رؤيته.

ولقد تمنّى متمنٍّ الآن لو كان معنا، وأقسمُ أنّه موجود لم يغب ولكنّ الحياة البرزخيّة محجوبةٌ عنّا.

أمّا النهاية التي آل إليها فلستُ متألّياً على الله عزّ وجلّ؛ لكننّي أعلم عن كثبٍ وبشكلٍ مباشر أنّه كان متحلّياً بالأخلاق التي يحبّها الله تعالى، وأنّه كان متسامياً إلى شهامة الرّجال، ولا أبالغ في هذا، كان يسهرُ فيما نعلم على رعاية حال المنكوبين والمستضعفين ما وسعه الجهد.

كلّ ذلك خلقٌ فاضلٌ يحبّه الله عزّ وجلّ، والمأمول من رحمة الله أن يكون مصير إنسان يتحلّى بمثل هذه الأخلاق – ولا أتألّى على الله – أن يصير إلى مكرمةٍ إلهيّةٍ كبرى.

كانت وفاة باسل الأسد سبباً لتعمّق العلاقة بين حافظ الأسد والدّكتور البوطي لتبلغ حدّاً من القرب لم تبلغه من قبل، فقد تكثّفت الزّيارات، وكان كثيرٌ منها بطلبٍ من حافظ الأسد الذي كان يعيشُ ذهول المصيبة، وفي الوقت ذاته يرتّب على عجلٍ لاستلام بشّار الأسد مقاليد الحكم

وإنّي لأتصوّر – ولا أظنّني مبالغاً – أنّه يتمنّى لو أنّ حجاب الغيب كشف أمامنا ليطلعنا على المكرمة التي أنعم الله عليه بها”.

كانت وفاة باسل الأسد سبباً لتعمّق العلاقة بين حافظ الأسد والدّكتور البوطي لتبلغ حدّاً من القرب لم تبلغه من قبل، فقد تكثّفت الزّيارات، وكان كثيرٌ منها بطلبٍ من حافظ الأسد الذي كان يعيشُ ذهول المصيبة، وفي الوقت ذاته يرتّب على عجلٍ لاستلام بشّار الأسد مقاليد الحكم في البلاد، فكانت هذه السّنوات السّت الأخيرة من حياة حافظ الأسد كفيلةً بأن نجعل للدّكتور البوطي حظوةً كبيرةً يغبطه ويحسده عليها كثيرٌ من أصحاب العمائم، إضافة إلى ازدياد يقينه بصلاح حافظ الأسد وتقواه.

فكيفَ كان موقف الدّكتور البوطي عند وفاة حافظ الأسد، سواء في الصّلاة على الجنازة أو العزاء والتأبين، وما جرى فيهما من مبايعةٍ استباقيّة لبشّار الأسد، هذا ما سنجيب عنه – بإذن الله تعالى – في المقال القادم.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى