البوطي وصف الثّورة “بالفتنة” وخلفيّاته وآثاره
بقلم محمد خير موسى
مع اندلاع الثّورة السّوريةّ في آذار من عام 2011م وقعت المؤسّسة الدّينيّة في نوعين من الإرباكات مع الذّات، فبعضها من جهة تحديد الموقف من الثّورة الشّعبيّة التي بدأت تمتدّ من درعا إلى عموم المناطق وبعضها الآخر من جهة إعلان الموقف من الثّورة والإفصاح عنه.
لكنّ الوقت لم يطُل على الدّكتور البوطي حتّى أعلن بوضوحٍ توصيفه للثّورة وأصدر العديد من الفتاوى المواكبة لأحداثها الأولى.
وصفُ الثّورة أنّها “فتنة” وخلفيّاته ومرتكزاته
أطلق الدّكتور البوطي على الثّورة التي تمتدّ في عرض البلاد وصف “الفتنة”، وقد استفزّ هذا الوصف الثّوّار بشكلٍ كبير وغدا التترّس خلف وصف “الفتنة” في مواجهة وصف “الثّورة” محلّ تراشق بالكلام بين المؤيّدين والثّائرين.
والفتنة التي لها معانٍ عديدة في المدلول الشرعي يستخدمها البوطي في توصيف الثّورة في سياق الالتباس وعدم الوضوح وغياب الرّؤية.
وقد سئل البوطي عن مقصده من الفتنة في توصيفه للثّورة السّوريّة فقال في الفتوى الصّادرة بتاريخ 23 من حزيران “يونيو” عام 2011م:
“الفتنة: هي كلّ حالة يغيب فيها سلطان العدل، ويفلت فيها زمامه، وينجرف فيها الناس إلى التّهارج والقتل دون ضوابط ولا اختيار. وكلّ الفتن ذات درجة واحدة في الخطورة وتسبب الهلاك”
إنّ قليلًا من التوقّف مع طبيعة منهج الدّكتور البوطي الفقهي يجعلنا ندرك خلفيّات قوله هذا ومرتكزاته التي ارتكز عليها.
فالدّكتور البوطي من أبناء المدرسة التقليديّة في الانتماء الفقهي وهو لا يخرج عن إطار ما ذهب إليه الفقهاء الأربعة في المعتمد من أقوالهم الفقهيّة عادة، وأشدّ ما يركّز عليه في قضايا العلاقة بين الحاكم والمحكوم هو حرمة الخروج على الحاكم المسلم إن لم يصدر منه كفرٌ بواح، والكفرُ البواح عنده هو حالةٌ اعتقاديّةٌ تنعكس في أفعال كفريّة منها السجود لصنم على سبيل المثال، أمّا قتل معصومي الدّم ولو كان قتلًا عن عمدٍ فإنّه ارتكابٌ لكبيرةٍ من الكبائر ولا يؤثّر على البيعة للحاكم ولا يبيحُ الخروج عليه بأيّ شكلٍ من الأشكال.
في الفتوى المنشورة بتاريخ 10 تموز “يوليو” 2011م يقول الدّكتور البوطي:
“مناط الكفر الاعتقاد أو ما يدلّ على الاعتقاد كالسجود لصنم، أما قتل النّفس من دون حقّ فمعصيةٌ كبيرةٌ من المعاصي، إن كان القاتل مستحلًا لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلًا كان مرتكبًا لكبيرة، وإذا لم نعلم عقيدة القاتل أهو مستبيح أم لا، لم يجز تكفيره بالإجماع، إنّ الذين قتلهم الحجاج صبرًا أعدادٌ كبيرة، ولم يكفّره أحد من السّلف الذين كانوا في عصره وفي مقدّمتهم الحسن البصري. وإنّ الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا ثم أتمّهم المئة، في الحديث الصحيح، لم يرتدّ بذلك حتى يحتاج إلى إسلام جديد، وإنما عصى الله بما أقدم عليه، ومن ثمّ لم يكن بينه وبين مغفرة الله له إلا التّوبة النصوح”.
وعندما تخرجُ المظاهرات السلميّة ضدّ الحاكم الذي يواجهها بالرّصاص الحيّ فإنّ ذلك يدفع إلى حالةٍ من الالتباس والضّبابيّة في الرّؤية ويندفع فيها النّاس إلى الهرج والفتنة بناءً على تصّور الدّكتور البوطي.
فالفتنة ـ عنده ـ هي حالةٌ تنبثق من الخروج غير المشروع على الحاكم المسلم سواء وصل هذا الحاكم إلى كرسيّ بآليّات الشّورى أم أتى بالتّغلب والاستيلاء والقهر والانقلاب على السّلطة والوثوب على الحكم.
والمتظاهرون الذين يرون أنّ ما يقومون به في مواجهة الظّلم نوعٌ من الجهاد في سبيل الله تعالى وأنّ أعظم الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائرٍ فقد التبس عليهم الأمر ــ بناءً على رأيه ــ بين الجهاد والهرج ودخلوا في الفتنة عبر تصرفاتهم هذه، يقول الدّكتور البوطي في خطبة الجمعة التي ألقاها بتاريخ 27 أيار “مايو” 2011م بعنوان “التباس الهرج بالجهاد”:
“قد أوضح الكتاب المبين؛ كتاب ربّنا جل جلاله، ومن ثمّ شرح لنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلّم الفرق بين الجهاد المبرور الماضي إلى يوم القيامة وبين الهرج الذي هو علامة من علامات قيام السّاعة والذي هو أخطر بابٍ وأوسع بابٍ إلى الفتنة الدّهماء، ومع ذلك فإنّنا لنسمع ونرى ما لا يصدّقه العقل، نرى أناسًا يزعمون أن الجهاد قد التبس عليهم بالهرج، يدعون إلى الهرج ويرفعون لواءه ويزعمون أنه الجهاد في سبيل الله، يأمرون بما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه، يأمرون بما حذر منه كتاب الله عز وجل ويقولون إنه الجهاد”.
“الفتنة” وتحميل الضحايا مسؤوليّة جرائم المستبدّ
وتكمن المشكلة من جهة أخرى في توصيف الفتنة عند الدّكتور البوطي في أنّه أثمرَ عندَه تحميل مسؤوليّة الأحداث التي تجري والدّماء التي تراق والأرواح الني تزهق ــ بالدّرجة الأولى ــ للشّعب الذي خرج رافضًا للظلم والاستبداد والطّغيان معلنًا مطالبته بالحريّة والكرامة ولا يتحمّل مسؤوليّة هذه الفتنة النّظام الذي يطلق النّار على المتظاهرين.
فالمتظاهرون هم البادئون بالفعل وهم الذين استفزّوا السّلطات لتمارس ظلمها واستبدادها وكان الأجدر بهم أن يتعاملوا مع الظلم الواقع عليهم بالصبر والاحتساب والنّصح بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يتعاملوا مع هذه الفتنة بالتجنّب والاعتزال.
في الفتوى المنشورة بتاريخ 14 من حزيران “يونيو” عام 2011م يسأل سائل: “ما حكم الذي يأخذ نقودا من الدولة أو أشخاص منتفع منها ويقوم بفض المظاهرات السلميّه بالقوة المفرطة التي تقوم من أجل المطالب الشعبية؟” فيأتيه الجواب من الدّكتور البوطي:
“ثبت بما لا يقبل الشكّ أن الخروج إلى المسيرات واستثارة الآخرين بالهتافات المختلفة، ذريعةٌ إلى فتنةٍ لا مجال للتحرّز منها، وكثيرًا ما تتمثّل هذه الفتنة بقتلٍ أو تعذيبٍ أو سجنٍ لأناسٍ لم يكونوا معرضين لشيءٍ من ذلك لولا هذه المسيرات، وقد أوضحت لك في سؤال سابق حكم الذّرائع الموصلة إلى جرائم ومحرمات، وبينتُ دليل حرمتها وسخط الله على الذين لا يبالون بحكم الله فيها. فلماذا تسألني عن حكم أخذ النقود لفضّ المسيرات، ولا تسألني عن حكم المسيرات ذاتها؟! المهمّ أن نعلم ويعلم كل مسلم أن سدّ الذّرائع إلى الفتن والمحرمات واجبٌ شرعيّ خطير بنص صريح من القرآن”
وهنا نلحظ الفرق بين منطق البوطي التقليدي الذي يحمّل مسؤوليّة الفتنة للجماهير الثّائرة المطالبة بحريّتها وكرامتها وبين منطق العقل الإصلاحي الذي يمثله عبد الرّحمن الكواكبي ــ على سبيل المثال ــ ويحمّل مسؤوليّة الفتنة للمستبد، فهو يستخدم لفظ الفتنة ذاته لكن مع تموضعات مغايرة في تحميل المسؤوليّة لما يذهب إليه الدّكتور البوطي؛ فيقول الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” في سياق حديثه عن التخلّص من الاستبداد:
“الاستبدادُ لا ينبغي أن يُقاوَم بالعنف، كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدًا. نعم، الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجةً تنفجر عندها الفتنة انفجارًا طبيعيًّا، فإذا كان في الأمّة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتى إذا سكنت ثورتها نوعًا، وقضت وظيفتها في حدّ المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسّس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد، ولا علاقة لهم بالفتنة”.
أثر وصف “الفتنة” في إطلاق الحكم على المظاهرات السلميّة
يؤكّد الدّكتور البوطي على أنّ المظاهرات السلميّة والهتافات ضدّ الحاكم لا تعدّ من أنواع الخروج على الحاكم من حيثُ الأصل، إذ المقصود عند الفقهاء بالخروج على الحاكم هو الخروج المُسلّح بينما الهتافات حتى المنادية بإسقاط النّظام لا تعدّ نوعًا من أنواع الخروج على الحاكم.
ومع ذلك فإنّ الدّكتور البوطي يقول بحرمة هذه المظاهرات السلميّة، فهي عنده وإن كانت مشروعةً ابتداءً فإنّها محرّمةٌ انتهاءً لما يترتب عليها من مآلات الوقوع في الفتنة، وهذا الحكم هو أحد الأمور التي تترتّب على تحميل المسؤوليّة للشعب والجماهير في إثارة الفتنة.
ففي الفتوى المنشورة بتاريخ 10 من تموز “يوليو” عام 2011م جواب على سؤال “لقد خرج أمس مئات آلاف الأشخاص في حماة بعد صلاة الجمعة هل ينطبق على هؤلاء جميعًا ما ذكرتم من أحاديث الخروج على الحاكم ومسألة سد الذرائع أم يمكن أن يكون لهم عذر باعتبار أنّهم تعرّضوا لظلم سابق” يقول الدّكتور البوطي:
“المطالبة الكلاميّة بزوال الحاكم ولو في الشّوارع، لا يعدّ وحده خروجًا عليه بالمعنى الشّرعي المعروف، إذا لم يكن جزءًا من خطّة مرسومة تنتهي باستعمال القوة. ولكنّ المطالبة الكلامية في الشّوارع وحدها محرّمة حتى ولو لم تكن جزءًا من خطّة مرسومة، لا لكونها خروجًا على الحاكم، ولكن لأنّها ستجرّ إلى احتكاكٍ فمقاومةٍ فهرجٍ وقتل، وهو ما نهى عنه رسول الله بشدّة في أكثر من حديث صحيح”
وهنا يستحضر الدّكتور البوطي المبدأ الأصولي “سدّ الذّرائع” للحكم على المظاهرات السلميّة بالحرمة نظرًا إلى ما تؤدّي إليه من الوقوع في الفتنة والهرج.
الواجب تجاه “الفتنة” وآليّة التّعامل مع المستبدّ وإجرامه
المظاهرات عند الدّكتور البوطي هي سبب الفتنة والهرج وليس مواجهة النّظام الظّالم لها بالرّصاص الحيّ والقتل الممنهج، والبوطي لا يسوّغ القتل الواقع من النّظام ولكنّه يراه ردّة فعل على الفعل الأوّل وهو المظاهرات، فالمتظاهرون ومن يقفون وراءهم هم من يتحملون المسؤوليّة الرّئيسة في ذلك.
ففي الفتوى المنشورة بتاريخ 27 من تشرين الأوّل “أكتوبر” عام 2011م يبيّن الدّكتور البوطي الواجب في التّعامل مع هذه “الفتنة” ومنهجيّة التّعامل مع النّظام المستبدّ ويبيّن البديل عن المظاهرات والهتافات في الشّوارع فيقول:
“لست معنيًا بالنظام السوري من حيث هو، ولكني معنيّ بواجب الأمر بالمعروف فيه والنّهي عن المنكر، وهذا ما يأمر به الله ورسوله.
وهذا ما قمتُ به من قبل ولا أزال جهد استطاعتي، وأمّا أن أقوم بالدّعوة إلى بقائه أو رحيله، فإن الله لم يكلفني بأن أشغل نفسي بذلك ما لم يعلن رئيس النّظام الكفر البواح.
والبديل عن المظاهرات وهتافاتها، الأمرُ بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولكن ليس في الشّوارع وبين دهماء النّاس، ولكن عند أصحاب المنكر والمتلبسين به أنفسهم.
والقتل بغير حقّ من أكبر الكبائر التي يجب إنكارها، ولكن عليك أولًا أن تعلم من هو الذي يقتل بغير حق، من هم الذين يقتلون المئات من رجال الشرطة، ورجال الجيش، ورجال الأمن والناس المدنيين، من الذين يزرعون الميادين والسّاحات المكتظة بالألغام والعبوات الناسفة، انظر إلى الأمر بعينين اثنتين لا بعين واحدة، ثم احكم على القاتل من دون حق بالإجرام أيًا كان، وإلى أيّ جهة انتسب. وعندئذٍ ستجد أنّ في الجهتين من يسفك أو يتسبب بسفك الدماء.
ولكن فاعلم أن الفتنة كانت نائمة ولعن الله من أيقظها، ولو تمّ الانضباط بأمر رسول الله الدّاعي إلى الابتعاد عن الفتنة وتجنب الاشتراك فيها، والحذر من الجهاد تحت راية عمّية أي تحت راية لا ندري من يحملها ويقودها وإلى أي غاية يمضي بها، إذن لما وجد هذا القتل ولما تسلسلت أسبابه”.
بل إنّه يرى أنّ القصف الذي تتعرّض له المدن هو ردّة فعل على مظاهرات من سماهم “الغوغاء” وأنّ هذا القصف وما ينتج عنه هو فتنةٌ يجبُ تجنّبها؛ إذ يقول في الفتوى المنشورة بتاريخ 6 من آذار “مارس” عام 2012م:
“أعلنتُ عن موقفي من قصف حماة وحمص وغيرهما، يوم حذّرت الغوغاء من التظاهر ودعوتُهم إلى أن يلتزموا بنصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجنّبها وعدم الاشتراك فيها، لأنها ــ طبقًا لما حذّر منه رسول الله ــ ستكون ذريعةً إلى القصف الذي حصل والذي تسألني عن موقفي منه.
وأعتقد أنّني نفذتُ كلام رسول الله فلم أشترك في شيءٍ من تلك المظاهرات والاجتماعات، وإنّما اكتفيت بما فعله رسول الله من نصيحة النّاس وتحذيرهم من الخوض في رياح الفتنة، وهذا واجب”.
بعد أن سرى وصف “الفتنة” سريان النّار في الهشيم وغدا هو الوصف الذي تعتمده وزارة الأوقاف ووسائل إعلام النّظام في وصف الثّورة، ووصف العلماء المساندين لها حتّى غدا وصف الدّكتور يوسف القرضاوي ــ على سبيل المثال ــ شيخ الفتنة؛ بعدَ هذا صدرت عن الدّكتور البوطي تصريحات وأقوال وفتاوى سارت بها الرّكبان؛ نتوقّف مع عددٍ منها توثيقًا وتبيينًا لخلفياتها ومدلولاتها ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال المقبل.
المصدر: سوريا تي في TV