البوطي.. والشّيعة ومشاريع التشيّع
لم يكن الحديث عن الشّيعة عند عموم المؤسسة الدينيّة السوريّة حديثاً سائغاً في فترة حافظ الأسد، وكانت عموم الجماعات والشخصيات تتجنّب الحديث في هذا ما خلا جماعة كفتارو التي كانت تتصدّر نشاطات التقريب الإسلامي المسيحي، والتقريب السنّي الشّيعي، لتتصدّر جماعة الفتح الإسلامي هذه الأنشطة عقب استلام بشّار الأسد سدّة الحكم.
موقف البوطي من الشّيعة
في كتابه “مبادئ العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر” الذي كان مقرّراً لطلاب السنة الثالثة في كلية الشريعة بجامعة دمشق، أدرج الدكتور البوطي الشيعة ضمن المذاهب السياسية التي نشأت لسبب سياسي ثمّ تحولت إلى مذهب اعتقادي.
وكان عموماً يرفض أفكار الشيعة ويرد عليها بطريقة ناعمةٍ في بعض الأحيان، فمن ذلك ما فعله من إلحاق كتابه السيرة النبويّة بموجز لتاريخ الخلافة الراشدة، إذ كان الهدف الأكبر من ذلك تفنيد روايات الشيعة حول من يكون الأحقّ بالخلافة ومواقفهم من الخلفاء الراشدين.
كان عموماً يرفض أفكار الشيعة ويرد عليها بطريقة ناعمةٍ في بعض الأحيان، فمن ذلك ما فعله من إلحاق كتابه السيرة النبويّة بموجز لتاريخ الخلافة الراشدة، إذ كان الهدف الأكبر من ذلك تفنيد روايات الشيعة حول من يكون الأحقّ بالخلافة
وفي أحيان أخرى كان يردّ عليها بطريقة حادّة صارخة كما فعل في كتابه “عائشة أمّ المؤمنين.. أيّامها وسيرتها الكاملة في صفحات”. فالكتاب في عمومه جاء لتفنيد أفكار الشيعة حول عائشة رضي الله عنها، غير أنّه كان يردّ بطريقة صارخة مباشرة في مواضع كثيرة، ومن ذلك ردّه على ما قاله السيد محمّد حسين الطبطبائي في تفسيره الشهير عند الشيعة “الميزان في تفسير القرآن”. وقد أكّد في تفسيره على أنّ براءة عائشة رضي الله عنها من الزنى الذي رميت به وتبرئة الله لها في سورة النور “إنّما هو دليل البراءة الظاهرية، أعني الحكم الشرعي بالبراءة دون البراءة الواقعية، لوضوح عدم الملازمة”، كما يقول الطبطبائي.
يسوق الدكتور البوطي كلام الطبطبائي تحت عنوان فرعي “الحاقدون وتأويلهم الباطل”، وقبل أن يردّ على كلام الطبطبائي يصفه بقوله:
“غير أنّ الذي هو شرّ من دسيسة ذوي العصبية الصليبيّة أو الأحقاد الصّهيونيّة؛ ذلك التأويل السّمج الباطل الذي يبرأ منه المنطق وتتأبّاه القواعد العربيّة، والذي جنح إليه الحاقدون على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حيث أوهموا النّاس حبّهم لآل بيته”.
وبعد أن يصف الدكتور البوطي من يتبنى هذا القول بأنّه أشدّ حقداً من الصّليبيين والصّهاينة على الإسلام، يبدأ ردّاً واضحاً قاسياً، فيقول:
“إنّ أيّ عاقل انجابت عنه غاشية الحقد على أزواج رسول الله وآل بيته المطهّرين لا بدّ أن يسأل عندما يسمع هذه الدّسيسة السّاقطة: أفكان الهمّ الذي يؤرّق نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويشغل بالَه جهلَه بالبراءة الشرعيّة الظاهرة التي تنجي زوجته من عقاب الحدّ بقطع النّظر عن واقعها الخفيّ من وراء ذلك، ومن ثمّ فإنّ تلك البراءة الشرعيّة هي التي أزالت الكرب عن نفسه، وأعادت إليه أسارير وجهه ورضاه عن زوجته؟!”.
ثمّ يقول: “وما قرأت دفاعاً عن إفك عبد الله بن أبيّ ابن سلول ونيلاً من الحقّ الذي يقرّره كتاب الله بأسلوبٍ فاضح يصطنع التستّر والتّخفّي كهذا الكلام العجيب المتهافت”.
وفي نهاية ردّه المطوّل يقول: “ترى هل يبلغ شاخت وغولدزيهر وبرنارد لويس أن يكونوا تلامذة في مدرسة الافتراءات السّاقطة لهذا المتقوّل على الله ورسوله وعلى منطق الأشياء بهذا الكلام؟!”.
ومن يعرف الدّكتور البوطي عن قرب يعلم جيّداً أنّ ما ذكره من توصيفات بحقّ أحد أهمّ مراجع الشّيعة هنا ليس مجرّد موقف متعلّق بهذا المرجع وحده؛ بل هو موقفه من التّوجهات الشرعيّة ومواقف الشيعة عموماً من الصّحابة وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وأنّه لم يكن يهادن في موقفه هذا، لكنّه لم يكن أيضاً يصرّح به على الدّوام تصريح المجابهة والمواجهة، بل كان يمرّره في كتبه بالطريقتين اللّتين تحدثنا عنهما آنفاً.
يتجلّى موقفه هذا من الشّيعة في امتناعه بشكلٍ عام عن المشاركة في مؤتمرات التقريب والحوار بين السّنة والشيعة، فما كان يحضر إلا في أحيان قليلة بسبب اضطراره للحضور، ويحاول أن ينأى بنفسه عن النقاشات الدّائرة في تلكم المؤتمرات
كما يتجلّى موقفه هذا من الشّيعة في امتناعه بشكلٍ عام عن المشاركة في مؤتمرات التقريب والحوار بين السّنة والشيعة، فما كان يحضر إلا في أحيان قليلة بسبب اضطراره للحضور، ويحاول أن ينأى بنفسه عن النقاشات الدّائرة في تلكم المؤتمرات. وقد كان هذا معروفاً عنه عند عموم علماء دمشق، حيث يقول عنه الشّيخ سارية الرّفاعي في كتابه “مذكرات في زمن الثّورة”:
“وكان رحمه الله يكره مؤتمرات التّقريب بين المذاهب والأديان وقلّ أن يحضرها”.
موقف البوطي من مشاريع التشيّع
بدأت مشاريع التشيّع في سوريا في وقت مبكّر نسبياً، ويمكن إرجاع بدايات نشاطها الحقيقيّ إلى مرحلة ما بعد الحرب الخليجيّة والحرب الأمريكيّة على العراق، لتنشط بشكلٍ كبيرٍ جداً بعد استلام بشّار الأسد السلطة وعقب سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكيّ.
تجسّدَ نشاط التشيّع في افتتاح الحسينيّات ابتداءً، ليصل الأمر إلى افتتاح المراكز التّعليميّة من مدارس وجامعات ومؤسسات خدميّة من مستوصفات وجمعيّات خيريّة، وليغدو الحضور الشيعيّ جزءاً من التركيبة المؤسّسية الدينيّة في الواقع السوريّ في عهد وزير الأوقاف محمّد عبد الستّار السيّد، من خلال اعتبار مجمع السيّدة رقيّة أحد فروع جامعة بلاد الشّام. والحديث عن تمظهرات مشاريع التشيع يطول وليس هنا موضعه.
أمّا الدّكتور البوطي فكان ينظر بعين القلق الكبير كما هو حال غالب رموز المؤسّسة الدّينيّة في سوريا لهذه المشاريع وتمدّدها.
يقول الشّيخ سارية الرّفاعي في كتابه “مذكرات في زمن الثّورة” متحدّثاً عن الدّكتور البوطي:
“كان يخشى من الشّيعة وامتدادها إلى القرى البعيدة، فكان يتكلّم بكلّ قسوة مع وزارة الأوقاف بأنّ تاريخهم الأسود يملي علينا أن نكون حذرين كلّ الحذر. وقد طلب منّي مرّة إجراء إحصائيّة في المحافظات السوريّة عن الحسينيّات وعدد من تشيّع في سوريا، فكلّفنا بعض الشباب فجاؤوا لنا بتقرير دقيق يثبت بأنّ الشعب السوريّ شعب واعٍ لا يتأثّر بنشاط الشّيعة، وقال التقرير: إنّ نسبة ضئيلة من النّاس تشيّعوا في الجزيرة شمال سوريا قريباً من الحسكة وما حولها لفقرهم وجهلهم”.
وأذكر جيداً أنّني في العديد من زياراتي للدكتور البوطي في بيته كان التشيّع يشكّل هاجساً حقيقيّاً له، وكان مقتنعاً بأنّ رئيس مكتب الأمن القومي اللواء هشام اختيار ووزير الأوقاف محمّد عبد الستّار السيّد يقومان برعاية هذه المشاريع بشكلٍ مباشر.
كما كان يرى في الشخصيّات الشّيعيّة المتعصّبة لشيعيّتها خادمةً لتوجّهات العلمانيّين الحاقدين على الإسلام، وكان يذكر نموذجاً لتلك الشخصيّات الدّكتور هاني مرتضى عقب تولّيه منصب رئيس جامعة دمشق ومنصب وزير التعليم العالي بعد ذلك، حيث كان شخصيّة متعصبة لشيعيّتها، ومع ذلك كان من أكثر الخادمين للتوجهات العلمانية المحاربة لكليّة الشريعة وتوجهات المؤسّسة الدّينيّة عموماً في التعليم والمؤتمرات العلمية والاتفاقيات الرسميّة.
في عام 2006م صدرت وثيقةٌ باسم علماء دمشق تحذّر من التّضييق على الثّانويّات والإعداديّات الشرعيّة لصالح النشاط الشيعي ومدارسه في سوريا، وقد وقّع عليها حوالي مئتين من علماء دمشقز والجدير ذكره أنّ الذي كان يتبنى هذه الوثيقة ويحشد لها بالدرجة الأولى الدّكتور البوطي والشّيخ أسامة الرّفاعي. وقد كان تبنيهما لها سبباً في التفاف عموم العلماء حولها؛ ممّا شكّل حالة قلق للنّظام، لا سيما بعد أن أثارت قناة الجزيرة أخبار هذه الوثيقة وتداولتها في نشرات أخبارها، واستنفرت أجهزة الأمن قواها لمعرفة الواقفين وراء الوثيقة والحيلولة دون امتداد تأثير أو التفاعل مع قناة الجزيرة بسببها.
وقد ذكر الدّكتور البوطي أنّ متابعةً مباشرة من القصر كانت تجري لآثار هذه الوثيقة وامتداداتها. وقد نجح النظام عمليّاً في تطويق آثارها، لكنّها شكلت عنده علامة فارقة في التّعامل مع العديد من الشّخصيات ذات التأثير في المؤسسة الدينيّة السوريّة، تجلّى ذلك في إجراءات مختلفة اتّخذها النّظام ما بين عامي 2007 و2010م.
الدّكتور البوطي كان أحد أبرز الرّافضين لمشاريع التشيّع في سوريا انطلاقاً من قناعاته بخطورة هذا المشروع، وكان يرى أنّ موقفه الدّاعم للنّظام يمكن أن يشكّل مجالاً للمناورة في المواجهة والرّفض
خلاصة القول: إنّ الدّكتور البوطي كان أحد أبرز الرّافضين لمشاريع التشيّع في سوريا انطلاقاً من قناعاته بخطورة هذا المشروع، وكان يرى أنّ موقفه الدّاعم للنّظام يمكن أن يشكّل مجالاً للمناورة في المواجهة والرّفض.
تمثّل حالة الفصل بين مواجهة مشاريع التشيّع ودعم النّظام عند الدّكتور البوطي وغيره مشهداً عصيّاً على التفكيك عند الكثيرين، فكيف يكون الشخص نفسه مواجهاً لمشاريع التشيّع ومدافعاً شرساً عن هذا النّظام الذي فتح البلد على مصاريعه للتغوّل الإيراني الطّائفي؟ وهذا يؤكّد مجدّداً أن المشهد الدّيني في سوريا مشهدٌ مركّب يحتاج إلى تفكيك هادئ لأجل فهم واقعه وحقيقته وامتداداته وآثاره.
(المصدر: عربي21)