البوطي.. بكاءٌ على حافظ الأسد وبيعةٌ استباقيّةٌ لابنه بشّار
بقلم محمد خير موسى
في العاشر من شهر حزيران/ يونيو تفاجأ السّوريّون بأنّ رئيسهم الذي رسّخ نفسه في العقل الجمعيّ بأنّه “إلى الأبد” قد مات، وقبل أن يستفيقوا من المفاجأة كان مجلس الشّعب قد اجتمع وأعلن بالإجماع تعديل الدّستور ليصبح على مقاس بشّار الأسد تماماً، ليرث سوريا بكلّ ما فيها.
الجدل حول بكاء البوطي على جنازة حافظ الأسد
بعدَ أن وضعت جنازة حافظ الأسد في جامع ناعسة في القرداحة وحاول الشّيخ فضل غزال (وهو أبرز المرجعيّات الدّينيّة عند النّصيريّة وقد توفي عام 2004م) فرض نفسه للصّلاة على حافظ الأسد، امتدّت يدٌ لتجذبه إلى الخلف وتدفع الدّكتور البوطي إلى الأمام للصّلاة على الجنازة، في مشهدٍ واضح أراد النّظام تكريسه وترسيخه متعلّق بإسلامِ حافظ الأسد وذريّته من بعده، وعدم حضور أيّ مشهدٍ يتصادم مع السّنّيّة الدّينيّة في الجنازة، حتّى لا يكون دين بشّار الأسد المهيّأ لوراثة أبيه أو انتماؤه الطّائفيّ مثار نقاش أو حديث.
مع بداية الصّلاة بدا صوت الدّكتور البوطي متهدّجاً ليصل إلى النّشيج والبكاء عقب التّكبيرة الثّالثة التي يعقبها الدّعاء للميّت، وقد ظهر جليّاً خلال الدّعاء أن الدّكتور البوطي قال بصوتٍ مسموع: “وإنّنا نشهدُ أنّه كان يشهدُ أن لا إله إلّا انت وأنّ محمّداً عبدك ورسولك”.
انتهت صلاة الجنازة لتثور بعد ذلك حملةٌ غير معلنة حول بكاء البوطي أثناء صلاته على جنازة حافظ الأسد، وتدور الحملة تهامساً في الأوساط الدّينيّة والمجتمعيّة بين مستنكرٍ على البوطي متّهماً إيّاه بالمداهنة بدموعه؛ وبين مدافعٍ عنه بأنّه رقيق القلب ومن الطّبيعيّ أن يبكي في هكذا موقف.
وصلت أصداء هذا الاستنكار إلى الدّكتور البوطي، ومن الواضح أنّه كان استنكاراً واسعاً حمله على أن يردّ ويدافع عن نفسه.
وكعادته الانفعاليّة فقد ردّ بالهجوم على من استنكر عليه ذلك، متهماً إيّاهم بأنّ أمزجتهم حجبتهم عن معرفة بدهيّات الأحكام الإسلاميّة ومعرفتها، ويضيفُ في معرض الدّفاع عن نفسه:
“وما أذكرُ أنّي صلّيتُ على جنازةٍ أيّاً كان الميّت الذي في النّعش إلّا وتمثّلتُ نفسي أنّني نا الممدد في كفني داخل هذا الصّندوق، وأنّ هؤلاء النّاس الذين يقفون صفوفاً يصلّون عليّ.
ولا بدّ أن تنتابني في هذه الحالة مشاعر من هول هذا المصير ورهبته، ولا بدّ أن ينعكسَ ذلك على قراءتي ودعائي وعموم مناجاتي للّه عزّ وجل.
وأظنّ أنّ هذا هو شأن كلّ مسلمٍ سرى الإسلام إيماناً إلى شيءٍ من حنايا قلبه، ولكن أفيخطرُ في بالك أن يكون في المسلمين المصلّين الملتزمين من يستنكر هذا الخشوع ويستقبح هذه الحال؟
إنّه لأمرٌ عجيبٌ فوجئتُ به!
لقد أرسل إليّ من يستنكر هذه الحال التي انتابتني وأنا أصلّي صلاة الجنازة على واحدٍ من عباد الله الرّاحلين إليه منذ قرابة أربعة أشهر، ولا والله لا أذكر سؤالاً استنكاريّاً وجّه إليّ في حياتي أغرب من هذا السّؤال.
يا الله؛ لقد غدا الخشوع الذي يأمر الله به عباده في الصّلاة أمراً مستهجناً! وغدت الصّورة المثلى لها في أذهان هؤلاء المستهجنين هي تلك الحركات والسّكنات التي لا حظّ إلا للجسم والأعضاء منها!
هل من فرقٍ بين من يستنكرُ مظاهر الخشوع في الصّلاة وهي مظاهر انفعاليّة قسريّة لا أفعال اختياريّة، وبين من يستنكر استقبال القبلة فيها أو يستنكر الوضوء قبلها؟!”.
وكلام الدّكتور البوطي من النّاحية النّظريّة صحيح، ويكون مقبولاً فيما لو كانت هذه حاله العامة في الجنازات التي صلّى عليها، مع التّأكيد على أنّه رجلٌ رقيق القلب غزير الدّمعة.
غيرَ أنّ هذا الكلام النّظريّ غاب في الحقيقة عن كثيرٍ من الجنازات التي صلّى عليها الدّكتور البوطي، ولكم ان تتخيّلوا أنّ هذا الكلام النّظريّ في تسويغ البكاء على جنازة حافظ الأسد بالخشوع قد غاب عن جنازة أقرب النّاس إلى الدّكتور البوطي وأحبّهم إلى نفسه، وهي جنازة والده الشّيخ ملّا رمضان البوطي الذي توفي في الخامس عشر من أيّار/ مايو 1990م.
رثاءٌ الأسد الأب وبيعةٌ استباقيّة للابن في مجلس العزاء
ألقى الدّكتور البوطي كلمةً بين يدي بشّار الأسد الذي لم تكن له أيّة صفة رسميّة في الدّولة حينها، وقد مزج رثاءه قي كلمته تلك بتقديم البيعة الاستباقيّة لبشّار الأسد والتّأكيد على وراثته سوريا بعد أبيه.
كان البوطي يتدفّق حزناً على حافظ الأسد، وقد عبّر عن ذلك بقوله:
“لستُ مبالغاً إن قلتُ إنّ هذا الحدث ملأ كياني كلّه أسى، من الفرق إلى القدم، فمهما نطقت بالكلمات المعزّية والمخفّفة لوقع المصاب أشعر أنّ لساني لا يستخرجُ ممّا في فؤادي إلا مشاعر هذا الأسى”.
وهذا الحزن من البوطيّ على حافظ الأسد حزنٌ حقيقيّ غير مفتعلٍ ولا مُتكلّف، فهو الذي يرى حافظ الأسد ملهماً من الله تعالى لا مجرّد رجل يحالفه التّوفيق، وقد صرّح بهذا في كلمته بأربعينيّة حافظ الأسد فقال:
“لقد شاهدنا صموده العجيب، وشاهدنا مواقفه التي انبعثت عن توفيقٍ إلهيّ بل عن إلهامٍ ربّانيّ، ولقد تساءلت العقول وما تزال عن القدرات التي جعلته يقف كلّ هذه المواقف الصّعبة والمحرجة”.
ويؤكّد على قناعته بوجود الإلهام الرّبانيّ لحافظ الأسد في الكلمة نفسها فيقول:
“ولقد قال لي بالحرف الواحد قبل وفاته بستّة أعوام: إنّ الضّغوط التي تمارس عليّ لو كانت على حجرٍ لتفتّت، ومع ذلك فإنّني متفائل.
أيّها السّادة: هل تتصوّرون أنّ هذه الكلمة تنبع من قدرةٍ إنسانيّة كتلك التي نعرفها؟ ومتى كانت القدرات الإنسانيّة تغالب قدرة الحجر الصّلد والصّخر الأصم؟ ومن أين يأتي هذا التّفاؤل أمام هذا الضّغط الخانق؟
إنّه تفاؤلٌ هابطٌ إليه من الأعلى، وليس تفاؤلاً بشريّاً ممّا نعرفه جميعاً في حدود الإمكانات المعروفة للنّاس”.
وبالعودة إلى كلمته في مجلس التّعزية نجدُ أنّها وإن كانت تحمل حزناً عميقاً على رحيل حافظ الأسد؛ غير أنّ الدّكتور البوطي كرّس المساحة الأكبر من الكلمة للتأكيد على البيعة المبكّرة لبشّار الأسد وإعلان الولاء المطلق له في المرحلة القادمة، والتأكيد على استمرار مسيرة حافظ الأسد من خلال إعطاء البيعة لوريثه بشّار الأسد، وفي ذلك يقول:
“سيادة الفريق الرّكن:
تمتّع هذا الشّعب من قائده الفذّ بمعينٍ لا ينضب، ولقد تضلّع من هذا المعين الكثير الكثير.
تضلّع منه الحكمة في معالجة الأمور، تضلّع من هذا المعين الكثير من الشّموخ وكيفيّة السّهر على الحقوق وعدم التّفريط بها، عرف وتعلّم من هذا المعين الذي ارتوى منه كيف يجمع بين السّلام الذي هو رسالتنا؛ رسالة الإسلام وبين الشّموخ وعدم التّفريط بالحقوق أيّاً كانت، وهو واجبنا الذي كلّفنا الله به.
هذا المعين لن ينضب بوفاة السّيّد الرّئيس، إنّه مستمرّ، وقد تفرّع منه هذا النّهر الدّافق الذي هو أنت.
هذا الشّعب؛ وقد انتشى من هذا المعين وشرب منه كؤوساً إثر كؤوس من المعارف والمزايا التي شربها منه لا يمكن أن يتحوّل عنه، لا يمكن أن يغيّر مذاق فمه بعد اليوم، لا يمكن أن يتحوّل عنه يميناً أو شمالاً ليبتعد عن ثمراته ونتائجه أبداً.
سيبقى مع المعين وفيّاً له سعيداً به، متمثّلاً اليوم في النّهر الفيّاض المتفرّع عنه، وأنا أعلم أنّ هذا النّهر المعطاء لن ينضب بدوره”.
وبعد تأكيده على أنّ الشّعب السّوريّ لن يغيّر مذاق فمه، يأتي تصريحه بالتّوريث، مع يقينه بأنّ الله سينصر بشّار الأسد، مسدياً نصيحته للوريث القادم بطريقة فيها المزيد من التدليل على يقينه بصلاح حافظ الأسد في حياته الخاصّة قبل العامّة؛ فيقول:
“سيادة الفريق:
إنّك اليوم وريثُ والدك، وإنّي لأعلم أنّ الحمل ثقيل، ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
إنّني يا سيادة الفريق على يقينٍ بأنّ الله سينصرك، وبأنّه لن يتخلّى عنك، غير أنّي أذكّرك أيضاً بما ذكّرتُ به قائدنا الرّاحل، على أنّه لم يكن ناسياً، ولكنّه كان ينتشي بسماع ما يتفاعل معه.
ذكّرتُه بضرورة الالتجاء إلى الله، بالسّرّ قبل العلن، وهذا ما كنت أعرفه من قائدنا الرّاحل، في السّنوات التي عرفته ولازمته فيها على أقلّ تقدير.
ربّما لم يكن يعرف ذلك عنه كثيرٌ من النّاس، لكنّك تعلم كما أعلم أنّه كان صادق الالتجاء إلى الله في حياته الخاصّة”.
ولم ينسَ الدّكتور البوطي أن يوجّه في ختام كلمة التّعزية التّهنئة الاستباقيّة للشّعب السّوري على أنّه انتقل بالوراثة إلى حكم بشّار الأسد، فقال:
“وإنّي لأهنّئ هذا الشّعب السّوريّ بأنّه لم ينتقل من هذه المظلّة الوارفة إلى الشّمس المحرقة، لا بل لا يزال يتفيّأ ظلاً وارفاً، ولا يزال يسيرُ مع النّهر الدّافق المتفرّع مخن ذلك المعين.
أهنّئ؛ ولسوف يعلم العالم العربيّ أنّ عليّ أن أهنّئه كلّه أيضاً”.
وهكذا طويت صفحة العلاقة مع حافظ الأسد، لتبدأ صفحةٌ جديدة للدّكتور البوطي مع بشّار الأسد؛ فيها الكثير من الاختلاف مع علاقته بحافظ الأسد، فهل تعامل بشّار الأسد مع البوطي كما تعامل معه والده؟ وهل كان البوطي ينظر لبشّار الأسد كما كان ينظر لحافظ الأسد؟ هذا ما سنجيبٌ عنه بإذن الله تعالى في المقال القادم.
(المصدر: عربي21)