البوطي.. الاشتباك مع الفلسطينيين بداية التّسعينيات
بقلم محمد خير موسى
عقب مؤتمر مدريد للسّلام الذي انعقد في 30 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1991م وشارك فيه النّظام السوريّ؛ رفع حافظ الأسد شعار “السّلام خيارٌ استراتيجيّ”، وبدأت الماكينة الإعلاميّة للنّظام تروّج للسلام العادل والشّامل، والتّشكيك في نيّة “إسرائيل” ورغبتها بالسّلام.
وفي هذا الإطار، بدأ الدّكتور البوطي سلسلة دروس في برنامجه “دراسات قرآنيّة” الذي منحه إيّاه حافظ الأسد على شاشة القناة الأولى من التلفزيون السوري كل يوم أربعاء، يشرح فيه الآيات القرآنيّة المتعلّقة ببني إسرائيل وصفاتهم وطبائعهم ومواقفهم مع نبيّ الله موسى عليه الصّلاة والسّلام.
وفي الأشهر الأولى من عام 1993م، بينما كان الدّكتور البوطي يفصّل القول في أحد المشاهد عن تيه بني إسرائيل وأنّ الله تعالى حرّم عليهم دخول الأرض المقدّسة بسبب عصيانهم؛ ذكر أنّ الله تعالى عاقب الفلسطينيين بسبب معاصيهم فأخرجهم من فلسطين.
بينما كان الدّكتور البوطي يفصّل القول في أحد المشاهد عن تيه بني إسرائيل وأنّ الله تعالى حرّم عليهم دخول الأرض المقدّسة بسبب عصيانهم؛ ذكر أنّ الله تعالى عاقب الفلسطينيين بسبب معاصيهم فأخرجهم من فلسطين
ثارت ثائرة عددٍ من الفلسطينيين الذين راجعوه في الأمر، غير أنّه في خطبة الجمعة أعاد الكلام ذاته وكرّره، مصرّاً عليه ومؤكّداً أن إخراج الفلسطينيين من أرضهم وبلادهم جاء نتيجة الفسوق والعصيان الذي انتشر قبل عام 1948م.
هنا دخلت الفصائل الفلسطينيّة على خط هذا النّقاش والاشتباك، وكان الفصيل الفلسطينيّ الأكثر اشتباكاً هو الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين “القيادة العامّة” التي يقودها أحمد جبريل، وتأتي بعده بدرجة أقلّ الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين التي كان يقودها جورج حبش، لتتحوّل القضيّة إلى معركةٍ كلاميّة مع الدّكتور البوطي، وهنا لا يمكننا إغفال الخلفيّة اليساريّة الماركسيّة لهذين الفصيلين في تلكم الفترة.
أججت الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين “القيادة العامّة” خطباء المساجد الذين قاموا بمهاجمة الدّكتور البوطي على منابر عددٍ من المخيّمات الفلسطينيّة وأججّوا بدورهم المجتمع الفلسطينيّ، لا سيما في مخيّم اليرموك الواقع جنوبي دمشق والذي يوصف بأنّه عاصمة الشّتات الفلسطيني.
كما استخدمت في هذه المعركة المقالات التي بدأت تنشر في مجلّتي “إلى الأمام” النّاطقة باسم الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين “القيادة العامّة”، ومجلّة “الهدف” النّاطقة باسم الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين.
أسهمت هذه الحملة في تشكيلِ رأي عام سلبيّ في الوسط الفلسطيني تجاه الدّكتور البوطي، الذي غدا في عرف الكثيرين “يسيءُ للفلسطينيين ولا يحبّهم”
أسهمت هذه الحملة في تشكيلِ رأي عام سلبيّ في الوسط الفلسطيني تجاه الدّكتور البوطي، الذي غدا في عرف الكثيرين “يسيءُ للفلسطينيين ولا يحبّهم”.
كان أكثر هذه المقالات انتشاراً وتأثيراً المقال الذي كتبه ناهض منير الريّس في مجلّة “إلى الأمام” في عددها الصّادر يوم 10 نيسان/ أبريل 1993م. وناهض منير الرّيّس هو من أعلام ورموز حركة فتح، وقد أصبح فيما بعد وزير العدل في السّلطة الفلسطينيّة عام 1999م، وتوفي في غزّة عام 2010م.
كان المقال بعنوان “أنت مخطئ يا بوطي وإليك الأسباب”. وتكمن أهميّة المقال وخطورتُه في أنّ الريّس أخذ القضيّة إلى زاوية أخرى بعيدةٍ تماماً، واتّهم البوطي بأنّه يقصد في كلامه هذا مهاجمة المبعدين إلى مرج الزهور، وهم 415 فرداً من قيادات وأعضاء حركتي حماس والجهاد الإسلامي أبعدتهم “إسرائيل” في يوم 12 كانون الأوّل/ ديسمبر من عام 1992م إلى جنوب لبنان، فأقاموا في الخيام في وسط ظروف قاسية جداً، واهتمام وإكبار من عموم الأمّة الإسلاميّة والعالم الحرّ لِمحنتهم وصمودهم.
وصل المقال إلى المبعدين في مرج الزّهور، وبلغهم أنّ الدّكتور البوطي قام بمهاجمتهم على المنبر، فأثار هذا نقاشاً في أوساط المبعدين وكانوا بين غاضبٍ ساخطٍ ومستاءٍ منزعجٍ ومكذّبٍ لهذه الشّائعة، كما يذكر حسني البوريني في كتابه “مرج الزّهور محطّة في تاريخ الحركة الإسلاميّة في فلسطين”، فقرّروا إرسال رسالةٍ إلى الدّكتور البوطي يستوضحون فيها عن حقيقة ما نسب إليه من تصريحات.
وفعلاً في درس جامع تنكز الأسبوعيّ تحدّث الدّكتور البوطي عن هذه الرّسالة، وكان ممّا قاله في ذلك الدّرس:
“لقد وصلتني رسالة من المبعدين الأبطال في مرج الزّهور، ووالله إنّي لأتمنّى أن أكون قلامة ظفرٍ في إبهام أحد هؤلاء المبعدين الأبطال”.
ثمّ قال: “إنني ما قلت الذي قلته إلا رغبةً في الإصلاح، فما قلته للفلسطينيين من أنّ الله تعالى أخرجكم من بلادكم بسبب عصيانكم لله تعالى وانتشار الفسوق في أرضكم هو ذاتُه ما قلته للبنانيين، وأنّ الله تعالى أخرجهم من بلادهم بسبب ما انتشر فيها من فجور وعصيان. وقد قلت مثل ذلك للكويتيين قبل أن يجتاحهم صدّام حسين؛ فقد قلت لهم: لقد تسربّت إليكم مفاسد لبنان فترقّبوا أن يصيبكم كارثة الإخراج. وأنا أقوله للدّولة هنا ولأبناء بلدي هذا: إن استمرار تسرّب مظاهر الفجور والعصيان ستكون عاقبتُها أن يتمّ إخراجنا من ديارنا وأرضنا”.
تدخل حافظ الأسد بشكل مباشر فطلب من البوطي التّوقف عن الحديث في الموضوع، كما طلب من الفصائل الفلسطينيّة التوقف عن إثارة هذا الحديث في المخيمات لأنّ مآله سيؤدّي إلى فتنةٍ لا تخدم البلد في ذلك الحين
في هذا الكلام نفى الدّكتور البوطي أن يكون قد تهجّم على المبعدين في مرج الزّهور، لكنّه عاد ليؤكّد على كلامه الذي قاله، فلم تنته المعركة ولم يتوقّف التّراشق بينه وبين الفصائل الفلسطينيّة وعددٍ من خطباء المخيّمات الفلسطينيّة، حتّى تدخل حافظ الأسد بشكل مباشر فطلب من البوطي التّوقف عن الحديث في الموضوع، كما طلب من الفصائل الفلسطينيّة التوقف عن إثارة هذا الحديث في المخيمات لأنّ مآله سيؤدّي إلى فتنةٍ لا تخدم البلد في ذلك الحين.
لكن هل تغيّر المزاج العام الفلسطينيّ تجاه الدّكتور البوطي بعد ذلك؟ وكيف كانت علاقاته من الفصائل الفلسطينيّة الإسلاميّة لا سيما حركة حماس بعد استقرارها في دمشق؟ وما أهم وأبرز مواقفه من القضيّة الفلسطينيّة؟
هذا ما سنجيبُ عنه في المقال القادم بإذن الله تعالى.
(المصدر: عربي21)