البوطي.. إذ قلبَ له بشّارُ الأسد ظهرَ المجنّ
حرص بشّار الأسد على أداء صلاة الجمعة في مسجد الرّفاعي بين الفينة والأخرى، حيث كان يخطب الشّيخ أسامة الرّفاعي، رأس جماعة زيد في دمشق والذي كان مبعداً من الثّمانينات وعاد إلى سوريا عام 1993م.
فسّر عددٌ من السّوريين وعددٌ من الباحثين بعد ذلك أنّ هناك تغييراً في تحالف النّظام وانتقاله من الدّكتور البوطي إلى الشّيخ أسامة الرّفاعي الذي كان يحرص بشّار الأسد على إظهار حالة من الحميميّة والقرب منه، وذهبوا إلى أنّ عمليّة استبدال المواقع تمّت بإبعاد الدّكتور البوطي وتقريب الشّيخ أسامة الرّفاعي، غير أنّ هذا التّقييم مجانبٌ للصّواب، فما كان يجري هو محاولةٌ من بشّار الأسد لتصدير نفسه جماهيريّاً من خلال هذا السّلوك الذي لن يطول كثيراً.
قلب ظهر المجنّ للمؤسسة الدّينيّة
بعد استلام بشّار الأسد الحكم عام 2000م قلبَ ظهرَ للمؤسّسة الدّينيّة برمّتها، وحاول تصدير نفسه على أنّه واحة العلمانيّة القادمة، وأعانته بعد ذلك على ترسيخ هذه الصّورة زوجته أسماء الأخرس.
حاول بشّار الأسد في سنواته الأولى من الحكم تكريس صورة الدّولة العلمانيّة التي لا علاقة لها بالدّين بل التي لها موقف سلبي من الدّين، وذلك من خلال تصريحاته الإعلاميّة من جهة والممارسات على الأرض من جهةٍ أخرى.
كان بشّار الأسد يحاول التّحلل من تبعة العلاقة مع المؤسسة الدّينية التي ورثها من والده حافظ الأسد والتي أنتجتها ظروف مركبة في زمن الأسد الأب، بينما كان الابن كان يرى أنّه لم يعد فعليّاً بحاجةٍ إلى هذه العلاقة، بل بدأ يتعامل معها على أنّها نوع من العبء الذي ينبغي التّحلل منه. فعلى سبيل المثال كان اللقاء الخاصّ الأوّل بينه وبين مفتي الجمهوريّة الشّيخ أحمد كفتارو في نهايات عام 2012م، أي بعد أكثر من سنتين على استلامه الحكم.
كما شملت عمليّة التحلل من هذه العلاقة إهمال أبسط المشاهد البروتوكوليّة التي حرص عليها حافظ الأسد مع المؤسسة الدّينيّة، فعلى سبيل المثال كان حافظ الأسد حريصاً على تقليدٍ سنويّ لم يتركه طيلة فترة حكمه، يتمثّل في إقامة مأدبة رمضانيّة للعلماء والدّعاة والخطباء الذين كانوا يرون في ذلك ضرباً من التّكريم والإجلال لأهل العلم والتّقدير لهم، وكان حافظ الأسد يحرص في هذه الموائد الرمضانيّة على الاستماع للعلماء والتجاوب مع مطالبهم الشّخصيّة وإعطاء الوعود في مطالبهم العامّة، وكان يحاول الظهور بمظهر القيام بخدمة العلماء بنفسه.
بعد استلام بشّار الأسد الحكم عام 2000م أبقى على عادة المأدبة الرمضانيّة السنويّة لكنّه غيّر الشّريحة فلم تعد المؤسسة الدّينيّة هي الحاضرة، بل غدت الدّعوات تشمل مرّة عمّال النّظافة، ومرّة الفنّانين، ومرّة الكتّاب والصّحفيين، وهكذا قام في سنواتٍ عديدة بتجاهل واضح لدعوة المؤسسة الدينيّة التي رأت في ذلك مظهراً من مظاهر ازدرائها والاستهانة بها.
لقد قلب بشّار الأسد ظهر المجنّ للمؤسّسة الدينيّة في بداية حكمه، واستمرّ ذلك إلى أن تمّ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير عام 2004م، هذا الاغتيال الذي كان زلزالا حقيقيّاً أصاب النظام السوري، فحاول مجدّداً الالتفات إلى المؤسسة الدينيّة لكن بطريقة أقلّ وضوحاً وأكثر استخداماً لها.
وفي هذا الإطار تنقل الدكتورة لين الخطيب في كتابها “الصحوة الإسلامية في سورية.. بروز العَلمانية البعثية وسقوطها”، أنّ بشار الأسد صرّح أمام المؤتمر القُطري العاشر لحزب البعث في تموز/ يوليو عام 2005 أن على السوريين أن يدعموا الصّحوة الإسلامية المعتدلة عوضاً عن الإشاحة بوجههم عن الموضوع، مؤكداً على أنّه من الخطأ الكبير ألا نعطي للجماعات الإسلامية المعتدلة منبراً لتعبّر عن وجهة نظرها لأن الكبت لا يؤدي إلا إلى التطرّف.
ولئن قال بشّار الأسد هذا الكلام فعلاً، غير أنّ ما كان يتمّ على أرض الواقع خلافه بل نقيضه. ففي أحلك السّاعات التي مرّ بها بشّار الأسد كما في عام سقوط بغداد أو ما بعد اغتيال رفيق الحريري؛ لم ينتهج نهج والده في الأزمات المماثلة بتقريب المؤسسة الدّينيّة بل رسّخ تهميشها وإبعادها عن المشهد.
قلب ظهر المجنّ للدّكتور البوطي
لم يرث بشّار الأسد من أبيه العلاقة المتميّزة مع الدّكتور البوطي، بل على العكس تماماً؛ وإن كان بشّار الأسد قد همّش المؤسّسة الدّينيّة عموماً منذ استلامه الحكم إلى بدايات عام 2011م، فقد حرص على توجيه رسائل بالغة السلبيّة والإهانة لشخص الدّكتور البوطي خلال هذه السّنوات.
لم يعد بإمكان الدّكتور البوطي لقاء بشّار الأسد كما كان يلقى والده كما شاء، بل أغلقت في وجهه الأبواب، فلم يحظَ بأيّ لقاء خاصّ من بشّار الأسد من عام 2000م وحتّى 2010م سوى مرّة واحدة، واقتصرت اللقاءات معه على تلكم اللقاءات العامّة التي كانت تتمّ ضمن وفود من العلماء بدعوة من القصر، وهي قليلة جداً خلال هذه الفترة.
كان الدكتور البوطي يرفع الطلبات بشكلٍ متكرر للقاء بشّار الأسد فكان يأتيه الرد بالاعتذار عن اللقاء دوماً، وتتمّ إحالته إلى مدير القصر محمّد ديب دعبول (أبو سليم) أو إلى اللواء هشام بختيار.
موقف بشّار الأسد من الدّكتور البوطي في تقديري يرجع لأسباب عدّة أهمّها:
أولاً: بغض بشّار الأسد لأخيه باسل، حيث تسبّب تمييز والده لأخيه باسل وإيلاؤه عناية خاصة مع تهميشه في حياة باسل؛ بإحداث نقمةٍ شخصيّة على أخيه باسل، وكان كذلك ناقماً على الأشخاص المحسوبين على باسل أيضاً وكانوا يعملون على تهيئته للحكم، وكان بشّار الأسد يرى في الدكتور البوطي أحد أبرز الأشخاص الذين كانوا يعدّون باسل لاستلام مقاليد الأمور بعد والده حافظ الأسد، ومن المعروف عن بشّار الأسد أنّه شخصيّة تحكمها الأحقاد الصغيرة والشخصيّة.
ثانياً: كان بشّار الأسد يحاول أن يظهر بمظهر المستقل عن عباءة حافظ الأسد القادر على بناء مجده منفرداً، وكانت العلاقة مع البوطي من أهمّ معالم الانتماء إلى عباءة حافظ الأسد، فعمل على الخروج منها والتحلل من هذه العلاقة.
كان لهذا السّلوك من بشّار الأسد مع الدكتور البوطي انعكاسه على العلاقة بين الدكتور البوطي والنظام خلال الفترة ما بين عامي 2000م و2011م، ومن أبرزها الموقف من المعاهد الشرعيّة، واعتقال أساتذة كليّة الشريعة، والموقف من التيّار الإسلامي، والموقف من المنقّبات في التدريس، وصولاً إلى مسلسل ما ملكت أيمانكم، وهذه النّقاط هي ما سنتحدّث عنها – بإذن الله تعالى – في المقال القادم.