البوطي؛ اتحاد علماء بلاد الشّام ومأسسة التّحالف مع النّظام
بقلم محمد خير موسى
تلفّت النّظام يمنةً ويسرةً فوجد عددًا من المؤسسات المشيخيّة والعلمائيّة تقفُ بشراسةٍ ضدّه وهذه المؤسّسات أقربُ إلى الطّابع المستقلّ وفي مقدّمتها الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين الذي كان على رأسه آنذاك الدّكتور يوسف القرضاوي الذي كانت الجماهير الثّائرة تترقّب خطبَه التي يساند فيها الثّورة منذ اليوم الأوّل لانطلاقتها.
بينما لم يجد في صفّه إلّا بعض الجماعات المشيخيّة المحليّة التي توجّهها المؤسّسة الرّسميّة المتمثّلة بوزارة الأوقاف؛ وليسَ بين هؤلاء من أحدٌ له وزنٌ ثقيلٌ إلّا الدّكتور البوطي، فكان لا بدّ من تحرّك مضادّ لتقوية جبهة التحالف الدّيني معه في مواجهة العلماء المتحالفين ضدّه.
-
الإخراج الأمني الرّديء
بينما كنتُ في منزلي في إسطنبول في ليلةٍ من منتصف شهر شباط “فبراير” عام 2012م وصلتني رسالةٌ من إحدى الشّخصيّات التي كنت على علاقة صداقةٍ معها قبلَ الثّورة؛ وكان يفكّرُ بالخروج من سوريا ثمّ عدل عن قراره ولذا فإنني أتحفّظ على ذكر اسمه وموقعه، وأخبرني أنّه حصل على تلكم الرّسالة في ذلك اليوم من شخصيّة أمنيّة موثوقة؛ كانت الرّسالة عبارة عن رسالة معنونة “سرّي للغاية” موجّهة من مكتب الأمن القومي الذي يرأسه اللواء هشام إختيار إلى وزير الأوقاف محمّد عبد الستّار السيّد.
تنصّ الرّسالة على تكليفٍ مباشر من اللّواء هشام إختيار لوزير الأوقاف محمّد عبد الستّار السيّد بالعمل على تشكيلِ كيانٍ علمائيّ باسم “اتّحاد علماء بلاد الشّام” يهدفُ بشكلٍ رئيسٍ لمواجهة الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين في مواقفه وتوجّهاته، ومناهضة “الإرهابي يوسف القرضاوي” ويشكّل مرجعيّة بديلةً مقبولةً من السّوريين والعرب لحشد مواقفهم خلف القيادة السّوريّة.
وينصّ الكتاب على تكليف وزير الأوقاف بأن يجعل على رأس هذا الكيان الدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطي وذلك ليشكّل ثقلًا موازيًا لوجود الدّكتور يوسف القرضاوي على رأس الاتحاد العالمي.
عمل الوزير السيّد على تنفيذ الأوامر واجتهد في إخراج المشهد بطريقةٍ دراميّة توحي بتنفيذ الفكرة بشكلٍ تلقائيّ وبمبادرةٍ من العلماء أنفسهم، وكانت القضيّة الفلسطينيّة خيرَ فكرةٍ ينبثق عنها هذا الاتّحاد لينال مكانةً وقيمةً مستمدّة من مكانة هذه القضيّة وقدسيّتها.
وفي الحادي عشر من شهر نيسان “إبريل” من عام 2012م انعقد في مكتبة الأسد الوطنيّة بدمشق برعاية بشّار الأسد وبدعوة من وزارة الأوقاف “مؤتمر علماء بلاد الشّام” وكان المؤتمر بعنوان “الأقصى صرخة في وجدان الأمة” وفي الجلسة الأولى من المؤتمر ناقش الحاضرون مقترحًا مقدّمًا من “عددٍ من أعضاء المؤتمر” لتشكيل اتّحادٍ للعلماء يضمّ علماء بلاد الشّام وهي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ولاقت الفكرة قبولًا عامًّا ليصار إلى تشكيل هيئةٍ تأسيسيّة من ستّين من الأعضاء موزعين على الشكل الآتي؛ من سوريا خمسة وعشرون عضوًا، وعشرون عضوًا من لبنان، وعشرة أعضاء من فلسطين، وخمسة أعضاء من الأردن.
ثمّ انتخب الدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطي رئيسًا للاتّحاد، بينما انتخب كل من السيّد عباس الموسوي من لبنان ـ وهو من علماء الشيعة الإماميّة ومحسوبٌ على حزب الله ـ والشيخ تيسير التّميمي من فلسطين وكان يشغل منصب قاضي القضاة سابقًا وكان مقرّبًا من الرّئيس ياسر عرفات، والدّكتور محمّد هشام سلطان من الأردن وهو مقرّبٌ من إيران؛ نوّابًا للرّئيس.
اللّافت في الأمر أنّ الشّيخ تيسير التّميمي لم يحضر الاجتماع وقد أعلنَ منظمو المؤتمر أنّه لم يستطع الخروج بسبب منع الاحتلال الصّهيوني له، ليعلن هو بعد فترةٍ يسيرةٍ بأنّه قاطع الاجتماعات لانحياز الاتّحاد إلى نظام بشّار الأسد الذي يرتكب المجازر بحق شعبه، فتمّت إقالته بصمت وعُيّن مكانه الشّيخ الفلسطيني عبدالله كتمتو، وهو من فلسطينيي سوريا وكان خطيبًا لجامع الوسيم في مخيّم اليرموك، وهو معروف بولائه للنّظام وقربه من أحمد جبريل الأمين العام للجبهة الشعبيّة “القيادة العامّة” وبقربه كذلك من إيران إذ كان عضو لجنة الصّداقة الإيرانيّة الفلسطينيّة.
-
مأسسةُ التّحالف مع النّظام
أنا واثقٌ تمام الثّقة من خلال معرفتي اللّصيقة بالدّكتور البوطي أنّه لم يكن على علم بالكتاب الذي تمّ توجيهه من اللواء هشام إختيار ولم يتمّ إخباره به، وإنّما شارك في تلكم المسرحيّة وهو يظنّها فعلًا من مبادرات العلماء.
كما أنّني واثقٌ أنّه كان سعيدًا بتلكم المبادرة التي تواجه الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي كان يصفه الدّكتور البوطي بأنّه كيان إرهابيّ وكان يكنّ له ولرئيسه الدّكتور يوسف القرضاوي الكثير من العداء.
وعداء الدّكتور البوطي للقرضاوي سابقٌ بكثيرٍ على الرّبيع العربيّ وهو إن كان يرسل إليه بعض كتبه ويطرّزها بإهداءاتٍ تعبّر عن بالغ الاحترام والتّقدير والامتنان إلّا أنّه في مجالسه الخاصّة أو مع شرائح معيّنة من طلابه كان يصبّ عليه جام غضبه ويصفه بأقسى الأوصاف.
من الواضح أنّ النّظام أراد أن يقول من خلال الاتحاد: ليس فقط علماء سوريا هم المنحازون لبشّار الأسد ومواقفه بل علماء الأمّة أيضًا.
ويمثّل هذا الاتّحاد نموذجًا عمليًّا لمحاولات النّظام توظيف المؤسسة الدّينيّة لخدمة أهدافه وتطلّعاته، وحشد كلمة العلماء في مواجهة المؤسّسات الدّينيّة المعارضة.
كما أنّه يمثّل انتقال الدّكتور البوطي من حالة التحالف الشخصي مع نظام بشّار الأسد إلى حالة مأسسة التّحالف أو محاولة ذلك.
وفعلًا عقب ذلك صدرت بيانات ومواقف تدين مواقف الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقد كان الدّكتور البوطي يهاجم الاتّحاد العالمي بين الفينة والأخرى ويقسو عليه بشدّة في التوصيفات دون التعرّض العلنيّ لشخص الدّكتور يوسف القرضاوي بخلاف ما كان يجري في لقاءاته الخاصّة وجلساته المحدودة.
كما كان الاتحاد مظلّة تجمع تحتها العلماء والدّعاة المتحالفين مع نظام بشّار الأسد من غير السّوريين لا سيما من علماء بلاد الشّام.
ومن الجدير ذكره هنا أنه عقب اغتيال الدّكتور البوطي ورثه ابنه الدّكتور محمّد توفيق البوطي في رئاسة الاتحاد كما وورثه في خطابة منبر الأموي.
هنا بدأ الاتّحاد يشهد تطورًا في خطابه العدائيّ تجاه شخص الدّكتور القرضاويّ ففي الشّهر السّادس صدر بيان يهاجم شخص الّدكتور يوسف القرضاوي والاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين متهمًا إياه بالتّكفير والخضوع للأجندات التكفيريّة والحزبيّة.
ومما جاء في البيان: “إنّ فتوى القرضاوي حول تكفير فئات من المسلمين وغلوّه المستهجن يفقد هذا الاتحاد مصداقيّته لكونه يمثّل علماء من الأمة وخصوصًا أنه خرج بفتاويه عن القواعد الشرعية والنصوص المأثورة وأحاديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم”.
كما جاء في البيان أنّ ما صدر من فتاوى للقرضاوي لم يفاجئ أحدًا من علماء اتّحاد بلاد الشّام ولا غيرها كونه صدر عن خلفيّات حزبيّة مرتبطة بمخطّطات واضحة المعالم والأبعاد والأهداف لم تعد خافية على أحد!
كما بدأ اتّحاد علماء بلاد الشّام هجمةً شرسة على تركيا ومواقفها وقد تدنّى في خطابه فبدأ باستخدام المصطلحات ذاتها التي يستخدمها إعلام نظام بشّار الأسد؛ فيقول في إحدى بياناته على سبيل المثال: “إنّ ممارسات النّظام التركي القذرة وأساليبه الهمجية في نشر الظلم والظمأ والموت هنا وهناك قد بلغت درجةً منحطّة لا ينبغي للرّأي العام السّكوت عنها”.
وكذلك استخدام مصطلحات مثل “أوهام السلطنة العثمانيّة” وغيرها من عبارات النّاشطين المؤيّدين لنظام بشّار الأسد.
-
بين الرّيادة والرّداءة
إنّ فكرةَ تشكيل اتحاد للعلماء يضمّ علماء بلاد الشّام لهو فكرةٌ رائدةٌ من حيث المبدأ، فهو يسهم في تواصل العلماء وجمع كلمتهم وتوحيد مواقفهم تجاه المستجدّات المتسارعة في هذه المنطقة من العالم التي تغدو هذه الأيّام الأكثر اشتعالًا والأسرع أحداثًا.
غير أنّ هذه الفكرة الرّائدة تتجلّل بالرّداءة في الإخراج والدّور والأفعال والمواقف حين تكون وراءها أجهزة أمنيّة أدمنت القتل وما تزال تقتات على الظلم والطغيان.
ولذلك يمكننا القول دون مواربة: إنّ اتّحاد علماء بلاد الشّام فشل فشلًا ذريعًا في أن يكون جسمًا للعلماء، بل فشل أيضًا في المراد منه وهو مأسسة التحالف مع نظام بشّار الأسد في مواجهة الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين في مواقفه وآرائه.
لقد نجح النّظام السوريّ في توظيف هذه المؤسّسة الدّينيّة؛ غير أنّه فشل في أن يجعل لها تأثيرًا أو امتدادًا خارج دائرة البيانات والخطابات عديمة التّأثير ليكون هذا الاتّحاد ظاهرة صوتيّة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة حتّى بوجود الدّكتور البوطي على رأسه.
كما أنّ هذا الاتحاد انتهى فعليّا بموت الدّكتور البوطي الذي كان يراد له أن يكون شخصًا فاعلًا في تجاوز الدعم الذّاتي لنظام بشّار الأسد إلى حشد الدّعم له من العمائم خارج حدود سوريا غير أنّ الاغتيال حال دون ذلك ومات الاتحاد عمليّا بموت رئيسه.
ولكن السّؤال الأهم هو هل تلتقط مؤسسات علماء بلاد الشّام المعارضة لنظام بشّار الأسد والتي تحترم نفسها وعلمها الشرعيّ هذه الفكرة فتعيد إحياءها على الوجه الذي يستحقّ؟!
وهنا لا بدّ من التوقف مليًّا مع موقف الدّكتور البوطي من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وموقفه الشخصي من الدّكتور يوسف القرضاوي قبل الثّورة وردوده على القرضاوي خلال الثّورة، وكيف شكّل موقفه من القرضاوي موقفه من الثّورة نفسها؟
هذا ما سنجيب عنه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم
المصدر: سوريا تي في