تحتل «البوذية» المرتبة الرابعة في قائمة أكثر الديانات أتباعًا حول العالم، فيقدر عدد من يدينون بها بأكثر من نصف مليار شخص. وتشكل البوذية مع «الهندوسية» وعدد من ديانات شرق آسيا نمطًا يختلف كلية عن الديانات السماوية. حتى أن لهم مفهومًا خاصًا للآلهة، يصبحون معه أقرب إلى آلهة اليونان منهم إلى الإله التوحيدي.
لذا، ننبه أولًا إلى أن «سيدهارتا جوتاما»، المعروف باسم «بوذا»، والمولود في القرن السادس قبل الميلاد، ليس بإله عند البوذيين، وإن ظل الشخصية المركزية في الديانة البوذية، ولعله كان إلهًا في وقت ما! علاوة على هذا، فهو ليس البوذا الوحيد. فهذا لقب يعني «المتيقظ» أو «المتنور». لإيضاح ما سبق من عبارات قد يجدها البعض ملغزة، سنتطرق أولًا إلى الهندوسية في عجالة، فقد كانت – وما تزال – أكثر الديانات انتشارًا في الهند في ذلك الوقت، وعنها سترث البوذية الهيكل العقدي العام.
توطئة: الهندوسية
تعتبر عقيدة «التناسخ»[1] جوهر الهندوسية. وتنص على أن الكائنات لا تحيا حياة واحدة، ثم تساق إلى الحساب والدار الآخرة مثلما تؤمن الديانات الإبراهيمية مثلًا، بل تغادر الأرواح هذا العالم لتعود إليه ثانية، في دورة لا نهائية من الميلاد، والحياة، ثم الموت. تعرف هذه الرحلة في الهندوسية باسم «سامسارا» (الهيام). ويخوض هذه الدورة جميع الأحياء، بما فيهم الحشرات والحيوانات والآلهة (والنباتات عند البعض). فكل ما في الكون من أرواح تهيم بين ولادة وأخرى، من جنس إلى آخر، ومن عرق إلى آخر، ومن حيوان إلى آخر، تبعاً لما تكتسبه من كارما (أفعال) خلال الحياة الأخيرة. فمن يرتكب الأفعال السيئة يولد في هيئة أقل مكانة من السابقة، والعكس بالعكس، حتى قد يولد الضفدع الجيد في حياته التالية ملكًا أو إلهًا.
ربما تبدو هذه الدورة الأزلية الأبدية جذابة في الوهلة الأولى، باعتبارها فرصة للتمتع بما فاتنا من لذات في الحياة السابقة، أو هو نوع من الخلود الذي لطالما حلم به الإنسان من قديم الأزل، ناهيك برحلة جلجامش. لكن الهندوسي الذي قاسى مآسي الحياة حتى أبصر الألم المستتر وراء كل فرحة – مثلما سيكتشف بوذا هو الآخر – جعل همه كسر سلسلة الميلاد هذه والفكاك من الوجود المؤقت، والاتحاد بالمطلق، عند بلوغ الـ«موكشا»[2] (يقابله مصطلح نيرفانا في البوذية)، هذا الوجود الغامض الشبيه بجنة روحانية أبدية. ولا يتأتى ذلك إلا باتباع عدد من التعاليم الصارمة ولجم الرغبات والتطلعات ومجاهدة النفس. لكن إذا لم يكن للهندوسي عزيمة كافية، أو رغبة في الفكاك، فعليه بأخف الضررين، أي القيام بالأعمال الصالحة، وبالتالي اكتساب كارما جيدة، طمعًا في حياة قادمة أفضل.
في إحدى قصص الـ«أوبنيشاد»، التي تشكل الجزء الأخير من كتابات الـ«فيدا»، وهو النص الأهم في الديانة الهندوسية، نقرأ قصة لقاء الفتى «ناشيكيتا» بإله الموت «ياما». خلال هذا اللقاء[3]، يتعلم الفتى الحقيقة الكبرى، مما سيسمح له بكسر دورة الموت والميلاد لاحقًا. كانت هذه الحقيقة كما قالها ياما:
الحكيم لا يولد ولا يموت، إنه لا يأتي من أي مكان، إنه لا يصبح أي شيء. إنه غير مولود، وأبدي، وأزلي، ودائم، وهو لا يقتل إذا قتل الجسد.
قصة البوذا
إذن، الشخصية المركزية في الديانة البوذية، التي نسرد هنا قصتها[4]، هي بوذا من بين كثيرين غيرها تمكنت من كسر هذه السلسلة. وقد عاش هذا البوذا آلاف الحيوات من قبل، وربما ملايين، ذكرت نصوص الـ«جاتكا» (قصص الميلاد) قصة بعضها، لكن قصة آخر هذه الحيوات، حيث سيبلغ هدفه أخيرًا، أي قصة الفتى سيدهارتا جوتاما، هي الأهم في هذا المقام.
نشأة جوتاما
في عام 566 قبل الميلاد أنجبت الأميرة «مايا»، لزوجها الأمير «سودهودانا»، طفلًا أسماه سيدهارتا جوتاما. لكن فترة الحمل والولادة صاحبتها علامات دلت الحكماء على أن هذا الطفل سيصبح «تشاكرابارتين» أي محركًا للعجلة. وهذا لقب يطلق على اثنين، حاكم عظيم يحرك عجلة الفتوحات، أو رجل دين حكيم يحرك عجلة التعاليم الدينية ومسار الكون (دارما). عندها، خشي الأب من أن يصير ابنه جوتاما – الذي توفيت والدته بعد ميلاده بفترة قصيرة – ناسكًا يزهد في وراثة الملك، كما طمع في أن يصير ملكًا عظيمًا، مما دفعه إلى إحاطته بالملذات والمتع طوال حياته، وحجبه عن كل ما يثير الحزن أو الألم، كما حرص على تزويجه مبكرًا.
لكن بمرور السنوات، مل الأمير الشاب – الذي لم يتم عامه الثلاثين بعد – كل ما حوله، فقرر الخروج مع خادمه في جولة خارج القصر. خلال هذه الجولة صادف الأمير أربعة مشاهد ستغير عالمه؛ في البداية، رأى رجلًا عجوزًا. ثم رأى رجلًا مريضًا. وبعده رأى جثة محمولة على الأعناق. صدمت تلك المشاهد الثلاثة الشاب الذي كان يجهل كل شيء عن المرض والموت. وأخيرًا رأى الأمير ناسكًا هندوسيًا نذر حياته لإيقاف عجلة التناسخ. وهو ما سيدفعه إلى مغادرة القصر خفية بهدف التحول إلى ناسك متجول سعيًا وراء اكتشاف السبيل لتخليص البشر من عذاباتهم.
سيقرر جوتاما هذا عقب ميلاد ابنه الوحيد، الذي رأى فيه الحقيقة التي أصبح يراها في كل شيء، وهي حتمية المعاناة والشيخوخة والمرض، تلك الحقيقة التي تعني أن كل متعة أو سعادة هي حالة مؤقتة، لن تلبث إلا أن تفضي إلى المعاناة ثانية. يومها، خلع الشاب ثياب الملك ومضى يبحث عن سبيل إلى إيقاف هذه المعاناة الحتمية.
الطريق إلى اليقظة
غادر الأمير قصره خلسة في إحدى الليالي، وإلى جوار أحد الأنهار خلع ملابسه ومجوهراته واستبدل بها أسمالًا بالية. وقص شعره الطويل. وطلب من خادمه حمل هذه الأشياء إلى القصر بعد أن ودعه. ليقف بعدها وحيدًا في البرية للمرة الأولى في حياته.
رأى جوتاما خلال رحلته من صنوف المعاناة ما لم يره من قبل. كما تتلمذ على يد معلمين روحانيين عدة، ممن تمردوا على تراث الهندوسية الذي يحجر التنسك إلا على أبناء رجال الدين، المؤهلين لتلك المكانة بميلادهم. كان جوتاما يرى أن المنبوذ لا يصير منبوذًا بميلاده، بل بأفعاله، وكذا الناسك لا يصير ناسكًا بميلاده، بل بأفعاله. مارس جوتاما الرياضة الروحية (Meditation) المنتشرة آنذاك، وكانت تعتمد بالأساس على التحكم بالتنفس، وأحيانًا الصوم، وأنواع أخرى من مجاهدة النفس بغرض بلوغ درجة عليا من الوعي. لكنه لم يجد في ذلك مبتغاه، رغم بلوغه درجة من مجاهدة النفس جمعت حوله عددًا من التابعين، ودفعت المعلمين إلى عرض مناصبهم عليه ليحل محلهم في التدريس.
لكن جوتاما لم يتوقف هنا، بل شرع في ممارسة درجات هائلة من مجاهدة النفس، عبر الصوم المضني وإهمال حاجات الجسد وإنهاكه والتوقف عن الاغتسال وكتم الأنفاس لفترة طويلة. وعندما كان ذلك يوشك أن يقضي عليه، أدرك أن هذا ليس بالسبيل إلى الخلاص أيضًا.
عندما قطع جوتاما صيامه، انفض الأتباع من حوله، لكنه لم يلق لهذا بالًا. وفي أثناء سيره مر بموسيقي يضبط آلة السيتار الخاصة به، فلاحظ أن الوتر لا يصدر صوتًا إن كان مرخيًا، ولا إن كان مشدودًا بقوة، بل تصدر النغمة المطربة في درجة ما تقع بينهما. ساعتها بزغت فكرة «الطريق الوسط» في ذهن جوتاما. وترى هذه الفكرة أن النفس ليست بالأهمية التي تدفعنا إلى إنعامها وخدمتها، ولا هي بأمر ثانوي يمكن التخلص منه.
جلس جوتاما أسفل شجرة كبيرة، وتعهد بعدم مغادرة المكان قبل بلوغ اليقظة/الاستنارة. وفي جلسته هذه، واجه جوتاما الشيطان «مارا» الذي جاء من ظلمات نفسه هو، ليطلق جيشًا من الشيطان لمهاجمة المتأمل، كما أطلق عليه سهام نارية حولها جوتاما إلى زهرات لوتس أخذت تتساقط حوله، فلجأ مارا إلى إغواء جوتاما مستعينًا ببناته الثلاث، لكنها محاولة باءت بالفشل أيضًا.
التأسيس وملامح المجتمع الأول
أخيرًا، بلغ جوتاما اليقظة/الاستنارة في سن الخامسة والثلاثين، وجلس سبعة أيام أسفل الشجرة في حالة صفاء تام، توصل خلالها إلى طريقة كسر هذه السلسلة المستمرة من الميلاد والموت. ساعتها ولدت البوذية، وأصبح جوتاما هو «الشاكياموني»، أي حكيم قبيلة «شاكيا»، أو بوذا، أي الذي استيقظ من غفلته وأدرك حقيقة الوجود. لقد بلغ النيرفانا (تعني انطفاء النار)، وما عاد يعاني من الجهل والرغبة اللذين يمدان عجلة التناسخ بالطاقة.
ترك بوذا الشجرة، وراح يبشر بديانته/فلسفته للخلاص. ومع تنقله من قرية إلى أخرى، التف حوله مجتمع ضخم ومتنوع من الأتباع، انقسم إلى ثلاث طوائف: الرهبان والراهبات والعلمانيين (أي غير المنخرطين في السلم الكهنوتي، بالمعنى الديني المسيحي). وتختلف الراهبات عن أمثالهن من الرجال بعهود ثمانية إضافية، تسمى بالقواعد الثقيلة[5]، تفضي إلى شغلهن مكانة أكثر تواضعًا من الرهبان الذكور. مثل حظر تولي الراهبة مهمة تعليم الرهبان الذكور، مهما كان تفوقها الروحاني عليه. لكن باستطاعة الراهبات بلوغ النيرفانا – كما صرح بوذا – بالضبط مثل الرهبان. في الواقع، كان لمجتمع الراهبات دور كبير في انتشار البوذية في فتراتها الأولى.
أما العلماني البوذي، فمن مهامه الرئيسية تكوين طبقة تحيط بجماعة الرهبان، تسترشد بهديهم وتقوم نيابة عنهم بالتعاملات المادية والاتجار، ومن ثم الإنفاق على هؤلاء الرهبان والراهبات بما يمكنهم من عيش حياة الرهبنة. لذلك كان الجود من أفضل الخصال التي يمكن للعلمانيين البوذيين التحلي بها. كذلك يلتزم العلماني بخمسة التزامات أخلاقية: ألا يقتل، وألا يسرق، وألا يكذب، وألا يغتصب، وألا يشرب المسكرات. يضاف إلى هذه الالتزامات عدد آخر في حالة الرهبان والراهبات، مثل: عدم تناول الطعام بعد الثانية عشرة ظهرًا، وعدم النوم على أسرة ناعمة، وعدم التعامل بالذهب أو الفضة.
وفي عامه الثمانين، توفي بوذا في صمت بين شجرتين، هو ما يعرف بالـ«بارينيرفانا» أي تمام الانطفاء. لقد تحققت النبوءة ودارت عجلة التعاليم الدينية، وترك بوذا تعاليمه خالدة من بعده.
حقائق البوذية الأربعة
بشكل عام، تتفق جميع الفرق البوذية على عدد من التعاليم الرئيسية. أهمها «الحقائق الأربعة السامية»[6] التي تشكل الـ«دارما»، وهي التعاليم الدينية التي تركها بوذا. وفيما يلي هذه الحقائق الأربعة وشرحها:
1- حقيقة المعاناة.
2- حقيقة أصل المعاناة.
3- حقيقة إيقاف المعاناة.
4- حقيقة الطريق الذي يقود إلى الخلاص من المعاناة.
فيما يتعلق بالحقيقة الأولى، أي المعاناة، فلها أشكال ثلاثة. إما معاناة واضحة، ناتجة عن أي ألم جسدي أو نفسي. أو معاناة ناتجة عن التغير، فحتى أكثر الأشياء إمتاعًا يتسبب زوالها في المعاناة. أو معاناة ناتجة عن اعتماد المتعة على وهم أو جهل بحقيقة الأشياء.
ثم الحقيقة الثانية، أي أصل المعاناة، وهو عند البوذية الجهل. لأن الجهل يفضي إلى الرغبة/التعلق، مما يتسبب في استمرار التناسخ. ويرى بوذا أن أشد صور الجهل تأصلًا في النفس هو الاعتقاد بأن الـ«أنا» – أي النفس ذاتها – كيان ثابت، نحتاج إلى إنعامه بالتجارب الممتعة واقتناء الأشياء القيمة.
أما الحقيقة الثالثة، أي إمكانية إيقاف المعاناة، فتستوجب إدراك الحقيقة السابقة، أي إدراك دور الرغبة/التعلق في استمرار التناسخ. وليس ذلك أمرًا يسيرًا، بل قد يستغرق أعمار عدة. لكنه يظل أمرًا ممكنًا لأي شخص، بالضبط مثلما فعلها بوذا.
أخيرًا، الحقيقة الرابعة، أي الطريق إلى إيقاف المعاناة، فله أقسام ثمانية[7]: الفهم الصحيح، والفكر الصحيح، والقول الصحيح، والفعل الصحيح، والارتزاق الصحيح، والجهد الصحيح، والوعي الصحيح، والتركيز الصحيح.
جانب من الخلاف البوذي
أحدثت وفاة بوذا فراغًا هائلًا في المجتمع البوذي، فاجتمع كبار الرهبان، وكونوا مجلسًا لحفظ تعاليمه في صورة مجموعة من المرويات الرسمية، أسفرت في النهاية عن ثلاث مجموعات تدعى «تريبيكاتا» أي «السَّلات الثلاث». لكنها لن تدون إلا بعد قرون من وفاة بوذا. وبعد مرور قرن، عقد المجلس الثاني، بسبب خلاف داخل مجتمع الرهبان لا يعرف كنهه على وجه التحديد. ويعتبر هذا المجلس بداية الانقسام الكبير في البوذية. إذ نتج عنه تشكل فرقتين بوذيتين، تفرع عنهما المذهبان الرئيسيان الآن:
1- مذهب «ثيرافادا» (طريق الأقدمين)[8]، الذي يهيمن على البلاد البوذية في الجنوب الشرقي من آسيا (عدا فيتنام).
2- مذهب «ماهايانا» (المجتمع العظيم)[9]، الذي يهيمن على البلاد البوذية في شمال وشرق آسيا.
تختلف الفرقتان حول عدد من المعتقدات، مثل اللغة المتعبد بها، والمتيقظين المعترف بهم إلى جانب جوتاما، وطبيعة دور «البوديساتفا». والأخير مصطلح يعني المتيقظ المستقبلي، وهو شخص يؤمن مذهب ماهايانا بأنه قد بلغ اليقظة/الاستنارة، إلا أنه فضل عدم تحقيق البارينيرفانا، مما يعني مواصلة رحلة التناسخ، وذلك من أجل مساعدة الآخرين على بلوغها.
أشهر البوديساتفا اليوم هو الدالاي لاما، حكيم بوذية التبت، المتفرعة عن الماهايانا. فالدالاي لاما الذي نعرفه اليوم باسم «تينزن جياتسو»، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1989، هو التجسد الرابع عشر لبوديساتفا بلغ التنور في القرن الرابع عشر. وعندما يتوفى الدالاي لاما يعود البوديساتفا في صورة إنسان جديد، طفل يجتاز عددا من الاختبارات، ويرث كرسي الدالاي لاما السابق، ليتلقى بعدها الرعاية والتنشئة اللازمة لتولي مهام القيادة والإرشاد وإعانة الأرواح الهائمة على كسر دورة التناسخ.
(المصدر: موقع إضاءات)