بقلم د. شفيق ناظم الغبرا
يبرز السؤال: لماذا تضطر فئات محسوبة بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة على سلطات عربية لممارسة العنف اللفظي و”البلطجة” ضد الرأي الآخر؟ بل لماذا تتصدى فئات محسوبة على أنظمة ودول عبر الإهانة والتهجم السوقي لمن يطرح قضية هامة حول البطالة والفساد وحول السياسة والتنمية والمشاركة والسيادة.
إن السعي لإهانة الرأي الآخر يحتوي على الكثير من التعظيم للتفاهة والتعويم للبذاءة والعنصرية، ويرافق ذلك إهمال متعمد لكل قضية هامة تخص المجتمع والدولة والمستقبل.
ومن تعبيرات البلطجة الهجوم العنصري والشخصي Micro Aggression الذي يعبر عن نفسه من خلال السعي لاغتيال الشخصية ضمن آلية ممنهجة. الاغتيال المعنوي في هذه الحالة يقوم على السب والقذف والتصغير ثم التهديد بالسحق والتدمير وإسقاط الجنسية والمواطنة وغيره.
كل هذا يهدف لإبعاد الناس عن المجال العام وإخفاء الحقائق. العنف اللفظي بسوقيته وتنمره انعكاس أمين لسعي الكثير من الأنظمة العربية لتغطية فشلها. لكنه بنفس الوقت نتاج طبيعي لمحدودية تعامل النظام العربي مع الاختلاف وتعبير دقيق عن موقفه من الحريات وضيق صدره بالرأي النقدي.
إن سياسة الاستقواء والتصغير عميقة بعمق وسائل التخاطب، وهي تزداد انتشارا عند الفئات المسيطرة التي تتميز بضعف البصيرة وسرعة الانفعال لكل من يتعرض لبعض من سلطاتها وامتيازاتها. كنا نقول في السابق إن هذا طبيعي بسبب سيطرة الجيش على السياسة في دول عربية كثيرة، لكن ها نحن نشهد في زمن «الذباب الالكتروني» أساليب تعكس الضحالة والتي تصاحبها العنصرية الفجة. ما وقع مع «الذباب الالكتروني» أخذ موضوع العنف اللفظي والبلطجة والتنمر لمرحلة جديدة.
لقد ساد الاعتقاد بين الكثير من الناس أن النظام العربي فيه من العقلاء ما يجعل السعي للرد على رأي برأي وبرنامج مضاد بآخر مضاد، وكتاب بكتاب أمر ممكن. لكن الرد بالقذف والسب والاتهام بالأعراض والعصبية المتوترة في ظل الفشل الشامل في الرد على فكرة واحدة أو رأي واحد بأسلوب مقنع يعكس مدى هشاشة الكثير من الأنظمة العربية. أتساءل: كيف يستطيع نظام سياسي يحترم نفسه ويعتقد بأنه يمتلك مستقبلا أن يتعايش مع منطق بهذا الهبوط اللفظي؟ إن السوقية تهزم نفسها بنفسها، وهي انعكاس لاحتضار وليست تعبيرا عن صعود وقوة. إن توجيه الاهانة لعائلات واسر من ينتقد سياسات وسلوكيات الأنظمة سيترك آثاره المدمرة على النظام العربي الذي يستخدم هذه الوسائل. التنمر والبلطجة كما نراهما اليوم امتداد للقمع والتعذيب والتصفية السائدة عربيا.
الرد بالقذف والسب والاتهام بالأعراض والعصبية المتوترة في ظل الفشل الشامل في الرد على فكرة واحدة أو رأي واحد بأسلوب مقنع يعكس مدى هشاشة الكثير من الأنظمة العربية
ويعتقد قطاع كبير من ممارسي البلطجة أن إهانة أصحاب الرأي الحر الذي يتميز بنقديته هو الطريق الوحيد لإبقاء حظوتهم لدى بعض صانعي القرار. وتتعقد الإشكالية عندما يكون بعض صناع القرار من المعجبين والمغرمين بأسلوب القذف ولغة التصغير. هناك جاذبية غريبة في صفوف النظام العربي الراهن للعدائية اللفظية.
إن الطرح العنصري الذي يستهدف عائلة أو قبيلة أو فئة أو طائفة أو أصل أو عرق او تهديد أو غيره تعبير عن منطق فاشل. إن الفشل في نقاش الفكرة هي أهم هزيمة يتعرض لها النظام العربي العاجز عن الإصلاح و بلورة أفكار جديدة.
وأن كانت السياسة في الكثير من البلدان العربية قائمة على الاحتكار والمصادرة فإن التنمر والبلطجة ينطلقان من ذات الموقع.
إن كان قطاع كبير من النظام العربي يبني قوته عبر احتكار الحياة السياسية ومنع المجال العام بالمطلق فإن البلطجة (التشبيح) انعكاس لسرقة المجال العام. يحتاج الباحثون العرب أن يدرسوا هذه الظاهرة وأن يفردوا لها بعض من الكتابة. بل من المفيد أن يكتب البعض عن أمثلة وأفراد معروفين في التواصل الاجتماعي تخصصوا في إهانة الآخرين عبر الاختباء وراء شاشة وموقع إلكتروني.
هذا المنطق العدائي سيعاني من هزائم كبرى. هذا ما يؤكده لنا التاريخ. فمثلا في الزمن الارستقراطي والأوروبي وقبل بروز الطبقة الوسطى الصاعدة وقبل بروز التواصل الحديث رد الارستوقراط على النقاد بتعبيرات من شاكلة: كيف تتجرأون على مقارعة أسيادكم؟ لكن قدرة مفكري التغير على النجاح جاءت من ركاكة ردود السلطة وسياساتها في ذلك العصر.
حتى في الولايات المتحدة عندما تبلورت حركة الملونين الرافضة للعنصرية في سيتينات القرن العشرين كان رد العنصريين ضعيفا منطلقا من أن عدم مساواة الملونين مع بقية الناس أمر طبيعي وبيولوجي. هذا الرد الركيك الضعيف أعطى دفعة كبيرة للحركة السوداء ولحركة العدالة والمساواة، وانتهى الأمر بهزيمة العنصرية في عقر دارها.
وسنجد عند التحليل والتدقيق ذلك الرابط بين هذه العدائية العنصرية الأكثر حدة وفوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة، فهناك العديد من الأفراد والشرائح المتنفذة في الدول العربية ممن تتبنى منطق ترامب وأسلوبه البلطجي والعنصري تجاه المسلمين، بل يجد العديد من مسؤولي الدول العربية جاذبية في بذاءة ترامب. بل يبدو أن ثقافة ترامب وثقافة قطاع هام من النظام العربي فيها من التقاطع والتشابه ما يجعل ترامب حليفا للكثير من الأنظمة. لقد ادخل ترامب أسلوب التنمر إلى عقر دار النظام السياسي الأمريكي. نحن امام ظاهرة استبدادية لا يبدو انها ستنتهي في المستقبل القريب، والنتيجة أن هكذا ضحالة تؤدي لأزمات ولتفكك مجتمعات.
لقد نتج عن البلطجة بلطجة مضادة، وهذا ما تقوم به مجموعة من الأفراد ممن هربوا من المجال العام داخل الدول العربية إلى الدول الأوروبية والغربية، فأنشأوا محطات على اليوتيوب تعتمد على ذات المنطق وترد بنفس الأسلوب، لكنها بنفس الوقت تطرح قضايا أكثر أهمية وأكثر عمقا بحكم معارضتها لسياسات النظام الرسمي. الحقيقة هنا معقدة، الاستقواء والتنمر يقعان في الاتجاهين، لكن القذف والإهانة الصادرين عن سلطات مسؤولة ودول وأنظمة سياسية تمتلك كل الأدوات هما بالتأكيد أكثر إيذاء للمجتمع والمستقبل عن تلك الصادرة من معارضين منفيين يعيشون تجربة اللجوء السياسي. الفضاء العام العربي يتغير ويزداد عنفا في ألفاظه، وهذا ليس إلا تمهيدا لمزيد من العنف.
هذا لا يعني عدم المقدرة على إنشاء عالم افتراضي وتواصل اجتماعي أكثر أخلاقية وأكثر احتراما لقيم الحوار والاختلاف، لكن هذا يتطلب عزلا للعنصرية والبذاءة اللتين تسودان العالم الافتراضي العربي، وهذا ممكن من خلال عدم التورط في هذه اللغة من قبل المشاركين في العالم الافتراضي.
وتتطلب الحالة الأخلاقية بنفس الوقت تضافر جهود مختلفة، كامتناع الأنظمة والقادة السياسيين عن التنمر والقذف والبلطجة والتشبيح والعنصرية والعدائية والتهديد بالسجون والنفي، واستبدال كل هذا بنقاش رصين وجاد وجريء للمشكلات والقضايا التي تواجهها مجتمعاتنا. النقاش الجريء يتطلب عدم ملاحقة النقاد من قبل الأنظمة كما يقع في الصحافة والإعلام في طول وعرض الدول العربية وهذا يتطلب قوانين متطورة للحريات.
إن نقد القادة والمسؤولين السياسيين يجب بنفس الوقت أن لا يعني التجريح والإهانة ومس الأسر والشخصنة، وفي المقابل إن قيام القادة والمسؤولين السياسيين بتشجيع العنصرية كظاهرة الذباب الالكتروني ثم باستخدام قوانين معادية للحريات تنتمي لأكثر العهود ظلما تضيف سموما على الأجواء الراهنة المتوترة وتخلق حالة سقوط أخلاقية ستبقى تنتشر في عموم بلادنا العربية.
(المصدر: موقع بصائر)