بقلم د. صلاح سلطان
البكاء من خشية الله تعالى سمة الصالحين، لأنه يعبر عن صفاء القلب ونقاء النفس وطيب السريرة، ولين الجلود، وإذا أردنا أن نسعد في الدنيا والآخرة فلا بد أن نراجع أنفسنا مراجعة دقيقة ولنحاول أن نحصي بعض النعم الظاهرة، مع الإقرار بالنعم الباطنة يقول سبحانه “وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة”، “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”، “إن الإنسان لظلوم كفار”.
من هنا يبدأ الإنسان علاقته بالله تعالى، فإن وجد الخير إليه نازلا، والشر إلى السماء صاعدا، فهو جدير بالبكاء،
وإن وجد النعم متلاحقة، والمعاصي متوالية فهو جدير بالإجهاش بالبكاء، وإن وجد الحق يدعوه إلى سعادته وهو يولي الأدبار، ويغرق في بحار الهوى واتخذ إلهه هواه، فهو جدير بالبكاء، وإن أطاع ربه، ولم يضمن قبول عمله، ولم يأمن غضبه سبحانه فهو جدير بالبكاء.
ولله در عبد الله بن رواحة كان في ساحة الفداء مجاهدا ألد الأعداء في غزوة مؤتة وقد سبقه إلى الجنة لفيف من الشهداء، ويتقدم لقيادة الجيش في ثبات وفداء، ثم فجأة يجهش بالبكاء، فقيل أوتخاف الموت كما سبقك إليه زيد بن حارثة وجعفر أبو المساكين، فعجب من منطق هؤلاء، وقال: والذي نفسي بيده ما الموت أخاف فلقد جئت من أجله، ولكني الآن ذكرت قوله تعالى ” وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ﴿٧١﴾ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴿٧٢﴾” واشتد في البكاء حتى أبكى من حوله، ودخل في صفوف الأعداء، حتى لحق بموكب الشهداء. ترى ألسنا أحق من عبد الله بن رواحة بهذا البكاء، هو يبكي وهو يمارس ذروة سنام الإسلام، ويضع قدميه على أقرب طريق إلى الجنة ونحن – وما أدراك ما نحن؟
نحن في الذنوب غارقون، في الغفلة سائرون، في الشهوات منغمسون، في النعم الإلهية متقلبون، هل قست منا القلوب، أم ماتت فهي عن مآلها غافلة، وعن عذاب الله تعالى نائمة؟.
نحن الذين نرفل في نعيم الدنيا أليس من الكياسة أن نجد ونتعب، نصوم ونقوم، نجاهد أنفسنا وعدونا، ونجتهد في رفعة أمتنا وأوطاننا، حتى لا يكون بكاء لا نهاية له، وعويل لا مخفف له ، “وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ” هل جفت مدامعنا بعد أن ضمنا رضا الله والجنة؟، أم سالت مآقينا لفوات عرض من الدنيا، لموت صديق، أو خسارة مال، أو فوات لقاء حبيب أو سفر رفيق، نعم هذه مشاعر إنسانية لكن.. أليس البكاء من خشية الله تعالى وارتقاب يوم القيامة، وخوف الحشر والميزان والصراط والنار أولى بهذا البكاء؟
لقد بكى الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو الذي وعد بالفردوس الأعلى من الجنة، وبكى المبشرون بالجنة حتى كان أبو بكر لا يسمع الناس قراءته من فرط البكاء، وسمى الرجل الآسف أو رجل بكاء، وكان في وجه عمر خطان من كثرة جريان ومعه على حدة وكان عمر بن عبد العزيز يعلو نحيبه عندما يسمع قوله تعالى: ” قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. ألا ما أعظم البكاء إن كان في حب الرحمن، وخوف الجبار، والنوم على ما فات، وإصلاح ما هو آت، فلنجرب أ ن نبكي وليعزم أحدنا على نفسه ألا يخرج من صلاته إلا أن يبكي فيطيل السجود المشفوع بانفطار القلب، وخشية الذنب “وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا “.
وفي رمضان فرصة مع صلاة التراويح والتهجد وصفاء النفس من قلة العلائق في الدنيا أن نبكي مع السجود والركوع وقراءة القرآن، وفي الحديث “إذا قرأتم القرآن فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا” فالأمر يحتاج إلى تدريب النفس على البكاء، حتى يصبر أحب شيء إليه أن يبكي بين يدي ربه، هنا فقط سيشعر أنه أسعد أهل الأرض، هنا سيشعر أن قلبه ينشرح وأن صدره يتفسح، سيرى في عينه جلاء، وفي نفسه نقاء، هنا يكون الصوم والقرآن والصلاة والذكر قد أزالوا كل الران عن القلوب، وأزاحوا القسوة عنها.
إننا يا قومنا قد أثقلنا جسومنا وضيقنا صدورنا يوم رضينا بأن نطوف في أسواق الدنيا تاركين أشواق الآخرة، يوم أن فرصنا بمركب سريع، أو منصب رفيع أو حلة أنيقة أو امرأة وضيئة، ونسينا الموت والبلى، نسينا القبر وظلمته، واللحد ووحشته، والبعث وكربته، والحشر وشدته، والصراط ووقته، نسينا أن كل ما تحت أديم السماء إلى فناء، وأن الباقيات الصالحات خير، عند ربك ثوابًا وخير أملا.
ألا فلنبك لنشعر بالعبودية حقا، وعندها سيتولى الله أمرنا، ويسدد على الخير خطواتنا، ولقد أذن الله ألا يجمع على عبد خوفين ولا أمنين، فمن خاف في الدنيا أمن في الآخرة، ومن أمن في الدنيا خافه في الآخرة، فهيا نبكي على ماضينا لإصلاح مستقبلنا.
هيا نجعل من هذا الشهر فرصة للمراجعة الشاملة لأوقات ليلنا ونهارنا، لكسبنا وإنفاقنا، لمعاملاتنا مع الآباء والأمهات والجيران والأرحام، والمسلمين في كل مكان، آنئذ نكون قد وضعنا أقدامنا على طريق السعادة في الدارين معًا.
والله الموفق