البعد السياسي في كتابات حجة الإسلام أبي حامد الغزالي
بقلم د. علي الصلابي
يعدّ الغزالي المنظّر الكبير للدولة السلجوقية السنّية، ولم يكن يعيش بعيدًا عن الأحداث وصراعات السلاجقة مع خصومهم الفاطميين الإسماعيليين، فقد كان قبل عزلته وتركه النظامية فيلسوف الدولة الذي عاش في كنفها، بالمعنى الأيديولوجي الكامل لكلمة (فيلسوف)، إذ انتظم في سلك حاشية الوزير السلجوقي نظام الملك، منذُ الـ28 من عمره، وباستثناء كتابين في الفقه (التعليق والمنخول)، فإن جميع ما كتبه الغزالي كتبه بعد انتظامه في سلك كبار رجال الدولة السلجوقية، وكما هو معروف فلقد كان الخصمَ الأساسي والخطير لهذه الدولة الإسماعيلية الباطنيَّـة، إسماعيلية (الموت)، بزعامة الحسن بن الصباح.
وقد ركزت الإسماعيلية آنذاك في دعوتها السياسية على القول بضرورة (المعلم) أي: الإمام، وكما هو معروف فقد كتب الغزالي كتابا في الردّ على الباطنية، وكتبه كما صرّح هو بنفسه بأمر من الخليفة العباسي المستظهر بالله، فأهداه إليه، وسمي الكتاب أيضًا (المستظهري). ومذهب الإسماعيلية مذهب ديني فلسفي سياسي، وإبطال آرائهم السياسية والدينية يتطلب أيضًا إبطال فلسفتهم، ولم تكن فلسفتهم شيئًا آخر غير الفلسفة التي كان يلتقي عندها في المشرق فلاسفة العصر يومئذ، أعني الأفلاطونية المحدثة في صيغتها المشرقية الهرمسية.
ومن هنا كان هجوم الغزالي على الفلسفة، وعندما نفحص كتاب (فضائح الباطنية) فنحن نتبين بوضوح كيف أنّ التهافت قد كتب فعلًا من أجل فضائح الباطنية، إذ إن هناك أمورا تفهم بقراءة الفضائح؛ في مقدمتها الدافع إلى الهجوم على الفلاسفة، الذي هو دافع عقائدي واضح، لأن الفلاسفة يمدّون الباطنية بالجانب التنظيري لمذهبهم، فقد كان الفلاسفة نصيرًا قويًا ومعينًا لهم، من ذلك مثلًا: عقيدتهم في المعاد، فالملاحظ -كما يقول الغزالي- أن مذهبهم في المعاد هو بعينه مذهب الفلاسفة، وإنما شاع فيهم لمَّا انتدب لنصرة مذهبهم جماعةٌ من الثنوية والفلاسفة، فكل واحد نصر مذهبهم طمعًا في أموالهم وخلعهم، واستظهارًا بأتباعهم، لما كان قد ألفه في مذهبه، فصار أكثر مذهبهم موافقًا للثنوية، والفلاسفة في الباطن، وللروافض والشيعة في الظاهر.
وانتشر مذهب الباطنية عندما انتصر له الفلاسفة، وانتصر له الفلاسفة طمعًا في أموالهم وصلاتهم، والنتيجة وجود المصلحة المتبادلة التي ينتج عنها توافق في القول بين الفلاسفة والباطنية، ولذلك كان الهجوم الكبير من الغزالي على الفلاسفة، واستطاع تحويل المعركة التي كانت تدور في ما سبق بين الأشاعرة والمعتزلة إلى معركة بين الأشاعرة والفلاسفة، وكتاب (تهافت الفلاسفة) ألفه الغزالي في المرحلة التي كان فيها أستاذ المدرسة النظامية دون منازع.
وأما الجانب الآخر فهو دعوى (المعلم) و(التعليم) التي ركزت عليها الإسماعيلية يومئذ وهناك من يقول: إنه لا سبيل في إبطالها إلا بطرح بديل، والبديل عند الغزالي هو المنطق، ومن ثم فإلحاح الغزالي على ضرورة اصطناع المنطق منهجًا وحيدًا في تحصيل العلم لم يكن من أجل المنطق ذاته، بل كان ضد نظرية (التعليم) العرفانية الإسماعيلية الباطنية، ومن أجل تقوية المذهب الأشعري الذي كانت الدولة السلجوقية قائمة على أسسه الفكرية والعقائدية، فكان هذا البعد بمنزلة ضربة قوية وجّهت لخصوم السلاجقة، كالدولة الفاطمية الإسماعيلية ودعاتها في مرتكزاتها الفكرية. ويبقى الجانب الثالث وهو الدعوة إلى التصوف، والتصوف كما هو معروف كان الأساس الأيديولوجي والتنظيمي لكيان الدولة السلجوقية، وإذن فموقف الغزالي من هذه الناحية مفهوم وسائغ، ليس هذا وحسب، بل إن الغزالي من هذه الناحية قد أدرك بوضوح أن الجانب الروحي في العرفان الشيعي عامة لا يمكن تعويضه باصطناع المنطق، فلم يبق إلا تجريد التصوف الباطني من طابعه السياسي الذي طبعته به الشيعة الإمامية، والإسماعيلية، ومحاولة توظيفه توظيفًا سنّيًّا، وقد فعل الغزالي ذلك انطلاقًا من التراث السنّي العظيم..، وإذن فالأطراف الثلاثة: الدعوة إلى التصوف، ومهاجمة الفلاسفة، والدعوة إلى اصطناع المنطق ربما تجسد فعلًا تناقضًا واضحًا، ولكن فقط على صعيد الفكر المجرد، أما على صعيد السياسة، والأيديولوجيا، فقد كانت في ذلك الوقت أسلحة ثلاثة متكاملة موجهة نحو خصم واحد.
(المصدر: مدونات الجزيرة)