البعد الخفي في عملية ليبرمان الفاشلة.. والمعادلة الجديدة
بقلم أمير سعيد
ربما لاقت الدعاية القائلة بأن غزة ما ينبغي لها أن تستفز الكيان الصهيوني حتى لا يتضرر المدنيون فيها رواجاً في بعض الأوقات. وربما جادل بعض حلفاء “إسرائيل” الجدد وتصايح أزلامهم بأن ثمة من يتاجر بآلام أهل غزة المدنيين المستضعفين، ويستجلب الدمار من الكيان الذي تناسوا أنه غاصب محتل بسبب “مغامرات” لا يدفع سوى المدنيون ثمنها فيما العسكريون مطمئنون بعيداً عن نيران العدو متحصنين في الملاجئ والأنفاق.
ويحلو للذين يرتدون جلود الضأن الادعاء بأن سلاح المقاومة أضعف من أن يمثل تهديداً للكيان، أو يحقق توازن رعب، وأنه في أحسن أحواله لن يعدو أن يكون ردعاً جزئياً لحماية العسكريين من دون المدنيين.
لكن ماذا بوسع هؤلاء أن يخرجوا أضغانهم هذه المرة، والعدوان قد بدأ بوضوح من قبل الصهاينة، ولا مراء في مسؤوليتهم عن تفجير الأوضاع بعمليتهم الخائبة في خان يونس، والتي تصدت لها المقاومة ببراعة، وألحقت العار بالكوماندوز المهاجم وقتلت منه ضابطاً رفيعاً، وقد لا يكون هو الخسارة الوحيدة في العملية. وإن كان هؤلاء في الحقيقة لا يخضعون لمنطق ولا يتوفرون على حياء ونخوة؟!
الحقيقة أن الطريق مغلقة أمامهم أن ينالوا من المقاومة وهي ناصعة الموقف والفعل، فالعملية العدوانية الأخيرة رفعت أي حرج على المقاومة؛ فأي أحد يمتلك مسحة من إنسانية يمكنه أن يجادل في أحقية “بشري” في الدفاع عن نفسه إذا أريد قتله أو اختطافه؟! لكن بالطبع هناك من حرموا هذه المسحة.
وبغض النظر عن ذلك؛ فهناك ما هو أهم ما مجادلة المتصهينين في بديهيات، وفي نظرة “المجتمع الدولي” للكيان الصهيوني وهو يتمظهر بالسلام بكلمات رئيس حكومته في باريس الداعية إلى التهدئة، في الساعة ذاتها التي تنفذ فيها وحدة محترفة من جيش الاحتلال لمحاولة اختطاف قيادي من المقاومة في جنح الظلام بغزة، فإن الأهم من تلك الأحاديث الهامشية التأثير استخلاص أبرز ما حوته ساعات غدر الصهاينة ثم الرد السريع من قبل المقاومة.
ولعل أبرز ما يمكن ملاحظته، أنه لأول مرة تنجح المقاومة في خلق حالة توازن رعب، وردع فيما يخص المدنيين. فما جرى كان كالتالي:
- عملية تسلل واختطاف كان الرد عليها بالقتل وربما الأسر لأحد الجنود الصهاينة.
- عدوان يستهدف أهدافاً عسكرية للمقاومة، يستتبعه رد على الفور على هدف عسكري صهيوني (الباص المحترق بالكورنيت).
- عدوان يستهدف أهدافاً مدنية في غزة، يأتي الرد باستهداف بيوت مغتصبي دور الفلسطينيين في عسقلان.
- يرتقى من هنا شهداء، يتجندل من هناك قتلى صهاينة.
معادلة الردع كانت هذه المرة “مدنية” لأول مرة بهذا النجاح، و”عسكرية” بتلك الدقة، أزعجت الجيش الصهيوني بشدة. وفي ظني أنه كان يمهد لمعركة كبيرة، إلا أن جهوزية المقاومة وقوة ضرباتها زلزلته وجعلته يعيد النظر في الاستمرار؛ فلاذ بالهدنة، وألقى له “الحلفاء العرب” طوق النجاة فالتقطه.
ومن زاوية أخرى مهمة كذلك؛ فإن من الجدير بالتأمل أن الجيش الصهيوني – كعادته – لجأ على “المستعربين” من طائفة الدروز لتقديمهم قرباناً لنزواته الخطرة؛ فصدرهم كالعادة على خط النار، بل خلف خطوط “العدو” المقاوم؛ فحقن بذلك دماء جنوده اليهود، واستباح لنفسه مجدداً التضحية بخدمه من غير اليهود، ممن تطلق عليهم الأدبيات اليهودية بـ”الأمميين”، الذين لا يراهم في ثقافته القديمة والحديثة سوى حمير يركب ظهورهم ليس إلا.
هذا المنطق الذي لم يخالفه الصهاينة في تلك العملية، جدير بأن يذكر الجميع بنظرة أصحاب المشروع الصهيوني برمته، سواء بشقه “الإسرائيلي” أو الأمريكي.. أو حتى الحلفاء في أوروبا الغربية، الذين غزوا العالم بالهنود والأفارقة والطبقات الأخرى التي يقدمونها دوماً قرباناً لمشاريعهم الاحتلالية والاستنزافية في العالم كله.
المثير للدهشة أن هذا السلوك صار اعتيادياً رغم معرفة جميع العملاء في داخل الكيان وخارجه أنهم مجرد دواب يمتطيها الصهاينة على الدوام، من دون خشية من انكشاف أمرهم في ذلك، لأن “الدواب” لم يعودوا مخدوعين بل قائمين بدورهم عن رضا واقتناع، ودون تذمر أو امتعاض في القرن الواحد والعشرين، فيما “العدو” يظهر بعض الاحترام والخشية لمناوئيه من المقاومة والأحرار في الداخل والخارج أيضاً.
هذه كانت جولة من الصراع سيستتبعها غالباً جولات، لكن من الجيد أنها سارت في هذا المنحى، وانعطفت عن مسار التحريش بين الفلسطينيين إلى التلاوم والتلاعن داخل الإطارات السياسية والاستخبارية والعسكرية الصهيونية إذ فشلت الجولة فشلاً ذريعاً، ووضعت قواعد جديدة للاشتباك.. لعل أهم مستخلصاتها أن الكيان الصهيوني سيتجه فيما بعد تدريجياً إلى توكيل “الأمميين” مهامه القتالية، ليحقن دماء أبناء جيشه الصهاينة.. هذا ربما الخيار الأكثر إلحاحاً الآن على مخططي السياسة الصهيونية في فلسطين المحتلة بل في منطقتها الغربية المحررة/غزة.
(المصدر: موقع المنهل)