البروفيسور التركي أبو الإسلام السياسي وصاحب السبعة أرواح
بقلم أحمد درويش
عند الحديث عن التجربة السياسية في تركيا، فإنه ولابد أن نتطرق إلى الحديث عن أحد العمالقة الكبار في مجال السياسة، الذي كان مغلقًا حينًا طويلًا حتى دخله هذا الداهية السياسي وفتحه على مصراعيه أمام الإسلاميين، في وقتٍ كانوا يخبئون فيه المصاحف تحت التراب؛ خوفًا من العقاب والزج بهم في غيابات السجون.
هو الذي أسس خمسة أحزاب وناضل كلما كانت السلطات تغلق له حزبًا بالبدء من جديد حتى تمكن من تولي رئاسة الوزراء في ظل سطوة العلمانية التي أتقن التغلب عليها والخروج منها بأقل الخسائر مؤسسًا لعهدٍ اقتصادي جديد ما زالت تجني بلاده ثماره حتى اليوم وخاصة بعد وصول تلاميذه إلى سدة الحكم، هو أحد أبرز زعماء تيار الإسلام السياسي في تركيا وأخطر من تحدى قواعد العلمانية الكمالية المتشددة التي حكمت بلاده منذ أواسط عشرينيات القرن الماضي، إنه البروفيسور التركي “نجم الدين أربكان” الذي أنقذ بمناوراته البارعة الإسلاميين من كل الانقلابات العسكرية ونجا منها جميعها، لدرجة أن لقبته الصحافة التركية بـ “صاحب السبعة أرواح”.
وُلد نجم الدين أربكان في مدينة سينوب التركية على ساحل البحر الأسود، في 29 نوفمبر 1926، ونشأ برعاية أسرة مسلمة اشتهرت بالالتزام الديني، وتنتسب إلى أمراء السلاجقة، أنهى أربكان دراسته الابتدائية في مدينة طرابزون الواقعة على ساحل البحر الأسود، ثم التحق بكلية الهندسة الميكانيكية في جامعة اسطنبول التقنية، وتخرج في عام 1948، وكان متفوقًا فتمَّ تعيينه معيدًا في نفس الكلية، ثم أُوفد في بعثة إلى ألمانيا في عام 1951، ونال شهادة الدكتوراة في هندسة المحركات في عام 1953 من جامعة آخن الألمانية.
حصل على درجة أستاذ مساعد في كلية الهندسة في إسطنبول، وفي سنة 1956 ترقى إلى درجة بروفيسور وتعاون مع مصانع محركات “كلوفز هومبولدت دويتز” في مدينة كولن الألمانية فاخترع محركات دبابات ليوبارد التي تعمل بكل أنواع الوقود، ولعب دورًا أساسيًا في التقدم الصناعي التركي، حيث أشرف على إنشاء مصانع المحرك الفضي التي بدأت إنتاج محركات الديزل سنة 1960 فغطت حاجات تركيا وكانت وما زالت تصدر الفائض، ثم تولى الأمانة العامة لاتحاد غرف التجارة والصناعة والبورصة التركية سنة 1967.
كانت بداية مسيرته السياسية أنه خاض الانتخابات النيابية 1969 كمرشح مستقل في مدينة “قونية” _بعدما رفض ديميريل رئيس حزب العدالة أن يضعه على قوائم الانتخابات؛ بسبب ظهور توجهه الإسلامي_ كان يتجول مع عدد من أصدقائه في أحياء قونية وقُرَاها، وكان يجد ثلاثة أو خمسة وأحيانًا شخصًا واحدًا ومع ذلك لم يتوانَ أو يتململ من شرح قضيته لهم، وتمكن أربكان من الوصول إلى قبة البرلمان مستقلًا وبأصواتٍ قياسية تكفي لفوز ثلاثة نوابٍ معًا، وحتى بعد فوزه مُنع من المشاركة في الحكومات المختلفة بسبب التوجه الإسلامي.
نشأ أربكان في كنف الطريقة النقشبندية برعاية شيخها محمد زاهد كوتكو وأنشأ عام 1970 بدعم من تحالف طريقته مع الحركة النورسية حزب “النظام الوطني”، الذي كان أول تنظيم سياسي ذي هوية إسلامية تعرفه الدولة التركية الحديثة، منذ زوال الخلافة عام 1924م، لم يصمد حزبه سوى تسعة أشهر حتى تم حلّه بقرار قضائي من المحكمة الدستورية، فقام أربكان بدعم من التحالف ذاته بتأسيس حزب “السلامة الوطني” عام 1972م، وأفلت هذه المرة من غضب الجيش ليشارك بالانتخابات العامة ويفوز بخمسين مقعدًا، كانت كافية له ليشارك في مطلع عام 1974م في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك ليرعى المبادئ العلمانية.
تولى أربكان منصب نائب رئيس الوزراء وبولند أجاويد رئاسة الحكومة، وتسببت زيادة الضغوطات على الأتراك بقيام أجاويد بزيارة إلى عاصمة البريطانية لندن، ليجري لقاءات دبلوماسية مع حلفائه الغربيين ولم تكن لدى أجاويد رغبة في التدخل العسكري في قبرص، وفي أثناء غيابه اجتمع أربكان بشكل عاجل مع الحكومة وقائد الجيش التركي، واستطاع أن يقنعهم بالتدخل العسكري في قبرص بأسرع وقت، وفعلًا اتُّخِذ القرار بالتدخل العسكري مباشرة لوقف كل ما يتعرض له المسلمون وحماية الشعب القبرصي التركي.
اعتبر من دافع عن مشاركة أربكان في الائتلاف أنه حقق مكاسب كبيرة لتيار الإسلام السياسي من أهمها الاعتراف بهذا التيار وأهميته في الساحة السياسية إلى جانب مكاسب اعتبرت تنازلات مؤثرة من قبل حزب الشعب الجمهوري خلال وجوده في حكومة أجاويد، فقد حاول أربكان فرض بعض قناعاته على القرار السياسي التركي، وضرب أخطر مراكز النفوذ الداعمة للنهج العلماني، فقدَّم بعد تشكيل الحكومة بقليل مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر أكثر من موقف مؤيد صراحة للشعب الفلسطيني ومعادٍ لإسرائيل، ونجح في حجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أركمان؛ بسبب سياسته المؤيدة لإسرائيل.
بعد خروجه من الحكومة قدم حزب أربكان “السلامة الوطنية” مشروع قانون للبرلمان عام 1980 يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، وأتبع ذلك مباشرة بتنظيم مظاهرة ضخمة في مدينة قونية ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس، كانت المظاهرة من أضخم ما شهدته تركيا في تاريخها المعاصر، الأمر الذي اعتبر استفتاء على شعبية الإسلام السياسي بزعامة أربكان.
في اليوم التالي تزعم قائد الجيش كنعان إيفرين انقلابًا عسكريًا أطاح بالائتلاف الحاكم، وبدأ سلسلة إجراءات كان من بينها إعادة القوة للتيار العلماني ومن ذلك تشكيل مجلس الأمن القومي وتعطيل الدستور وحل الأحزاب واعتقال الناشطين الإسلاميين، كان أربكان من بين مَنْ دخلوا السجن آنذاك، وبعد ثلاث سنوات خرج في إطار موجة انفتاح على الحريات في عهد حكومة تورجوت أوزال، فأسس في العام 1983 حزب الرفاه الوطني، الذي شارك في انتخابات نفس العام لكنه لم يحصل سوى على 1.5 في المئة من الأصوات، لكنه لم ييأس إذ واصل جهوده السياسية حتى نجح في الفوز بالأغلبية في انتخابات عام 1996 ليترأس أربكان حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة غريمته تانسو تشيللر التي لطالما تبادلت الاتهامات مع أربكان.
خلال أقل من عام قضاه رئيسًا للحكومة التركية، سعى أربكان إلى الانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، حتى بدا وكأنه يريد استعادة دور تركيا الإسلامي القيادي، فبدأ ولايته بزيارة إلى كل من ليبيا وإيران، وأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا.
في المقابل استمرت ضغوط الجيش على أربكان طوال الوقت، فبعد تأخر منه اضُطر للتوقيع على الاتفاقيات بين تركيا وإسرائيل بل وزيارة إسرائيل، إلا أن الأمر لم يتوقف عند ذلك حيث في نهاية فبراير 1997 جلس أربكان وحيدًا بين جنرالات الجيش لمدة إحدى عشرة ساعة يحاولون إرغامه على التوقيع على عدد من الإجراءات من شأنها الحد من الحريات الدينية ومظاهر التدين بحجة تهديدها لعلمانية الدولة، وتحركت الدبابات في الشوارع ما اعتبر ذلك تهديدًا صريحًا بالانقلاب.
حاول أربكان تجنب الصدام مع مجلس الأمن القومي الممثل لجنرالات الجيش المدافعين عن علمانية الدولة، وربما نجح في تأجيل المواجهة مدة طويلة إلا أنه في يونيو 1997 نجح الجيش في تنفيذ انقلابه الناعم أو ما عُرف بالانقلاب الأبيض عبر الضغط على حزب الطريق القويم هذه المرة للانسحاب من الحكومة، فاضطر أربكان إلى الاستقالة من منصبه لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري فعلي.
في عام 1998 تم حظر حزب الرفاه وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، ومُنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكن أربكان لم يغادر الساحة السياسية فلجأ إلى المَخرَج التركي التقليدي ليؤسس حزبًا جديدًا باسم الفضيلة بزعامة أحد معاونيه وبدأ يديره من خلف الكواليس، لكن هذا الحزب تعرض للحظر أيضًا في عام 2000، ومن جديد يعود أربكان ليؤسس بعد انتهاء مدة الحظر في عام 2003 حزب السعادة، لكن خصومه من العلمانيين، تربصوا به ليجري اعتقاله ومحاكمته في نفس العام بتهمة اختلاس أموال من حزب الرفاه المنحل، وحكم على الرجل بسنتين سجنًا وكان يبلغ من العمر وقتها 77 عامًا.
ودع أربكان الحياة ظهر يوم الأحد 27 فبراير 2011 في إحدى مستشفيات العاصمة أنقرة، وشهدت جنازته التي خرجت من مسجد الفاتح بإسطنبول جموعًا غفيرة من المودعين على رأسهم القيادات السياسية والعسكرية في الدولة ومنهم تلامذته الذين رغم اختلافهم معه واختيارهم طريقًا جديدًا إلا أنهم دومًا ما اعتبروه الأستاذ والمعلم.
(المصدر: مدونات الجزيرة)