كتب وبحوث

البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني موضوعه، ومنهجه، ومعالم إبداعه

البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني موضوعه، ومنهجه، ومعالم إبداعه

 

إعداد د. مونعيم مزغاب

 

يُعَدُّ كتاب (البرهان في توجيه متشابه القرآن) للكرماني من أبرز الكتب التي اعتنت بتوجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وتأتي هذه المقالة معرِّفة بالكتاب ومنهجه، وتأثيره فيمن ألَّف بعده في هذا الفنِّ، مع تسليط الضوء على معالم الإبداع فيه.

  بَهَر القرآنُ الكريم العالمين بما يحويه من وجوه الإعجاز المتعدّدة؛ فقد تضمّن الإعجاز التاريخي والغيبي إخبارًا عن أحوال الأمم السالفة وعن قضايا مستقبلية، وشمل الإعجاز التشريعي الصالح لكلّ زمان ومكان ولكلّ الأحوال، وكذا الإعجاز العلمي الكوني. ومن الإعجاز أيضًا التركيب اللغوي والنظم الأسلوبي البياني البلاغي الذي عجز فطاحلة العرب عن الإتيان بسورة من مثله، ومن هذا الإعجاز البياني ورود آيات متماثلات متشابهة لفظًا لا فرق بينها إلّا في زيادة حرف أو كلمة أو تقديم أو تأخير فحملت الآيات معاني جديدة ودلالات باهرة كانت عنوان منتهى الفصاحة وغاية البلاغة. هذا الإعجاز هو الذي قال عنه ابن عطية: «وهذا هو القول الذي عليه الجمهور والحُذّاق وهو الصحيح في نفسه: أنّ التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه… فإذا ترتَّبت اللفظة من القرآن عَلِم بإحاطته أيَّ لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبيّن المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره،… فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة»[1].

و(علم المتشابه) هو النوع الخامس من أنواع علوم القرآن حسب ما رتّبه الزركشي في برهانه[2]، وعدَّ الكرمانيَّ أبرز روّاده، وهو عِلْم صنَّف فيه علماؤنا الأولون، وفي مقدمتهم السخاوي الذي نظمه في (هداية المرتاب)، والخطيب الإسكافي في (درة التنزيل وغرة التأويل)، وابن الزبير الغرناطي في (ملاك التأويل بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل)، وخصّص الكرماني مصنفه الماتع (البرهان في توجيه متشابه القرآن) لتوجيه الألفاظ المتشابهة في القرآن والذي اعتمد عليه ابنُ جماعة في (كشف المعاني في المتشابه من المثاني)، واختصره زكريا الأنصاريُّ في (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن) وغيرها من التصانيف الدقيقة في بابها، العميقة في توجيهاتها.

ويُعَدُّ كتابُ الكرماني واسطة عقد المصنفات الأولى؛ لأخذه من الخطيب الإسكافي والزيادة عليه، مع تأثيره البالغ فيمَن جاء بعده، واستفادتهم منه؛ لذا حُقَّ لنا أن نَخُصّه بعرض علمي يستهدف مادته بالتحليل، وجدواه في تخصّصه بالتقويم، ومقاربته لقضايا فنِّه بالحكم المنهجي إيجابًا وسلبًا، ومزاياه وبعض معالم الإبداع فيه.

مَن هو الإمام الكرماني[3]؟

 هو محمود بن حمزة بن نصر الكرماني الشافعي الملقب بتاج القراء، وليس هو الكرماني شارح صحيح البخاري.

 كان عجبًا في دقّة الفهم وحسن الاستنباط، لم يفارق وطنه ولا رَحَل، وكان في حدود الخمسمائة، وتُوفي بعدها دون أن يحدّد أصحاب التراجم سنة وفاته بدقّة.

 صاحب التصانيف الكثيرة، وغالبها متّصل بعلوم القرآن، ومنها: خط المصاحف، غرائب التفسير وعجائب التأويل، لباب التفاسير، الهداية في شرح غاية ابن مهران في القراءات، الإفادة في النحو، الإيجاز في النحو، النظامي في النحو… بالإضافة إلى الكتاب الذي بين أيدينا (البرهان في متشابه القرآن).

أولًا: (البرهان)؛ موضوعه، وسبب تصنيفه:

يتّخذ (البرهان) من (التشابه اللفظي للآيات القرآنية) موضوعًا أساسًا له، وقد ذكر المؤلف ذلك صراحة في مقدمته، محددًا إيّاه في الكشف عن الآيات المتشابهة في القرآن الكريم تشابهًا لفظيًّا، ومعرفة الاختلافات الدقيقة فيما بينها، ثم القيام بتوجيه هذه الاختلافات وتخريجها، وفق قواعد اللغة العربية النحوية منها والبلاغية، مع مراعاة السياقات المصاحبة للآيات مع الانتباه إلى دلالات الألفاظ الثابتة والمتغيرة، دون الانسياق إلى الاشتغال المباشر بتفسير الآيات وتأويلها. فقد قال -رحمه الله-: «فإنّ هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التي تكرّرت في القرآن وألفاظها متّفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، أو إبدال حرف مكان حرف، أو غير ذلك ممّا يوجب اختلافًا بين الآيتين أو الآيات التي تكرّرت من غير زيادة ولا نقصان، وأُبَيِّن ما السبب في تكرارها والفائدة في إعادتها، وما الموجب للزيادة والنقصان والتقديم والتأخير والإبدال، وما الحكمة في تخصيص الآية بذلك دون الآية الأخرى، وهل كان يصلح ما في هذه السورة مكان ما في السورة التي تشاكلها أم لا؛ ليجري ذلك مجرى علامات تزيل إشكالها وتمتاز بها عن أشكالها من غير أن أشتغل بتفسيرها وتأويلها»[4].

وقد عزا تاج القراء الكرماني سبب تصنيفه للكتاب الذي بين أيدينا إلى كون العلماء الذين اهتموا بهذا الباب من أبواب علوم القرآن اقتصروا على ذكر الآيات المتماثلة وإخراجها في مؤلفات دون اشتغال بذِكر العلل وتوجيه النظائر المتشابهة في القرآن الكريم، وقد نصّ على ذلك في المقدمة حين قال: «ولكنِّي أفردتُ هذا الكتاب لبيان المتشابه؛ فإنّ الأئمة -رحمهم الله تعالى- قد شرعوا في تصنيفه واقتصروا على ذِكر الآية ونظيرتها، ولم يشتغلوا بذِكر وجوهها وعللها والفرق بين الآية ومثلها، وهو المشكل الذي لا يقوم بأعبائه إلّا من وفّقه الله لأدائه»[5].

ثانيًا: تحقيق عنوان كتاب (البرهان):

بعد الحمدلة والصلاة على النبي الكريم بيّن مضمونَ الكتاب، وغايته وسبب تأليفه، ومنهجه المعتمد، مذكِّرًا بما وصله من هذا العلم عن شيخه الخطيب الإسكافي، مبرزًا بعض انتقاداته لمَن سبقه إلى الكتابة في هذا الفنّ، خصوصًا اقتصارهم على ذِكر الآيات المتشابهة لفظًا ليسهل على الحافظ حفظها دون اشتغالهم بذِكر علل تلك الفروق وتوجيهها. كلّ هذا لم يتجاوز الصفحتين، حيث ختمها بذكر عنوان الكتاب قائلًا: «وسمّيت هذا الكتاب (البرهان في متشابه القرآن)؛ لما فيه من الحجة والبيان، وبالله وعليه التكلان».

غير أنّ محققي الكتاب وناشريه قد اختلفوا في تسميته؛ فمنهم من سمّاه: (البرهان في متشابه القرآن)، ومنهم من اختار: (البرهان في متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان)، ومنهم من أضاف كلمة (توجيه) فسمّاه: (البرهان في توجيه متشابه القرآن)، ومنهم من اختار له اسمًا من عنده دون تعليل علمي فسماه: (أسرار التكرار في القرآن، المسمى البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان).

والواضح أن عنوان الكتاب كما نصّ عليه صاحبه هو (البرهان في متشابه القرآن).

ثالثًا: (البرهان) بين الوضوح الإشكالي والسبق المنهجي:

إنّ الإشكال المعرفي كان واضحًا منذ البداية في ذهن المصنِّف معترفًا بصعوبته، واعتبره غير مسبوق إلى طرقه بمنهج استقرائي للآيات، وهو ينقسم إلى جزأين أساسيّين:

 غياب مصنَّف يستقصي كلّ الآيات المتشابهة في القرآن.

 غياب التوجيه والتعليل لأسباب التكرار وموجباته وفوائده، أو ضعفها إنْ وُجدت.

فقد قال: «ولكنِّي أفردتُ هذا الكتاب لبيان المتشابه؛ فإنّ الأئمة -رحمهم الله تعالى- قد شرعوا في تصنيفه واقتصروا على ذِكر الآية ونظيرتها، ولم يشتغلوا بذكر وجوهها وعللها والفرق بين الآية ومثلها، وهو المشكل الذي لا يقوم بأعبائه إلّا من وفّقه اللهُ لأدائه»[6]. وهذا ما فرَض عليه طريقةَ عرضٍ خاصةٍ لمواضع التكرار وكيفية التعامل معها بشكلٍ يجعل الفكر مركزًا على هدفه دون السقوط في الإطناب المُبْعِد عن المقصد، أو الانجرار إلى تكرارِ ما وردَ عند السابقين أو ما أدرجه في مصنفاته الأخرى.

كما أنه استهدف أمورًا أخرى يمكن استنباطها من ثنايا الكتاب، وعلى رأسها:

 تسهيل عملية الحفظ والتلاوة للمبتدئين من خلال التمييز بين الآيات المتقاربة لفظًا التي قد تُحدِث اضطرابًا للحافظ[7].

 ذِكر بعض النُّكَت والـمُلَح التي لا تدخل في باب التعليل اللغوي والبياني للتكرار، ومنها ما ورد في توجيه تكرار: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في الرحمن[8].

 ومنها تمييز المتشابه عن غيره، ومنه قوله: «قوله: {وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ}، وفي الصافات: {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} ذُكِرَ في المُتشابه، وما يتعلّق بالإعراب لا يُعدّ في المُتشابه»[9].

ومن خلال استكشاف طريقة المصنِّف في التأليف يمكن تحديد مسالكه كما يأتي:

مسلك الاستقصاء الكلي للآيات المتماثلة: من خلال سلوكه مسلك المفسّرين في ترتيب السور والآيات، مع ذكر الآية الأُمّ مُلحقًا بها ما يشابهها من الآيات من نفس السورة، ومِن باقي السور، ثم يبيّن أسرار اختصاص كلّ منها بما جاء فيها من متشابه، وهذا الأمر مأخوذ من طريقة الإسكافي، إلّا أنّ جهد الكرماني أدقّ في جمع الآيات المتشابهة، ويلحظ ذلك مَن اطلع على الكتابَيْن وعقد بينهما مقارنة[10].

مسلك الاستدراك: حيث يستدرك على الخطيب الإسكافي، ويستدرك على نفسه أيضًا في مواطن عدّة. فنجده يشير للمكان الذي ينبغي أن يتحدث فيه عن الآيتين المتشابهتين، فيقول مثلًا: «وإنّ حقّه أن يُذكر هناك»[11]، ثم يذكر توجيه الآيتين.

مسلك تفادي التكرار: إذا كانت الآية قد سبق توجيه ما فيها من المتشابه في موضع آخر، أشار إلى ذلك بقوله: «قد سبق» دون توجيهها، وهو كثير جدًّا في الكتاب.

مسلك الإيجاز الشديد في التوجيه: حيث وصفه الدكتور الشثري بأسلوب البرقيات؛ لتميزه بالاختصار والوضوح، ولعلّ سببَ إصراره على الإيجاز حرصُه على عدم تكرار ما ورد في مصنفاته في علم التفسير.

المسلك السياقي التطبيقي: ففَهْم أسرار الآيات لا يكون إلّا بسلوك هذا المنهج وذلك من خلال البحث الدقيق في سياق الآيات حتى يخرج بدلالة معنوية أو دلالة لفظية تفسّر سرّ الاختلاف الوارد بين المتشابهات. فكثيرًا ما يقول: «لموافقة ما قبله» أو «لموافقة ما بعده»[12].

أحيانًا ينصّ على ما لم يتكرّر في القرآن وكان فريدًا: قال في سورة يوسف: «قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: ليس في القرآن غيره»[13].

رابعًا: (البرهان) بين غنى الاستمداد وسخاء الإمداد:

يعدُّ كتاب الإسكافي (درة التنزيل وغرة التأويل) أحد أعمدة كتاب (البرهان)، وقد صرح الكرماني بالاستمداد منه في أربعة عشر موضعًا، وكثيرًا ما ينقل عنه دون تصريح، كما اعتمد على علماء من تخصّصات شتّى، ذكَر منهم: ابن حبيب، وسيبويه، وأبا عبيد بن سلام، وابن قتيبة، والمبرد، والطبري، والزجّاج، وابن السراج، وأبا مسلم بن بحر، وابن مجاهد، وأبا عليّ الفارسي، وابن مهران، وابن جنِّي، والثعلبي، والأصبهاني، والواحدي[14].

ومن جهة أخرى كان الكتاب مصدرًا لمن جاء بعده وموردًا، ومِن أهمّ مَن استفاد منه واستمدّ:

– الفيروزآبادي: يُعدّ من الذين تأثروا بالإمام الكرماني، وذلك من خلال كتابه: (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)، فما ضمّه كتاب الفيروزآبادي من المتشابه لا يخرج عمّا في البرهان وكأنه نسخة منه. وقد ذهب محقق البصائر الأستاذ محمد علي النجار -رحمه الله- في الجزء الأول من الكتاب أن أصل هذا الكتاب في المتشابهات هو برهان الكرماني[15]، بل إنّ المحقق قد اعتمد على البرهان لإكمال نصّ كتاب البصائر؛ لأن نُسَخه المعتمدة في التحقيق كان فيها كثير من التحريف والسقط.

– بدر الدين بن جماعة: اعتمد في توجيهات كتابه (كشف المعاني في المتشابه من المثاني) كثيرًا على الكرماني حيث يكاد يطابقه في غالبه لفظًا ومعنًى دون إشارة إليه.

– زكريا الأنصاري: في كتابه (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن) تأثر ببرهان الكرماني منهجًا وطريقة، بل ونقل عنه عبارات دون تصرّف وأحيانًا بتصرّف قليل، دون ورود أيّ إشارة إلى كتاب البرهان.

الزركشي: وقد نقل عن الكرماني مواضع كثيرة في كتابه (البرهان في علوم القرآن).

السيوطي: استفاد واستمد الكثير من برهان الكرماني في كتابه (الإتقان في علوم القرآن)، وبشكل أكبر في كتابه (معترك الأقران في إعجاز القرآن) حيث كان ينقل نصوصًا كاملة عنه[16].

خامسًا: (البرهان) بين الإبداع والإمتاع:

لم يكن الكرماني مجرد ناقلٍ لما أثّله مَن سبقه، بل سعى إلى التجديد أسلوبًا والإبداع إنتاجًا والإمتاع تفردًا وانسيابًا، وقد مكنه من ذلك تمكنه من المادة العلمية وتنوعها: حيث استفاد الكرماني مِن ما حبَاه الله به من قدرة علمية وموسوعية متمثّلة في استيعابه لجملة من العلوم: (التفسير، والقراءات، واللغة)، مما أضفى على كتابه سمة العمق في التحليل والاستنباط مع ملَكة الاختصار، وهما سِمَتان قلّما تجتمعان.

ويتجلّى إبداعه وإمتاعه من خلال أمور عدّة، يمكن الحديث عن بعضها فيما يأتي:

النسق الأسلوبي الموحد: كان الكرماني سبّاقًا إلى توظيفه لكشف أسرار التكرار، يظهر ذلك في حسن اعتماد قانون الخفّة والثقل اللفظيين، وهو ميزان مفرط في الدّقة والبيان، ومن شواهد ذلك ما ورد في سورة الكهف في توجيه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}[الكهف: 97]، قال -رحمه الله-: «اختار التخفيف في الأول؛ لأن مفعوله حرف وفعل وفاعل ومفعول، فاختير فيه الحذف، والثاني مفعوله اسم واحد وهو قوله (نقبًا)»[17]. وتعليل الكرماني يدور حول خفّة اللفظ وسهولة نطقه وسلاسة جريانه وكراهية أن يجتمع ثقيلان في اللسان[18].

السبق والتفرّد في توجيه كثير من المسائل[19]: منها انتقاده للقول بـ(واو الثمانية): قال في سورة نون: «قوله تعالى: {حَلّافٍ مَهِين} إلى قوله: {زَنِيم} أوصاف تسعة ولم يدخل بينها واو العطف ولَا بعد السابِع فدلَّ على ضعف القول بواو الثمانية»[20]. وقال في سورة التحريم: «قوله: {خيرًا مِنْكُنّ مسلماتٍ مؤمناتٍ} ذكر الجميع بغير واو ثمَّ ختم بالواو فقال: {وأَبْكَارًا}؛ لأَنَّه استَحال العَطف على {ثـيِّباتٍ} فعطفها على أول الكلام، ويحسن الوقف على {ثـيِّباتٍ} لما استَحال عطف {أَبْكَارًا} عليها، وقولُ مَن قال إِنَّها واو الثمانية بعيدٌ»[21].

الدراسة الجامعة للظواهر البلاغية والنحوية: يربط الكرماني بين الظواهر البلاغية والنحوية مجتمعة؛ فبعض الآيات فيها ذِكر وحذف، وتقديم وتأخير، واختلاف في حروف العطف، فيرتب تلك الظواهر ويتحدث عنها مجتمعة، فبعضها يستدعي بعضًا.

الأصالة العلمية والاستقلال الفكري: رغم استفادته ممن سبقه خصوصًا الخطيب الإسكافي إلّا أنه كان يستدرك عليه في كثير من المواطن وينتقده في أخرى، كما أنه غالبًا ما يعتمد على علمه وإدراكه في توجيه الآيات المتشابهة[22].

الاختصار وعدم التفريع: من أهم مزايا الكتاب أنه يعطيك النتيجة واضحة مختصرة دون تشعُّب أو خروج عن مقصود الكتاب، ومنه قوله: «قوله: {نَحنُ نَرزُقُكُم وإيَّاهُم}، وقال في (سُبحَانَ): {نَحنُ نَرزُقُهُم وَإِيَّاكُم} على الضِّدّ؛ لِأَن التقدير: من إملاق بكم نحن نرزقكم وإياهم، وفي (سُبحَانَ): خشيَة إملاق يَقع بهم نحن نرزقهم وَإِيَّاكُم»[23].

جمالية العرض للمادة وسلاسته: وتظهر بوضوح في:

 حسن أسلوب الكاتب لغةً وعرضًا.

 اختصار المقدّمة في صفحتين.

 احتواؤه على فقرات قصيرة متقاربة الحجم، كلّ فقرة منها تنفرد بتوجيه موضع من مواضع التشابه، وقد أوصلها محقق الكتاب إلى 590 فقرة، في 195 صفحة.

 ترتيب المضامين ترتيبًا موافقًا لترتيب المصحف؛ مما يسهل عملية الفهرسة والبحث عن الآيات.

هذا.. ولا يخلو عمل بشري من نقص؛ فالكمال لله وحده سبحانه[24].

خاتمة:

لقد كانت هذه رحلة في ثنايا كتاب أسرار التكرار في القرآن، حاولت الكشف عن إشكاله وموضوعه والأنساق المعرفية والمنهجية المرتبطة به، مبينًا مكانته ضمن مصنفات علمٍ من أهم علوم القرآن التي لم تَلْقَ إلى الآن ما تستحقه من الدراسة والبحث لاستخراج درر القرآن الذي لا تنقضي عجائبه.

ومن خلال اطلاعي على الكتاب وقراءته تبيّن أنه حوى أسرارًا عديدة مساعدة على فهم كتاب الله تعالى لا تزال مبثوثة فيه قد لا توجد في غيره من كتب التفسير أو علوم القرآن، كما أن هناك آيات متشابهة تحتاج إلى مزيد من التأمّل والتدبّر لاستخراج كنوزها[25].

ولا شك أنّ قراءة أعمال الكرماني بصورة شاملة ستحلّ كثيرًا من ألغاز الكتاب، وتعطي صورة أوضح لمراده وفكره. نسأل الله أن ييسر لي -أو لغيري من الباحثين- إعداد دراسة مستوفية لآثاره العلمية.

والحمد لله رب العالمين


[1] ابن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1/ 1422هـ، (1/ 52).

[2] الزركشي، البرهان في علوم القرآن، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1/ 1957م، دار إحياء الكتب العربية عيسى الحلبي وشركاؤه، (1/ 9).

[3] انظر ترجمته في: ياقوت الحموي، معجم الأدباء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، المحقق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الأولى، 1414هـ-1993م، (6/ 2687). وفي: محمد شمس الدين الداودي المالكي، طبقات المفسرين، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، (2/ 313). وفي: دراسة أحمد عز الدين محقق كتاب البرهان في متشابه القرآن، ص31.

[4] البرهان، ص64.

[5] نفسه.

[6] البرهان، ص64.

[7] قال في الأحزاب: «ذهب بعض القرّاء إلى أنه ليس في هذه السورة ما يُذكر في المتشابه، وبعضهم أورد فيها كلمات، وليس في ذلك كثير تشابه بل قد يلتبس على الحافظ القليل البضاعة وعلى الصبي القليل التجارب، فأوردتها إذ لم تخلُ من فائدة، وذكرت مع بعضها علامة يستعين بها المبتدئ في تلاوته». البرهان، ص206.

[8] «قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} كرّر الآية إحدى وثلاثين مرة؛ ثمانية منها ذكرت عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقيب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم؛ وحسُن ذكر الآلاء عقيبها لأن في صرفها ودفعها نعمًا توازي النعم المذكورة، أو لأنها حلّت بالأعداء وذلك يعدُّ أكبر النعماء، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنان وأهلها على عدد أبواب الجنة، ثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما؛ فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة، والله تعالى أعلم». البرهان، ص231.

[9] البرهان، ص212

[10] صالح بن عبد الله الشثري، المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، سنة 2001، ص52.

[11] البرهان: ص182-218.

[12] البرهان: 75-112-124-134-139-159.

[13] البرهان: 148.

[14] المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، ص55.

[15] مجد الدين الفيروزآبادى، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، المحقق: محمد علي النجار، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، ط3/ 1996، الهامش رقم1، (1/ 331).

[16] انظر أمثلة ذلك في أطروحة: المتشابه اللفظي وأسراره البلاغية، ص53 وما بعدها.

[17] البرهان: ص171.

[18] انظر أطروحة: المتشابه اللفظي وأسراره البلاغية، ص59.

[19] انظر أطروحة: المتشابه اللفظي وأسراره البلاغية، ص61 وما بعدها.

[20] البرهان: ص239.

[21] البرهان: ص238.

[22] انظر: عبد الله عبد القادر الطويل، تقديم كتاب الاعتماد في الحروف المشكلة في القرآن الكريم للشريف أبي إسماعيل موسى بن الحسين المقرئ المعروف بالمعدَّل المتوفى سنة 500هـ، دراسة وتحقيق الدكتور: عبد الله الطويل، دار الكتب العلمية، بيروت 2017، ص31 وما بعدها.

[23] البرهان: ص114.

[24] من الملاحظات التي لا تنقص من قيمة الكتاب ولا جدواه في مجال تخصّصه:
– خالف المصنف منهجه في عدم الانجرار نحو التفسير والتأويل في مواضع عدة (قليلة جدًّا) منها ما ورد في سورة يوسف: «قوله تعالى: {إِنّ رَبَّك عليمٌ حَكِيمٌ} ليس في القرآن غيره أَي: عليم علَّمك تَأوِيل الأَحادِيث حَكِيم باجتبائك للرسالة»، البرهان، ص148.
 إيراد تأويلات متهافتة لا يدعمها لا نصّ نقلي صريح ولا دليل عقلي صحيح ولا سياق لغوي سليم، ومنه ما ورد في سورة العصر حين قال: «قوله: {والعَصْر إِنّ الإِنْسَان} إِنَّه أَبُو جهل، {إِلَّا الَّذين آمَنُوا} أَبُو بكر، {وَعمِلُوا الصَّالِحَات} عمر، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} عُثْمَان، {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} عليّ، رضي الله عن الخُلَفاء الأَربع ولعن أَبا جهل». البرهان، ص254.
 في بعض الأحيان يكون وجه الاختلاف غامضًا ولم يستطع المصنف الإفصاح عن مبررات قوية لتعليله. ومنه قوله في سورة إبراهيم: «قوله تعالى: {لَا يقدِرُونَ مِمَّا كسبوا على شَيْء}، وقال في البقرة: {لَا يقدِرُونَ على شَيْء مِمَّا كسبوا} لِأَن الأَصْل ما في البقرة». البرهان، ص154.

[25] انظر: محمد رجائي أحمد الجبالي، توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم بين القدامى والمحدثين، رسالة دكتوراه، قسم القرآن والحديث، جامعة ملايا، كوالالمبور، 2012، ص3.

(المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى