مقالاتمقالات مختارة

البراءة من الاستبداد

بقلم د. عطية عدلان

كيف يُتَّهم رئيس يَحْكُم بإرادة شعبية حرة، ويأتي عبر انتخابات نزيهة، ويتحرك في إطار الشرعية الدستورية؛ كيف يُتَّهم بالاستبداد ؟! وكيف يُرْمَى بالدكتاتورية ؟! وإذا كان هذا عجيباً فالأعجب والأغرب والأكثر إثارة للدهشة أن يُغْمِضَ العالَم المنافق عينيه عن حكام يأتون على ظهور الدبابات وعبر الانقلابات، ويمتطون ظهور الشعوب بالقهر والغلبة، ثم يُفْسِح لهم المجال ليكونوا أعضاء يُحْتَفى بهم في الهيئات الدولية !!

إنَّ هذه الازدواجية المطلقة التي لا تقبل أن يحاسبها أو يراجعها أحد لَهِيَ عين الاستبداد والدكتاتورية، وإنّ العالم الغربيّ الذي لا يريد لأي تجربة حكم عادل في بلادنا أن تنجح ليمارس الكذب والتضليل عبر وسائل إعلامه؛ لا لشيء إلا للابتزاز والتسلط وبسط الهيمنة، بينما الدكتاتورية الحقيقية والاستبداد الحقيقيّ هو ذلك الذي تقاسيه البشرية كلها تحت ويلات هيمنته وتسلطه.

إنَّ كثيراً من المسلمين الذين تغريهم وسائل الإعلام الدخيلة أو المدخولة بالخوض في أهل العدل والأمانة لا يعلمون كيف يُدار هذا العالم الموغل في الغرابة والتعقيد، فالواقع أنَّ الرأسمالية المتوحشة البليدة هي التي تستبد بصناعة الوعي المقلوب؛ بما تملكه من آلة إعلامية جبارة، هذا ما يقوله مفكرو الغرب مثل دوفرجيه الذي قال: “أمَّا نظام الإعلام الرأسمالي فإنَّه يؤدي إلى ما يمكن أن نسميه تَبْلِيْهَ الجمهور”.

هذه الرأسمالية التي يمارس إعلامها المهيمن التلبيس على الناس باسم الحرية وبزعم مقاومة الاستبداد؛ لا ترى غضاضة – بذريعة تحرير السوق – في أن تعيش وتترعرع في ظل أنظمة فاشية، فها هو أحد رموزها الكبار – والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد – يصرح: “من الممكن أن تقوم نظم اقتصادية رأسمالية بالدرجة الأولى في ظل نظم سياسية غير حرة”،
وها هو ينحدر إلى منزلق الفاشية أكثر وأكثر فيهذي بهذا الدجل: “من الاعتراضات الشائعة على المجتمعات الشمولية أنَّها تعتبر أنَّ الغاية تبرر الوسيلة، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الاعتراض حرفياً نرى أنَّه مناف للمنطق بشكل واضح؛ فإذا لم تبرر الغاية الوسيلة فماذا يبررها ؟”.

وكأنَّ الرجل الذي أسس عصابة شيكاغو كان يمهد بتلك التصريحات لما أحدثته الرأسمالية من كوارث إنسانية لتمكن للسوق الحرّ، “ففي الأرجنتين في فترة السبعينيات شكل الاختفاء المفاجئ لثلاثين ألف شخص – كان معظمهم من الناشطين اليساريين – على يد الطغمة العسكرية جزءاً لا يتجزأ من عملية فرض سياسات مدرسة شيكاغو على البلد، تماماً كما أنَّ أعمال الرعب التي لازمت النوع نفسه من التحول الاقتصادي في تشيلي، وفي الصين في العام 1989م كانت الصدمة الناتجة عن مجزرة ساحة تيانمين وما تلاها من توقيفات بحق عشرات الآلاف من الناس هما اللذان حررا يدي الحزب الشيوعيّ كي يقوم بتحويل معظم البلاد إلى منطقة تصدير واسعة النطاق اكتظت بالعمال الذين غلبهم الرعب الشديد فمنعهم من المطالبة بحقوقهم، وفي روسيا في العام 1993م كان قرار بوريس يلتسن إرسال دبابات لقصف مبنى البرلمان وحجز قادة المعارضة هو الذي مهد الطريق أمام الخصخصة الجنونية التي أنتجت طبقة الأقلية الحاكمة”.

هذه هي الرأسمالية التي تمثل السلطة الحقيقية المتحكمة من وراء الأنظمة الحاكمة في العالم الغربيّ، الذي يدعي الديمقراطية ويمارس التضليل للرأي العام في بلاد المسلمين؛ فيحرض الناس على الحكام الشرعيين العادلين ويُعَبِّدَهم – في المقابل – للحكام المنقلبين المستبدين، وكل هذا مقصده واحد ونتيجته واحدة ومآله الذي ينتهي إليه واحد، وهو أنَّ “385 ملياردير يمتلكون معاً ثروة تضاهي ما يملكه 2,5 مليار من سكان المعمورة، أي أنَّها تضاهي مجموع ما يملكه نصف سكان العالم”.

ومن أجل الحفاظ على مغانمها تتحكم الرأسمالية عن طريق تمويلها للإعلام والأحزاب والانتخابات وغير ذلك في ماكينة “الدولة المدنية” التي تغولت هي الأخرى وتألهت حتى صارت غولاً مرعباً، فالدولة “هي الفاعل الأعلى في تشريع العنف … فإنّ الحق الحصريّ في ممارسة العنف والتهديد به لإنفاذ الإرادة القانونية السيادية هو أحد أهم سمات الدولة الحديثة”، لذلك اعترض الذين ينظرون للسياسة من منظور اجتماعي على تعريف السلطة بأنَّه احتكار أدوات الإكراه المادي، وفضل أن يعرفها بأنَّها: “إمكانية فرض انصياع مجموعة محددة من الأشخاص لأمر له محتوى معين.

نعم إنَّ هذه الدول حققت لشعوبها لونا من الرفاهية، وهامشاً من الحرية، لكن هذه المساحة حققتها الرأسمالية لرعايا البلاد التي تحكم بها العالم؛ لتبقى بأصواتهم حاكمة عن طريق لعبة الديمقراطية، ومن ثمَّ اعتمدت على الإمبريالية في استدامة سلطانها وتمكين هيمنتها، يقول لاسكي: “إنَّ ما صار واضحاً فوق كل شيء آخر في السنوات ما بين الحربين هو اعتماد الدول الديموقراطية على اقتصاديات التوسع؛ وبمجرد أن تصير هذه غير متيسرة فإنَّ التناقض بين دلالات الرأسمالية ودلالات الديمقراطية يصبح مما لا يمكن التغلب عليه”.

ويبلغ الاستبداد مداه أخيراً في محاولة صياغة العالم على وفق الهوى الأمريكيّ فقط “إنَّ ثمة جهوداً خارقة تبذل لكي يتخذ العالم صورة واحدة، ولاريب في أنَّ المحصلة النهائية لمثل هذا التطور ستكون في المجال الثقافي – كما يتصور ابن نيويورك الفنان كورت روي ستون – سيادة الصراخ والزعيق الأمريكيّ بمفرده في العالم أجمع”.

إنَّهم وأبواقهم يتهمون بالاستبداد والدكتاتورية حاكماً أخرج بلاده من الفقر والتخلف إلى الرفاهية والمدنية، ومن القهر والكبت والظلم إلى الحرية والكرامة، لا لشيء إلا لأنَّه يسعى في المساحة المشروعة التي أتاحها دستور البلاد ليبقى في الحكم مدة أطول؛ لكونه يرى أنَّه لا يزال قادراً على العطاء، وأنَّه يملك ما لا يملكه غيره من الرؤية والمشروع الذي يمكنه من العبور ببلاده من التحديات الجسام.

وهذا – لعمر الحق – لا علاقة له بالاستبداد أو الدكتاتورية، إنَّ الحاكم لا يكون مستبداً إلا أذا مارس العضل للإرادة الشعبية، واتخذ من العنف والبطش سبيلاً لبقائه في السلطة وتوريثها لمن شاء من بعده، وخالف الدستور الذي أقره الشعب، وعطل مؤسسات الشعب التي يمارس فيها سلطانه، والتف على حق الأمَّة في الشورى، أمَّا إذا بقيت الشورى تمارس في المؤسسات الدستورية فلا يمكن أن يكون للاستبداد سبيل؛ لذلك قالوا: “أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي ودواؤه دفعه بالشّورى الدّستورية”.

وما لم يغب صاحب السلطان (وهو الشعب) فلا خوف من قوة الحاكم، إنَّما الخوف عند غياب الشعب أو تغييبه، لذلك قالوا: “إنَّ الحكومة كلما كانت لها قوة وجب أن يظهر السيد نفسه كثيرا”، والشعب في المشهد السياسي التركي ظاهر غاية الظهور، ويُعْمَلُ له ألف حساب، ولم يكن كذلك قبل “أردوغان” فأين الاستبداد؟! ألا لعنة الله على الكاذبين.


المراجع

(1) مدخل إلى علم السياسة – موريس دوفرجيه – ت: سامي الدروبي وجمال الأتاسي – دار دمشق – القاهرة – بدون تاريخ – صــــــــ 181
(2) الرأسمالية والحرية – ميلتون فريدمان – ترجمة مروة شحاتة – كلمات العربية للترجمة والنشر – ط أولى 2011م – صــــــــــ 32
(3) الرأسمالية والحرية – ميلتون فريدمان – ترجمة مروة شحاتة – كلمات العربية للترجمة والنشر – ط أولى 2011م – صــــــــــ 47
(4) عقيدة الصدمة “صعود رأسمالية الكوارث” – نعومي كلاين – ترجمة نادين خوري – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – بيروت لبنان ط الثالثة 2011م – صـــــــــــ 21
(5) فخ العولمة .. الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية – تأليف: (هانس بيتر مارتين ، هارالد شومان) – ترجمة: د. عدنان عباس علي – كتاب “عالم المعرفة” عدد 238 سنة 1990م صــــــــــ 54
(6) الدولة المستحيلة – الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي – وائل حلاق – ت عمرو عثمان – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – صــــــــــــــ 73-74
(7) مفاهيم أساسية في علم الاجتماع – ماكس فيبر – ترجمة صلاح هلال – المركز القومي للترجمة – ط أولى 2011م صـــــــ92
(8) تأملات في ثورات العصر – هارولد لاسكي – ترجمة عبد الكريم أحمد – دار القلم القاهرة مصر – بون تاريخ طبع – صــــــ 284
(9) فخ العولمة .. الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية – تأليف: (هانس بيتر مارتين ، هارالد شومان) – ترجمة: د. عدنان عباس علي – كتاب “عالم المعرفة” عدد 238 سنة 1990م صــــــــــ 44
(10) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (ص:
(11) العقد الاجتماعي – جان جاك روسو – ترجمة عادل زعيتر – مؤسسة الأبحاث العربية – بيروت لبنان – ط الثانية 1995م صــــ 122

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى