بقلم د. سامي بن عبدالعزيز الماجد
الناس لا يأتون الحرم بحثاً عن الرفاهية، أو كسراً لطوق الرتابة الخانق، ولم يُخلق الحرم لهذا ولا لذاك، أقدس البقاع خُلق لشيء آخر… نفتقده كثيراً في حياةٍ جافةٍ ألهبت ظهورنا بمطالبها المادية، خُلق لتتروّى من روحانيته وسكينته النفوس، ولتجد فيه أنسها وقربها من ربها، تتلقى فيه رحماتِه وتتنفس منه بركاتِه، تشتمُّ في جنبات الحرم عبق الوحي، وتتقفّى فيه آثار النبوة، وتستروح ظلال السيرة. بيد أن ما حول المسجد الحرام تغيرت ملامحه، وكاد أن يُفسد عليهم هذا الاسترواح والأنس. يقصد أحدهم بيت الله الحرام قادماً من بلاد بعيدة أقصى الشرق أو الغرب، يحدوه الشوق والحنين، تلوح له معالم مكة من بعيد، فيشرئب عنقه، وتتسارع نبضات قلبه شاخصاً إليها بصره، ها هو يدخل مكة؛ لكنها تبدو في ملامح غير التي ارتسمت في مخيلته، وكلما اقترب من المسجد الحرام أكثر بدت له ملامحُ مدينةٍ سياحية تستقطب السياح بأبراجها الشاهقة وأسواقها المتنافسة في استقطاب الماركات العالمية، كل الملامح التي لاحت له لا تدل على الأرض المقدسة المنفردة بروحانيتها وسكينتها، وفجأة بدا له المسجد الحرام وراء الأبراج الشاهقة تطل عليه كأنها ظُلة، وكأنما الدنيا تأبى إلا أن تزاحم الآخرة، وكأنما هو الصخب والضجيج يستكثر على بقعة مباركة هدوءَ روحانيتها وسكينتها يريد أن يفسد عليها مهابتها.
كانت مآذن المسجد الحرام باسقات تُرى من بعيد تمد الوافدين لبيت الله العتيق بشعاع من مهابة البيت الحرام وجلاله وقداسته، تغريهم ليغذوا السير إسراعاً إليه؛ لكنها اليوم تقاصرت دون تلك الأبراج العاتية! وأصبح الطريق إلى مكة كالطريق إلى مدينة سياحية يؤمها المترفون!
من حق كل زائر للمسجد الحرام والمشاعر المقدسة أن يقيم في مسكن يلائمه، الغني في ما يجد فيه راحته ورفاهيته، ومحدود الدخل في ما يطيق أجرته من مسكن يتوافر فيه أدنى درجات الراحة والإعاشة. غير أن مكة أصبحت قبلةً لرؤوس الأموال تهاجر إليها كما تهاجر إلى وجهة سياحية استثمارية بملامحها الرأسمالية، كأنما غدت مكة للأغنياء وحدهم حجاً وعمرةً وجواراً لبيت الله الحرام!
لست أبالغ! كلفة الحج تنطق بذلك، تصرخ في وجوه البسطاء ومحدودي الدخل، بل في وجه كل من ليس بغني: مكة ليست لكم.. فإن أبيتم فادفعوا ضريبة “إحلال المادية ومعالم الرأسمالية محل الروحانية والسكينة”.
المناسك بلباسها ومشاعرها وشعائرها تذكّر الحجاج والمعتمرين بأنهم سواسية، وأن التنافس في تلك البقاع المقدسة إنما هو بالتقوى، فيأبى ما حول الحرم إلا أن يفرزهم فرزَ الرأسمالية، ويفرضَ على المشاعر المقدسة طبقيتها الصارخة.
نعم! الفقر والغنى سنة كونية ماضية، وليس هذا ما ننكره، وإنما محل النظر أن يُجعل للغني المتخم بالثراء أوفر حظٍ في بقاعٍ مقدسةٍ يغتصب فيها حظ الضعفاء، وأن يُفرض على الآخرين ما اعتاده من رفاهية، فإما أن يقبلوا بها، أو ليُحرموا مجاورة البيت العتيق! ولتسعهم أطراف مكة وضواحيها!
لسنا نستكثر على البسطاء أن تُذلل لهم سبل الحياة، وأن تُبدّل مشقتها تيسيراً، فهذا مقصد شرعي مستفيض الأدلة؛ ولكن نرى من الاشقاق عليهم إن هم اختاروا مجاورة المسجد الحرام أن يُكلّفوا نفقاتٍ لا يحتملونها مما هو معدود من الترف ولا تستدعيه الحاجة، فيكون هذا شرط المجاورة! فكفاهم عناءً أن يجهدوا جهدهم في مدافعة صوارف روحانية المسجد الحرام ومكدِّراتها.
المصدر: الاسلام اليوم.