مقالاتمقالات مختارة

البحث عن اليقين.. رحلات ملهمة من الشك للإيمان

البحث عن اليقين.. رحلات ملهمة من الشك للإيمان

 

بقلم سامح عودة

 

“قلوب الناس أحفظ للحياة من الكتب؛ تظل كامنة فيها ما دامت الظروف غير مناسبة، تتلمس طريقها، تكتسب مهارات جديدة تستطيع بها العيش فيما حولها، ثم تدُب فيها الحياة من جديد فجأة حين تكتمل عدتها، ولو بعد جيل كامل أو أجيال عديدة”

[محمد العدوي]

 

في الانتقالات الجذرية، تتشابك الأحداث، وربما تتشابه المقدمات بين كثير ممن انتهوا إلى نهاية واحدة. وفي الرحلة من الشك والإنكار إلى اليقين، تأملات -مهما تشابهت- تظل خاصة عند أصحابها، فلكل منهم، طريق يحفظها في تلك الرحلة، أفضت به في النهاية إلى حقيقة راسخة.

حياة الإنسان رحلة، إما عبر الزمان، أو المكان، “وتتفاوت هذه الرحلات في دوافعها وما يجنيه الفرد منها، وتظل الرحلة إلى الله مبتغى غالبية البشر، فهي الغاية من الوجود الإنساني، وهي رحلة الإنسان من المخلوق إلى الخالق، ومن الموجود إلى المُوجِد، ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب”[1].

“يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ”

[قرآن كريم، سورة الانشقاق، 6]

وفي رحلات الفلاسفة والمفكرين والعلماء، تأملات وأفكار ونظريات متنوعة، كانت تفضي إلى حقيقة واحدة: هناك إله. وما بين العقل المصمت والقلب الرقراق حكايات تستحق أن تُعرَض، وفي المزج بين العالمين -البراني العقلي والجواني القلبي- توازنات تشرح عن المنهج الصحيح شيئا ما. فما الحكاية؟ وكيف كان التوازن؟ إليك هذه التجارب.

  

الدليل من الخارج.. لنتبع الحجة أينما قادتنا

“لقد أنجزت الفلسفة مهمتها الأساسية بنجاح عظيم عندما توصّلت إلى تفسير نشأة الوجود بوجود الإله الخالق، الذي خلق الكون ليكون معدًّا لاستقبال المخلوق العاقل الحكيم، الذي هو الإنسان”

[أنتوني فلو]

في التاسع من (ديسمبر/كانون الأول) عام 2004، كانت الأوساط الفلسفية والعلمية على موعد مع مفاجأة صاخبة أذاعتها وكالة أنباء الأسوشيتد برس (Associated press) تحت عنوان: “ملحد شهير يؤمن بالإله، بدافع من الشواهد العلمية[2]، ولم يكن ذلك الرجل الذي مضى قُدما في عقده التاسع إلا السير “أنتوني فلو”، أحد أشرس الملحدين في العالم الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين.

“هناك إله”، كان ذلك عنوان كتاب “فلو” الذي خالف كل معتقداته السابقة، ليسرد فيه رحلته الفكرية -العقلية البحتة على حد وصفه[3]– والتي بدأت من طفل متدين لأحد رجال الدين المسيحي، إلى شاب ملحد -شديد الإلحاد- حتى انتهت به إلى عجوز يؤمن بأن هناك إلها، وأن الكون لم توجده المصادفة أو تخلقه الفيزياء.

وفي كتابه المذكور، يسرد “فلو” عن بداياته -في القسم الأول من الكتاب- ليخبرنا أن تنشئته الفكرية كانت ثرية، وأنه كان يفضل كثيرا كتب السياسة والفكر والفلسفة، الأمر الذي أهّله لينضم إلى نادي سقراط الفلسفي بجامعة أكسفورد، ليتبنّى بعدها واحدة من أشهر مقولات “سقراط” الفلسفية، والتي قادته بعد عقود من الإلحاد إلى الإقرار بحتمية وجود الإله: علينا أن نتبع الدليل أينما قادنا. يحكي “فلو” عن إلحاده قائلا إن الأسس التي بنى عليها اقتناعه بالإلحاد عندما كان في الخامسة عشرة “كانت ناقصة بوضوح، فقد كانت مبنية على عناد صغار السن”، فيقول عن مشكلة “الشر” مثلا: “لقد كانت مشكلة الشر بالنسبة لي دحضا حاسما لوجود إله كامل الخير وكامل القدرة”[3]، وهي الحجة التي أبطلها هو بنفسه حين أشار إلى أن وجود الشر والألم ينفصل فلسفيا عن السؤال الخاص بوجود الخالق.

كتاب “هناك إله” لأنتوني فلو (مواقع التواصل)

هنا، يتوافق “فلو” مع ما طرحته “جان ماري ترو” حين قالت إن الشر المجاني لا يمثل أي نفي لوجود الله، وإن القائلين بهذا “يستبدلون الجدل ببدهية موهومة تحتاج إلى النظر”[4]، لأن مقتضى الانضباط العقلي، حسب “ماري”، يتطلب أولا إثبات وجود الله ثم النقاش حول مجانية الشر الطبيعي من عدمها، لا أن نفترض مجانية هذا الشر من قِبل أنفسنا وإنكار أي خيرية من ورائه، ثم ننكر بهذا وجود الله. ذلك لأن إثبات وجود الله من عدمه يحتاج إلى أدلة خارجية. وعليه، وحسب “فاتزباتريك“[5]، لو افترض الملحد وجود إله، فإن الاستنتاج العقلي للحكمة من وراء الشر الطبيعي لن تكون مستحيلة، في حين أنه لو أنكر هذه الحكمة ابتداء، فإنه مطالب بالتدليل على إلحاده أولا، ثم نتحدث بعد ذلك حول مجانية الشر أو ثمنه من الحكمة.

بهذا المنطق عدل “فلو” عن شبهته، ليدرك أن وجود الشر لا يمكن الاستدلال به على الإلحاد، لأن إثبات وجود الله يتعلق بأدلة أكبر هي ما قادته إلى استنتاجه الأخير، متماشيا مع تحويلة “جي إي مور” القائلة بأن الأدلة المادية في الكون وفي التجريد العقلي قاطعة بوجود إله، وعليه، فإن مجانية الشر فرضية تحتاج إلى بحث، ومن يقيننا بحقيقة الإله، فإننا سنؤمن بقدرته وعلمه ورحمته، ومن ثم فإن الحكمة من وراء الشر، كل الشر، ستظل حاضرة، ومن هنا يمكننا البحث والتأمل[6].

يبدأ “فلو” تأمله[3] بمثال تخيلي، حيث يقول لو أن هاتفا مرتبطا بقمر صناعي سقط على ساحل جزيرة نائية، فعبث به أبناء القبيلة حتى أصدر صوتا عند الضغط على تسلسل معين من الأرقام، فإن أبناء القبيلة الأذكياء سيستنتجون أن هذا الشيء يصدر صوتا كالإنسان وأن هذا من خصائصه، لكن مجلس حكماء القبيلة سيتوصل إلى نتيجة مفادها أن الأصوات التي تصدر من هذا الهاتف لا بد وأن تكون ذات مصدر واعٍ بدلا من افتراض أن الأصوات تأتي من سماعة الهاتف، وهو ما يقابله أذكياء القبيلة بالسخرية؛ لأنه يتعارض مع يقينهم بأن الأصوات خاصة بالهاتف نفسه ولا تنتقل عبر شبكة اتصالات.

بهذا المثال يخبرنا “فلو” كيف كانت النظريات السابقة تشكل الطريقة التي يرى بها الملحدون الدليل بدلا من أن يدعوا الدليل يشكل نظرياتهم بنفسه، فهو ينتقد المقولات من عينة: “علينا ألا نطلب تفسيرا للكيفية التي وُجِد بها العالم، إنه موجود وكفى”، ليقول إن السؤال عن التفسير “كيف؟” هو سؤال علمي يجيب عنه (الأذكياء)، أما السؤال عن الغاية من وجود هذا الكون “لماذا؟”، فهو سؤال فلسفي يجيب عنه (الحكماء).

يختتم “فلو” حججه العقلية، والفلسفية، بسؤاله: هل تأتي بعض الأشياء من لا شيء؟ وهو السؤال القائم على نظرية “الانفجار الكبير” التي “غيرت كل شيء

ويقسِّم “فلو” أدلته العقلية التي قادته إلى الإيمان بإله إلى أقسام ثلاثة، أولها هو دقة وتناسق قوانين الفيزياء كلها في طريق واحد غير متعارض ويفضي إلى نتائج معلومة، فيقول: “النقطة المهمة ليست في أن هناك إطرادات في الطبيعة، ولكن المهم أن هذه الإطرادات كلها دقيقة من الناحية الرياضية، وهي كونية وشاملة ومترابطة فيما بينها… والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه هو كيف جاءت هذه القوانين كحزمة واحدة؟”[3]. ذلك هو السؤال الذي طرحه -حسب “فلو”- العلماء من “نيوتن” إلى “أينشتاين” -الذي دافع عن اعتقاده في الإله رغم اتهامه بالإلحاد[7]– إلى “هايزنبيرج” وأجابوا عنه بأنها إرادة الإله وترتيبه، وهو ما أقرّه “ستيفن هوكينغ” حين قال إن “الانطباع الطاغي هو أن هناك نظاما، وكلما ازداد اكتشافنا لهذا الكون ازددنا قناعة بأن الكون محكوم بقوانين الطبيعة، ولكن يظل السؤال قائما لماذا وُجد العالم؟ وإن أحببت، فبمقدورك أن ترى الله هو الجواب عن هذا السؤال”[8].

ثم ينتقل “أنتوني فلو” إلى إثباته الثاني المتعلق بنشأة الحياة من العدم، فيقول إن “تركيبة الحمض النووي (DNA) تبدو معقدة بطريقة يصعب معها تصديق الترتيبات اللازمة لحصول الحياة، وأنه لا بد من وجود ذكاء وراء هذه العملية”[3]، وهي التصريحات التي أثارت غضبا في أوساط علماء البيولوجيا الذين اتهموه بجهله اكتشافات التولد التلقائي (Abiogenesis). الأمر الذي ينفيه “فلو”، بل ويحتج عليه قائلا إنه، وبجانب كونها نظرية محتملة غير مؤكدة لتفسير نشأة الكائنات الحية، فإن الوقت اللازم لإتمام احتمالاتها كلها -اللازمة لتكوين كائن حي- ستفوق عمر الكون كله. لكن -وبالعودة إلى سؤال “لماذا؟”- فإن “فلو” يوجه سؤاله الفلسفي “الذي لم تتم الإجابة عنه في دراسات أصل الحياة”، فيقول: “كيف يمكن لكون ذي مادة لا عقل لها أن تنتج كائنات لها نهايات جوهرية (Intrinsic ends)، ولها قدرات على التكاثر، ومشفرة كيمائيا (coded chemistry)؟ هنا نحن لا نتعاطى مع علم الأحياء، وإنما نتحدث عن مشكلة مختلفة تماما”[3]، ويعني الغاية من وراء كل ذاك.

ثم يختتم “فلو” حججه العقلية، والفلسفية، بسؤاله: هل تأتي بعض الأشياء من لا شيء؟ وهو السؤال القائم على نظرية “الانفجار الكبير” التي “غيرت كل شيء. فإذا كان للكون بداية، فإنه يصبح من المشروع تماما، بل لا مفر من إثارة السؤال عن الذي أنتج هذه البداية. وهذا ما يغير الوضع بشكل كامل”[3]، الاستنتاج الذي يتوافق مع الرؤية التوحيدية التي تؤمن بأنه في البدء خلق الله السماوات والأرض وأن الكون غير أزلي.

   

ويعلق “فلو” على نظرية الأكوان المتعددة التي -حسب وصفه- ابتكرها الملحدون للهرب من تلك النتيجة اللاهوتية لاكتشافهم العلمي، قائلا إن التعاطي مع تلك الفكرة هو بديل يائس؛ لأنه إذا كان وجود كون واحد يحتاج إلى تفسير، فإن وجود أكوان يحتاج إلى تفسير أكبر بكثير، وعندها سيتضاعف حجم المشكلة، “هذا الوضع يبدو مثل طفل صغير لا يصدق معلمه ادعاءه بأن الكلب أكل كراسة واجبه المدرسي، فيستبدل ذلك بالادعاء بأن مجموعة من الكلاب أكلت كراسة واجبه”[3].

في النهاية يخبرنا “أنتوني فلو” أنه، وإن صار مؤمنا بالإله الخالق، لم يؤمن بالدين بعد، لذا فإنه انتهى إلى الربوبية في رحلة أطلق عليها “رحلة عقل” وليست رحلة إيمان قلبي، “وإن كان قد مات وهو يبحث عن الأدلة على تواصل الإله مع مخلوقه الإنسان”[1]، ذلك الذي يدفعنا إلى سؤال الفيلسوف البريطاني، بمنهجيته نفسها: العقل والغاية، حول الهدف من وجود الإنسان على سطح الأرض إن لم يكن لوجوده غاية؟ وهل من المعقول أن يخلق الإله الحكيم مخلوقا في كون يبدأ من العدم -ومن ثم سينتهي- حتى يفنيه بلا منهج يقوده ويحاسبه عليه؟

الدليل من الداخل.. أبتِ لماذا أسلمت؟

“لقد كان الجدار الذي بنيته بيني وبين حقيقة وجود الإله يتهاوى أمامي حجرا بعد حجر حينما أقرأ القرآن”

[جيفري لانج]

 

بكثير من التفكير، والكثير جدا من الإيمان، يمكن وصف رحلة عالم الرياضيات الأميركي “جيفري لانج” من الإلحاد إلى الإسلام كاستكمال لرحلة الاستدلال العقلي عند “أنتوني فلو”، المتوازنة بإيمان القلب واختلاطه بالوحي والبحث عن الإجابة فيه، ثم سحبها إلى الواقع وتأملها للحكم على حجيتها والاهتداء بها.

جيفري لانج (مواقع التواصل)

ويبدأ “جيفري” في كتابه “الصراع من أجل الإيمان” رواية رحلته التي بدأت برؤيا رآها أكثر من عشر مرات خلال أعوام عشرة، يرى فيها نفسه داخل غرفة فارغة إلا من سجادة، وبها نافذة صغيرة تملأ الغرفة بنور ساطع، وكان في الصف الثالث ضمن مجموعة مصطفة من الرجال المتنقلين في حركاتهم بين القيام والقعود، يؤمّهم شخص يقف بمفرده تحت النافذة تماما في عباءة بيضاء وعمامة من اللون نفسه موشاة برسم أحمر، لكنه لم يكن يلتفت لذلك.

ثم يحكي حول مراحل إلحاده، التي تلت تعميده ونشأته في وسط كاثوليكي، ويقول إنه حسب السعادة كامنة في التحصيل العلمي واللقب الأكاديمي، وهو الأمر الذي كذّبته الحياة بالفعل، إذ كان يتجاوز سعادة تطوره العلمي إلى حزن فراغه الداخلي، فيقول: “ما نحن سوى أحد الحيوانات التي تحاول أن تعيش سعيدة. هل هذا كل ما في الحياة؛ نجاح يفتر يليه آخر، وهكذا؟”[9].

ويصف “جيفري” انعزالية الملحد المترجمة لفراغ قلبه من المعنى والهدف الذي تدور لأجله الحياة، فيقول إنه سرعان ما تعلم “أن أحدا لا يعرف الوحدة كالملحد، فالمؤمن عندما يشعر بالوحشة فإنه يناجي، من أعماق روحه، الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره الشعور بالاستجابة، لكن الملحد محروم من هذه النعمة؛ لأن عليه أن يسحق هذا الدافع ويذكِّر نفسه بسخفه”، فالملحد “هو إله عالمه الخاص، وهو عالم صغير جدا يحدده مجال إدراكاته، وهذه الحدود دوما في تناقض مستمر”[9].

فالسؤال عن الغاية من الوجود الذي حرّك عقل “أنتوني فلو” نحو البحث، هو ما قاد قلب عالم (الرياضيات) للبحث عن معنى الوجود الإنساني، فسؤال :”لماذا نحن هنا؟” هو ما قاد الباحثين نحو الإيمان بالإله، إلا أن تعطّش “جيفري” للتواصل مع الله لم يكن ليدعه واقفا عند حدود العقل المقتنع، فأخذه الشوق إليه عن طريق طالب عربي كان يدرّسه في “سان فرانسيسكو”، والذي أهداه نسخة مترجمة من القرآن، ليعلق: “فلما قرأته لأول مرة شعرت كأن القرآن هو الذي يقرأني!”[9].

فلم يزد الوقت على “جيفري” حتى أعلن إسلامه بمسجد الكلية، ليحكي عن تجربته مع القرآن قائلا: “القرآن، هذا الكتاب الكريم، قد أسرني بقوة، وتملّك قلبي، وجعلني أستسلم لله، فالقرآن يدفع قارئه إلى اللحظة القصوى، حين يتبدّى للقارئ أنه يقف بمفرده أمام خالقه”[10]، فهو -رغم جهله العربية- لم يكن يرى في قراءة القرآن أمرا بسيطا أو سهلا كقراءة ما سواه، فهو “يحمل عليك، وكأن له حقوقا عليك! وهو يجادلك، وينتقدك ويُخجلك ويتحداك”، ويقول: “لقد كان القرآن يسبقني دوما في تفكيري، وكان يخاطب تساؤلاتي.. وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت أكتـشف الإجابــة في اليوم التالي.. لقد قابلت نفسي وجها لوجه في صفحات القرآن”[9].

فإذا كانت الرحلة السابقة لـ”أنتوني فلو” -كما وصفها- رحلة عقل لا مكان للإيمان القلبي بها، ووقفت به عند القول بالألوهية دون الإيمان بدين، فإن رحلة “لانج” -حسب “عمرو شريف”- يمتلك فيها الإيمان القلبي نصيبا كبيرا، فيقول: “كما وصل به، لا أقول إلى شاطئ الدين الحق، بل خاض به بحر الإسلام الممتد”[1]، وهو ما عبّر عنه “جيفري” في غمار تعليقه على سؤال ابنته: “أبتِ لماذا أسلمت؟” بقوله: “لقد هويت في الرحمة النابعة من الحب الأسمى. لقد عدت إلى ملاذي ثانية!”[9].

لأن الحياة أسمى من الفكر

“قليل من الفلسفة يؤدي إلى الإلحاد، والتعمق فيها يؤدي إلى الإيمان”

[فرانسيس بيكون]

كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، كانت تلك عبارة “النفري” التي تصف الفارق بين رؤية التفاصيل الصغيرة ورؤية الكليات الكبرى، ولعل سؤال الغاية الذي حرّك عقل “فلو” وقلب “لانج” نحو التسليم بوجود إله هو ما حرّك عقلين آخرين نحو الأمر نفسه، ولكن لمسارهما طابع مميز غلب عليهما التوفيق والمرونة بين السبيلين.

الدكتور “مصطفى محمود” والمفكر “عبد الوهاب المسيري” كانا نموذجين لمزج عقل “فلو” بقلب “لانج”، كما كان كل منهما نموذجا مقابلا لكل من الاثنين السابقين. فلو كان الإيمان القلبي لـ”جيفري” هو ما قاده إلى الإسلام، فإن “محمود” استعان على قلبه بالعلم واستعان على العلم بالفلسفة، ولو كان عقل “أنتوني” أسلمه إلى حتمية الوجود الإلهي، فإن عقل “المسيري” قد رافقه التأمل في الإنسان ليقف به على شاطئ لتسليم لله.

وتحت عنوان “دليل الروح والنفس والجسد”، يقف صاحب العلم والإيمان على تأملاته التي تبعت اغتراره بالعلم وعبادته لذاته -على حد تعبيره[12]– فيقول: “أثناء دراستي للتشريح، كنت أتصور أني يمكن أن أفهم الروح إذا شرّحت الجسد وأن لا فرق بين الاثنين؛ الروح هي البدن، والعقل هو المخ، والشخصية هي ردود الفعل ومجموع الأفعال المنعكسة، والعاطفة في النهاية جوع جسماني، وكان ذلك يعني أن النفس ما هي إلا مجرد حوافز الجوع والجنس ومجموعة الاستشعارات التي يدرك بها الجسد ما يحتاجه”[11].

لكنه يخبرنا عن انتباهه لحقيقة خارج هذا التفسير تتمثل في مقدرة الإنسان على التضحية في سبيل معانٍ غير متجسدة كالحرية والعدالة وإلخ. فيسأل: “أين هذا من التفسير المادي؟”، ليجيب بنفسه: “إننا أمام إثبات قاطع بأن النفس والذات حقيقة متجاوزة وعالية على الجسد، وليست مجرد احتياجات الجسد الحسية معكوسة في مرآة داخلية… إن الهيمنة الداخلية على جميع عناصر الجسد ومفردات الغرائز هي الشهادة الكاشفة عن ذلك العنصر المتعالي والمفارق الذي تتألف منه الذات”[11].

 

هناك شيء أكبر من المادة إذن، شيء أكبر من الإنسان الذي تأمل فيه “المسيري” ليخرج من شكوكه حول الإلحاد والإيمان بمقولته: “إذا كان اكتشاف الشر في النفس البشرية قد قادني بعيدا عن الإيمان، فإن اكتشاف الخير فيها قد عاد بي إلى عالم الإنسانية والإيمان. هكذا، فبدلا من الوصول إلى الإنسان من خلال الله، وصلتُ إلى الله من خلال الإنسان”[12].

وهو في ذلك يروي قصة زواجه من الدكتورة “هدى حجازي” كمثال للفارق بين النموذجين: الإيماني الذي يرى الإنسان جسدا وروحا، والمادي الذي لا يستوعب كثيرا من الجوانب النفسية للإنسان[13]، فيقول إنه حين أراد الزواج منها كان عضوا في الحزب الشيوعي، وكانت هي من طبقة اجتماعية مدنية وميسورة الحال، فاستشار أحد أصدقائه من داخل الحزب في أمرها، ليخبره صديقه باستحالة نجاح زيجة كتلك بسبب الفروق الأيديولوجية والفكرية بينهما، فهو ماركسي يدافع عن طبقة العمال وهي فتاة من أسرة برجوازية.

ذلك الرأي الذي لم يعجب “المسيري” كثيرا، مما اضطره لاستشارة والدته، للمرة الأولى بحياته، في أمره هذا، لتسأله هي بدورها سؤالا بسيطا ومباشرا حول شعوره العاطفي تجاه تلك الفتاة، وهو السؤال الذي استوقفه بشدة ليكتشف حينها أنه كان مكبلا بأفكار مادية تحسب الأمر بشكل جامد وتغفل جانبا محوريا في الارتباط كالمشاعر والعاطفة، ويقرر من وقتها أن الإنسان لا يصح له -أبدا- التضاؤل إلى هذه الدرجة، وكانت تلك -على حد وصفه- المرة الأولى التي يختل فيها النموذج المادي ويتبين له اختزاله وعجزه عن فهم وتفسير الإنسان.

فتلك الثنائية التي تربط العقل بالقلب، وتتأمل الإنسان بصورة أكبر من الجسد، كانت قادرة على تأمل العالم بصورة أعمق من القوانين الفيزيائية، “فنحن حينما ندرك الجمال ونميزه عن القبح، وندرك الحق ونميزه عن الباطل، وندرك العدل ونميزه عن الظلم، فنحن في كل مرة نقيس بمعيار، بمسطرة منفصلة عن الحادث الذي نقيسه، نقيس من العتبة نفسها.. عتبة الروح”[11].

تلك الروح التي دفعت “المسيري” كذلك إلى السؤال: لماذا -رغم مسيرة الإلحاد- لا تزال الأخلاق والقيم المطلقة حاضرة في تعاملاته وأفكاره؟ “وكان هذا الإيمان بالمطلقات يتنافى مع الإلحاد الكامل، وهو إيمان بثوابت ومطلقات لا يمكن أن تستند إلى عالم المادة وعالم الطبيعة، ولكنها تستند إلى الله”[14].

لذا يمكن تلخيص الرحلة المسيرية في مراحل خمس[1]، تبدأ من تبنيه للنموذج المادي والماركسي، ثم إدراكه لعجز هذا النموذج عن الإحاطة بالإنسان، الأمر الذي نمّى شعوره بثنائية “المادة والروح” الإنسانية، ثم الإقرار بأن إنسانية الإنسان مصدرها عنصر غيبي لا يفسرها إلا وجود الإله، ثم النظر في الديانات السماوية والشرقية واختياره الإسلام دينا؛ لأنه يصنع ذلك الامتزاج الفريد -المتكامل- بين المادة/عالم الأرض، والروح/عالم السماء، الأمر الذي يبرهن على صحته.

فيقول في تقديمه لكتاب “الإسلام بين الشرق والغرب: “ثمة رؤية ثالثة تعترف بالثنائية الإنسانية، وتحاول تجاوزها عن طريق توحيد الروح والمادة، وهذه هي الرؤية الإسلامية. إن الإسلام يخاطب كل ما في الإنسان ويتقبله.. ومن ثم نجد انسجاما وتطابقا فطريا بين الإنسان والإسلام”[15]. ويستدل بقول “بيغوفيتش” إن الإنسان “هو وحدة الروح والجسد، [وكذا] الإسلام، [فهو أيضا] وحدة بين الاتجاه الروحي والنظام الاجتماعي، وكما أن الجسم في الصلاة يمكن أن يخضع لحركة الروح، فإن النظام الاجتماعي يمكن بدوره أن يخدم المُثل العليا للدين والأخلاق”[16].

هكذا تخبرنا الرحلات الأربع عن التناغم الذي يعطيه التفاعل العقلي والروحي -الثنائية المتفاعلة بتعبير “المسيري”[13]– والذي قد يعجز فيه العقل بمفرده عن إدراك النهاية، فالعقل وإن اهتدى لحتمية وجود صانع للكون، فإنه -من باب العقل- سيدفعنا إلى السؤال حول الصانع نفسه: من هو؟ وكيف نتواصل معه؟ وربما هو السؤال الذي قاد “لانج” نحو الإيمان، فما يحكيه “جيفري” في رحلته قد يبدو عاطفيا جدا، لكنه يصرّح كثيرا بأن أول ما لفته من القرآن، واستثار عقله كثيرا، هي -حسب تعبيره- البراعة في التسلسل، “حيث يبدأ بعرض أساسيات التوحيد، ثم الأوامر والنواهي، ثم تجد في أوسطه قصص الأولين بسرد جميل، وفي نهايته يجد القارئ خلاصة الرسالة الإلهي بمعانٍ من الجمال والقوة والثورة الروحية”[17].

لكن لا يبدو الأمر غريبا في النهاية، فكما يخبرنا “ألكسيس كارليل” أنه “لا غنى عن العاطفة لتَقدُّم العقل، فالحب ينبه العقل عندما لا يبلغ هدفه”، أو كما يقول “جوته”: “المعرفة ستكون من الإحاطة والعمق بقدر ما يكون الحب”، وهي الثنائية ذاتها التي ألهمت “مصطفى محمود” و”المسيري” في رحلتيهما، تأكيدا على قول “لافارج”: “إن العاطفة تشكل حياة العالم” فالبصيرة والعاطفة تضيء للعقل طريقه[18]، ونظرية “بيغوفيتش” “فالحياة أسمى من الفكر”[16] لينتهي المسار إلى منهج يحقق لجانبين إشباعهما، كما يصرح “محمد عبده”: “الدين الكامل علم وذوق وفكر ووجدان، فلا فرق بين العقل والوجدان في الوجهة، فهما عينان للإنسان ينظر بهما”[18].

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى