مقالاتمقالات مختارة

الانتخابات العراقية.. وحوار الطرشان (1-2)

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

من الأدب العراقي التهكّمي أن رجلاً مرّ على نهر دجلة بصيّاد فسلّم عليه، فأجاب الصياد: والله نصيد سمكاً، فقال الرجل: يا أخي أنا أسلّم عليك أقول لك مرحباً، قال الصيّاد: والله كما تعلم السمك أصناف وكل صنف له سعر، قال الرجل: يبدو أنك لا تسمعني، في أمان الله، قال الصيّاد: الرزق على الله وليس عليك. والحكاية لا تذكر هل الصياد كان ثقيل السمع فعلاً أو أنه كان لا يريد أن يسمع سوى ما يريد أن يسمعه.
أتابع السجال والجدال المباشر وغير المباشر بين أصناف التوجهات العراقية فأكاد أراها بالعموم لا تخرج عن حكاية صاحبنا الصيّاد، وهذا هو الذي يفسّر تخندق الخصوم في مواقعهم منذ عقد ونصف دون القدرة على التوصل إلى حل، بل ودون القدرة على أن يفهم بعضهم بعضاً.
العملية السياسية منذ يومها الأول كانت عملية فاشلة، وآثارها المدمّرة طالت كل شيء في هذه البلاد، ورائحة الفساد فيها أزكمت الأنوف فلم يقدر على إنكارها حتى أقطاب العملية السياسية أنفسهم، وما رأيت عاقلاً ينكر هذه الحقيقة، لا مشارك ولا مقاطع، لا أهل الداخل ولا أهل الخارج، ومع هذا تجد المساجلات والمجادلات منذ عقد ونصف وإلى اليوم لا تخرج عن هذه القضايا المتفق عليها من الأصل!
نعم هنالك قلّة مستفيدون من هذا الوضع، وهم حيتان الفساد، وهؤلاء ليس من مصلحتهم تغيير الحال، لكن السجال الذي بينهم قد تكفل بكشف كل مستور، هذا إن كان ثمّة مستور أصلاً، أما عامة الناس -فضلاً عن أهل العلم والفكر- من كل الشرائح والطوائف فالضرر الواقع عليهم لا يمكن التكتم عليه أو المكابرة فيه حتى لو كان الضرر متفاوتاً، إذاً أين محل الخلاف؟ وما معنى هذه البيانات والفتاوى المتراشقة؟
انتهت الانتخابات كما هو معتاد ومتوقع، فساداً وتزويراً وفضائح سياسية وحتى أخلاقية، لتبدأ المجادلات نفسها وبالأساليب والألفاظ والاتهامات المتبادلة ذاتها، وبقدر كبير من التلاوم المثير للإحباط والتشاؤم، يقول المقاطع للمشارك: أنتم الذين منحتم هذه العملية الفاسدة الشرعية فكنتم عوناً للفاسدين، فيرد المشارك: أنتم الذين أخليتم الطريق لهؤلاء الفاسدين ومنحتموهم الفرصة الأكبر للتلاعب والتزوير. إنه نوع من الجدل «البيزنطي» العقيم والعاجز حتى عن إدراك طبيعة المشكلة، فضلاً عن إيجاد الحل المناسب لها.
قديماً كان أهل العلم يقولون: إن تحرير محل النزاع شرط في المناظرة الهادفة، وبغير هذا الشرط تذهب السهام المتراشقة بعيداً عن الهدف، ويكون كل فريق كأنه يخاطب نفسه، وهذا هو الحاصل في حالتنا هذه، حيث يحرص كل طرف على أن يناقش الأفكار التي يريد هو أن يلصقها بخصمه، ليظهره أمام العامة كأنه منكر للبديهيات، إنه نوع من التسقيط السياسي، وهو مظهر من مظاهر فساد الذمم وإن جاء بعباءة أخرى.
إننا حقيقة أمام مشكلة منهجية وأخلاقية، أضلاعها الجهل والطرش والعقد النفسية، والرغبة بتحقيق الانتصار الوهمي على المخالف، ولسنا أمام قوم يبحثون عن حل لكارثة نزلت بهم وببلادهم، وأوشكت أن تعصف بهم وبوجودهم وبتاريخهم.

(المصدر: مجلة العرب الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى