الاقتتال والفوضى: زرع الثورة أم نبت قوى الاستبداد؟
بقلم محمد هنيد
الثابت اليوم هو أن المنطقة العربية كاملة من الخليج إلى المحيط تعيش أسوأ الأزمات في تاريخها الحديث وهي أزمات تنبئ بأن المنطقة تدشن منعرجا جديدا سيكون ما بعده مختلفا تماما عما قبله.
الأزمات العربية تتجلى عبر واجهات مختلفة منها الظاهر ومنها الخفي الذي لا يكاد يظهر على السطح. فالصراعات السياسية والأزمات الاقتصادية وعودة الاحتجاجات الشعبية عبر البوابة السودانية وانتشار الاقتتال والحروب البينية كلها مؤشرات ودلائل ترسم الإطار العام للمرحلة العربية الجديدة.
مشاريع تدخل خارجي
لكن الأخطر في هذه المرحلة إنما يتمثل في أن الأزمات هذه المرة لا تقتصر على نطاق واحد بل إنها تشمل أعلى البناء السياسي وصولا إلى أسفل السلّم الاجتماعي في غياب شبه تام للبدائل والمخارج والحلول الداخلية، وهو ما يفتح الباب كبيرا أمام التدخل الخارجي بشكل أصبحت معه المنطقة مشرعة على كل مشاريع التمدد الخارجية سواء منها الإقليمية أو الدولية. هاته المشاريع الخارجية التي تعبر إلى الداخل عبر بوابة الفوضى إنما تعبر أساسا من خلال غبار الحروب وعبر تغذية الفوضى والاقتتال الذي أعقب فشل الثورات العربية وانحسار موجاتها الأولى.
1 ـ سلمية الثورات:
هل كانت الثورات العربية وموجة الاحتجاجات الشعبية فعلا حركات سليمة؟ ليس من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لأن التاريخ القريب والمباشر للأحداث التي نقلتها بالصوت والصورة كل القنوات الإخبارية العالمية يؤكد أن الثورات العربية لم تكن مسلحة أبدا. هذا الحكم ينسحب على التجربة التونسية باعتبارها شرارة التغيير الذي ضرب المنطقة وهو نفس الطابع الذي وسم الثورة المصرية التي امتلأت فيها الساحات بالملايين من المتظاهرين والمعتصمين المطالبين بإسقاط النظام دون أن يطلق المتظاهرون رصاصة واحدة.
ثورات الربيع العربي كانت كلها ودون استثناء ثورات سلمية في منطلقها وكانت مطالبها مطالب اجتماعية ذات خلفية سياسية غير حزبية
كانت هذه الخاصية السلمية حاسمة في نجاح الثورات، حيث فشل النظام القائم في وسم الثورات بالإرهاب كما يفعل عادة، بل إن التغطية الإعلامية المباشرة قد لعبت دورا مركزيا في منع النظام من نسج الأكاذيب ومن شيطنة الثورات كما كان يفعل عادة قبل انفجار الثورة الاتصالية العالمية. إن أمواج المتظاهرين السلميين لم تترك للسلطة القائمة خيارا واحدا للصمود أمام جحافل الغاضبين فعجّلت برحيل رأس الهرم السياسي في تونس ثم في مصر.
في ليبيا كذلك ورغم ما عرف به نظام العقيد من وحشية دامية في التعامل مع المطالب السياسية فإن الاحتجاجات التي عرفتها مدن الشرق الليبي كانت كلها ذات طابع سلمي قبل أن يبدأ النظام وكتائبه في تصفية المتظاهرين بالرصاص الحي. لقد عمد النظام الليبي منذ البداية إلى تغليب خيار الحل العسكري كعادته ورفض كل الدعوات والوساطات الدولية التي كانت تدعوه إلى حقن دماء الليبيين.
أما في سورية فقد استعادت الدولة الحل الليبي وقرر النظام الطائفي بعد مشاورات إقليمية مع حلفائه في المنطقة إخماد الثورة السورية بالقوة العسكرية. لقد حافظت الثورة السورية على سلميتها طيلة ستة أشهر نقلت عبرها الفضائيات العربية والعالمية انتفاضة الشعب السوري الذي واجه بحناجره رصاص قناصة النظام في كل المدن السورية تقريبا.
إن ثورات الربيع العربي كانت كلها ودون استثناء ثورات سلمية في منطلقها وكانت مطالبها مطالب اجتماعية ذات خلفية سياسية غير حزبية، إذ رفعت شعارات العدالة الاجتماعية وشعارات الحرية أولا والحرية أخيرا. تستقي هذه الخلاصة أسسها من التاريخ القريب لثورات الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر وسورية وهي خلاصة يدعمها الحراك السلمي الذي تعيشه اليوم مدن السودان وهي ترفع نفس الشعارات التي رفعتها الثورات السابقة لها في استنساخ يكاد يكون كليا للطابع السلمي لثورات الربيع.
لم تخرج الجماهير العربية مسلحة لإسقاط النظام ولا هي اعتمدت على جيوش خارجية لكي تنصر ثورتها ولا هي اعتمدت على أحزاب سياسية لتطيح بأنظمة الاستبداد التي تحكمها. إن السبب الأساسي لنجاح الثورات العربية في إسقاط الأنظمة الحاكمة هو طابعها السلمي الذي ميزها عن غيرها من الثورات الأخرى في العالم كالثورة البلشفية او الثورة الإيرانية أو حتى الثورة الفرنسية. كما أن هذه الثورات لم تنصب المشانق ولم تقتص من جلاديها كما فعلت التجارب الثورية الأخرى بل اكتفت بإسقاط النظام وسلّمت لنخبها المحلية مسؤولية تحقيق المسار الانتقالي نحو مجتمع أكثر عدلا ونحو سلطة أقل استبدادا.
2 ـ الاستبداد ومخرج “الفوضى الخلاقة”:
لم يكن للنظام الرسمي العربي من مخرج حقيقي للمأزق الدولي الذي وضعته فيه الجماهير الغاضبة إلا استعادة الأساليب القديمة والوحيدة التي قد تمكنه من استرجاع المجال الذي خسره خلال الثورات وذلك لأسباب كثيرة:
أولا لا يملك الفاعل السياسي العربي أية أداة حكم قادرة على امتصاص الاحتقان الشعبي غير القوة القاهرة والعصا الأمنية التي بنى بها كل تاريخ حكمه للمنطقة. ثانيا تعتبر الفوضى ومناخ الفوضى الإطار الوحيد الذي يمكن للسلطة العربية السياسية أن تتحرك داخله بفعالية عالية لأنها لم تتأسس على قاعدة النظام وفصل السلطات وحرية التعبير بل قامت على القمع وتأسست على الانقلابات. أي أن النظام السياسي العربي بشكليه العسكري الجمهوري والوراثي الأمني قد تأسس على ضمان منع الخروج من التخلف بما هو الوجه الأبرز للفوضى والحاضنة الأساسية له.
أما مصطلح “الفوضى الخلاقة” الذي يلوكه كثيرون من أنصار النظام الاستبدادي العربي ويرجمون به الثورات الشعبية فقد تم اقتباسه من تصريح قديم لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “كونداليزا رايس” التي بشرت بمرحلة الفوضى في منطقة المشرق العربي. هذا المصطلح جعل منظري الاستبداد العرب يعتبرون الثورات الشعبية مؤامرة صهيونية أمريكية لتفتيت الوطن العربي ويؤسسون عليه نظرية المؤامرة الكونية ضد واحات الحرية العربية.
بقطع النظر عن سذاجة القراءة وتهافتها فإن الفوضى لم تكن يوما صناعة خارجية في منطلقها بل كانت دائما فعلا سياسيا داخليا يغذيه الخارج لكنه لا يصنعه.
المقاتلون الأجانب والمرتزقة والشركات الأمنية الخاصة شكلت محورا أساسيا من محاور الفوضى في مجال الربيع العربي بل وحتى قبلها من خلال التاريخ القاتم لشركة ” بلاك وتر” الأمنية بالعراق خلال الغزو الأمريكي.
في تونس عمل بن على وأبواقه الإعلامية منذ اليوم الأول للاحتجاجات على نعت المتظاهرين بالأوباش والمخربين وقطاع الطرق وهو نفس المنهج الذي اعتمده طاغية مصر العسكري. أما القذافي فوسمهم بالمرتزقة والخارجين عن القانون ونعتهم بأبشع النعوت كالجرذان واللصوص والأوباش.
كانت تهمة الإرهاب التهمة الأبرز التي وصف بها المتظاهرون لأنها تتماهى مع الوصف العالمي الذي يشرع قتلهم ويُحلّ تصفيتهم ويخلص النظام من كل ملاحقة قانونية أو قضائية. هذه التهمة هي التي سمحت للأنظمة العربية باستعمال الرصاص الحي في قمع المتظاهرين وفي قتل المحتجين السلميين بدم بارد في كثير من الحالات.
نفس المنوال لجأ إليه النظام السوري عندما أطلق العنان لقواته النظامية من أجل القضاء على المتظاهرين في الساحات والميادين وخاضت قوات الأسد حربا حقيقية ضد المدن والقرى التي انتفضت ضده. وهو اليوم نفس الأسلوب الذي يلجأ إليه النظام العسكري في السودان من أجل إنهاء حالة الثورة التي بدأت تتشكل في كل المدن والقرى.
لكن أبرز ما يميز القمع الدموي الذي جوبهت به الثورات هو الاستعانة بالخارج في إخماد الحراك الشعبي وهو أمر ظهر جليا في الحالة السورية بعد تدخل المليشيات الإيرانية ومليشيات حزب الله ثم التدخل العسكري الروسي المباشر. لكن قبل ذلك اعتمدت السلطة السياسية على المرتزقة وعلى الشركات الأمنية الخاصة من أجل عسكرة الثورات وزرع بذور الفوضى. ففي ليبيا مثلا عمد نظام القذافي إلى الاستعانة بمرتزقة سودانيين وتشاديين وروس وقوات خاصة من أوروبا الشرقية من أجل إنجاز المهمة القذرة التي قد يتردد العسكري المحلي في القيام بها.
المقاتلون الأجانب والمرتزقة والشركات الأمنية الخاصة شكلت محورا أساسيا من محاور الفوضى في مجال الربيع العربي بل وحتى قبلها من خلال التاريخ القاتم لشركة ” بلاك وتر ” الأمنية بالعراق خلال الغزو الأمريكي.
بناء على كل ما تقدم فقد نجح النظام الرسمي العربي بأجنحته المختلفة في صناعة الفوضى بأدوات محلية وأخرى دولية من أجل أن يحقق جملة من الأهداف. يتمثل أولها في شيطنة الثورات واعتبارها مجلبة للخراب والموت والقتل فينزع عنها سلاحها الأهم وهو سلاح السلمية. أما ثاني هذه الأهداف فيتمثل في كسب الرضى الدولي برفع شعار محاربة الإرهاب من خلال الجماعات الدينية المتشددة التي نجح في توظيفها لخدمة أهدافه. لكن هذا النظام نفسه صار اليوم عاجزا عن احتواء الفوضى التي خلقها والتي تكاد تعصف به هو أيضا لأن الثورة المضادة لم تنجح إلى اليوم في تأمين المجالات التي اكتسحتها ولا هي تمكنت من إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل اندلاع شرارة الربيع. هذا الوضع الذي تعيشه المنطقة اليوم يجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات لكن الاحتمال الأبرز إنما يتمثل في تمدد مساحات انعدام النظام بشكل يجعل القوى الخارجية صاحبة القرار النهائي والأخير عربيا وإقليميا.
(المصدر: عربي21)