(بقلم مهنا الحبيل – الجزيرة)
أكثر من 70 عاما فصلت بين دعوة المفتين للجهاد، لمساندة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وهي الحرب التي أسقطت الأتراك والعرب، وبين الدعوة ذاتها في العام 1990، لإطلاق أول حروب الولايات المتحدة الأميركية على العراق، والتي انتهت إلى غزوه واحتلاله، وتدمير قاعدة الاستقرار الاجتماعي في الشرق الإسلامي.
وهي قاعدة الاستقرار التي عبث بها الاستبداد، وضيّق عليها، لكنها بقيت تحمل جذور إيمان بالسلم الاجتماعي والعلاقات الإنسانية، بين المسلمين بطوائفهم، وبينهم وبين أقلياتهم، حتى عاد الغرب العسكري مرة ثانية، بعد حقبة أساطيل هولندا والبرتغال، ثم إنجلترا التي غزت المنطقة وبقيت فيها طويلا.
وفي لقطة علمية فكرية رائعة، تحدث إدوارد سعيد، في كتابه الاستشراق، عن تأثير أرشيف الشرق الذي صُنع بإرادة غربية، بين الحركة السياسية الاستعمارية ورديفها الثقافي من مدونات بعض المستشرقين، لخص فيها سعيد أفكار قادة الانتداب بين مصر والهند، والذي يشملها نفوذ شركة الهند الشرقية التابعة للتاج البريطاني في الخليج العربي، فحدد أن الكتلة الصلبة في هذا التعاطي، كان فكرة العنصرية الكبرى التي تفترض إنسانية دونية (طبعيّة) مستعصية، يغطّ فيها هذا الشرق.
“تتنوع زوايا هجوم الغرب الشامل اليوم على قيم الشرق، من حيث رفض مفاهيم رعاية الأسرة وصيانة القيم، وعدم الاعتراف بتفوق أخلاق الروح ورفض اعتمادها جسرا للتعايش بين الناس، وإن اختل حالهم السياسي، فإن النتيجة واحدة، حملة نمطية من الغرب، تبسط مشروعا ثقافيا كمبرر للاستعمار السياسي أو العسكري”
وبالتالي وحسب النظريات الغربية التي آمن بها رهطٌ من مثقفي الشرق، من خلال هزيمتهم النفسية أو إحباطهم العنيف، والتي أسس عليها هذا المشروع الاستعماري تبريره الثقافي، فقد استمر ذلك الاستدلال والاستثمار، حتى الحروب الأخيرة، ليُضفي حالة التخلف الأزلي للشرق، وأنّ هذا الغرب يكرمه باحتلاله.
ومع اختلاف الزوايا المتعددة، والصفات النمطية التي يدمغ بها الغرب حالة الشرق، كتخلف عن المعرفة أو طبائع جاهلة، أو سمات تبلّد، ركّز عليها كرومر ورفاقه كمؤسس لنظرية تبرير الاحتلال، ومع ما يستخدمه الغرب اليوم في قضية الهجوم الشامل على قيم الشرق، من حيث رفض مفاهيم رعاية الأسرة وصيانة القيم، وعدم الاعتراف بتفوق أخلاق الروح ورفض اعتمادها جسرا للتعايش بين الناس، وإن اختل حالهم السياسي، فإن النتيجة واحدة، حملة نمطية من الغرب، تبسط مشروعا ثقافيا كمبرر للاستعمار السياسي أو العسكري.
واليوم نحن نشهد عمليا، خلاصات هذه الهجمات الشرسة، للحركة الوجودية الجديدة على الإنسان والمعرفة الإسلامية، وما تبقى للناس من استقرار اجتماعي للإيمان، حافظوا عليه ذاتيا، وكيف دمرتها حروب الغرب، ونشره للمفاهيم الهجومية التي تُشيع عجز الشرق الثقافي المزعوم في الرسالة الإسلامية، كما تشارك اليوم الآلة الغربية السياسية والعسكرية في تدمير الإنسان في الشرق، وتأميم ما تبقى من ثروة مهدرة من قبل الاستبداد، ليؤمم هذا الغرب حقوق الناس، عبر صكوك الغفران المقدمة لما تبقى من أنظمة التبعية للمشرق العربي.
وهو ما يعني بوضوح آلية التوظيف السياسي، التي يسخرّها الغرب، داخل ما يُسمّى سيادة وطنية لهذه الدول، وهي في الحقيقة سياسات تسليم كارثية، قاد فيها هذا التحالف بين الاستبداد والمشروع الغربي، المشرق لهذه الكارثة، ثم يُجلد الشرق ورسالة الإسلام فيه، قبل أن يُفهم من أممه الطريدة، وقبل أن يَفهم العالم معادلة رسالته.
ولذلك حين يستنهض المفكر أو المبدع الغربي، أيقونة عقله وفهمه العميق الذي يتجاوز واقع المسلمين، وأنه لا يمثل في مناحي أساسية رسالة الإسلام، ثم يفهم معادلة الإسلام في الجمع بين أخلاقيات الروح وإبداع الجسد، لعمران الأرض، يُقبل على الإسلام ويعتنقه.
وهو كذلك فيمن يستشعر أن صبابة الهروب عن أخلاقيات الروح، ودورها في اضطراب حياته، لن تعطيه السعادة العميقة كم يعطيها الإسلام، وإن وجد في عمره راحة وفرحا لموقف ضمير، أو فسحة بهجة، لكنّها ليست استقرارا صلبا، فتُقبل هذه النماذج على اعتناق الرسالة، ويكون تمسكّها أعمق، حين تَفهم مبكرا أزمة الأمة المسلمة وسبب ابتعادها عن أخلاقيات الدين ومنهجية الشعوب الرشيدة، فيما يتعرض البعض لانتكاسات وتراجعات، حين يصدم بواقع المسلمين. وكلاهما حالتان موثقتان في أرشيف التجربة.
هنا تبرز لنا إشكاليات كبرى منذ تاريخ السلطنات الإسلامية، من الأمويين حتى الدول الحديثة، في مسألة مهمة للغاية وهي صعوبة استقلال البلاغ الإسلامي وممثليه، وهو أمرٌ قد تواتر عليه حديث علماء السلف المتقدم، من حيث التحذير المشدّد من إخضاع الشريعة وعلمائها إلى أمزجة السياسي المتحكم، وخاصة في رهن الفقه لأدوات الاستبداد.
وهي اليوم أزمة أعم وأقسى من الزمن القديم، فمساحة صفاء البلاغ الإسلامي المستقل باتت محدودة وخاصة في إطار الفكر، وإن كان في إطار علوم الشريعة الفردية أيضا ضعيف، لكن علوم العبادات الفردية ليس لها تأثير كبير في الواقع الاجتماعي، ولذلك يسعى الاستبداد أو التوظيف السياسي المتعدد، لتحويل جهد هذا الشيخ أو ذلك الواعظ، إلى فضاء سياسي بقاعدة فكرية موجهة، فيهوي بفتواه ليمهد لمفهوم فكري خاطئ قد يجهله، أو يدركه، ولكنّه يخضع لظروف الضغط، فيقدمه للمستبد، وهو في فعله يهدم مكانة من قداسة الإسلام، في أعين الشباب.
ثم إذا تحوّل هذا المفهوم إلى مادة بطش، أو خنق حقوقي، انتقلت الفكرة إلى عقول الشباب، عن هذا العالم، وظنوا أو وقع في نفوسهم، أنها من وحي الإسلام وشريعته، وطفقوا يبغون النجاة من استبداد تدعمه آلة دينية، فتمكنت منهم رياح التغريب المتطرفة، وليس التحديث المقبول للشراكة النهضوية بين الأمم، أو حق الإنسان الفكري والسياسي، فساهمت هذه الرياح في تعزيز جسرها، لصناعة قابلية للاستعمار الثقافي في شباب وشابات الشرق المسلم، وعقولهم سابحة في الفكر، وسط اضطراب عاطفي شديد، ودون تروٍ ومطابقة لمعادلة القياس الإنساني بين الأفكار المختلفة، وفي الوقت ذاته تصوم أنفسهم عن وعي الإسلام، من شدة ما لحق بنفوسهم من أثر التوظيف الديني في ديارهم.
“تعيش الأمة اليوم حربا فكرية، تحتاج فيها إلى ضمان استقلال خطاب البلاغ الإسلامي، حتى لا تتحول هزيمة الشرق الكبرى، وسقوطه تحت أقدام المحتل الداخلي والخارجي إلى هزيمة للفكر الإسلامي، فأقدس مهمة للبلاغ هي رسالة الحق والعدالة الاجتماعية والنجاة الروحية التي بعث بها الإسلام إلى البشرية”
إن ما يجري اليوم من توظيف بيانات المؤسسات الإسلامية المختلفة والمتعاكسة، حتى في ظل ما يعتبره البعض نموذجا إسلاميا، وهو لم يصل إلى أي مستوى رشاد ذاتي، ويسبح في ظروف سياسية ومصلحية مضطربة، ومع ذلك تُستخدم بيانات لمؤسسات فتوى ووحدة إسلامية، لتبرير موقفه السياسي الذي قد ينقضه غدا، في حين دبّج أولئك العلماء الأفاضل أو المرتزقة -عن جهل أو توريط- صاحب مصلحة منهم، فزكى هذا الموقف بفتوى أو بيان سياسي لأولئك العلماء.
إن البلاغ الإسلامي لا يمكن أن يصاغ اليوم تحت هذه اللافتات المختلفة في دول الشرق التي قد تجدها تهاجم حربا غربية، وتبرر لأخرى بسبب الاستقطاب الحاد والتوظيف المزدوج، وهناك فرق بين أن تفهم مصلحة ضرورية لدولة أو جماعة ما، فتفعل ما تراه سياسة اضطرارية ظرفية، وبين أن تقول إن ذلك الفعل والاجتهاد هو دين، وتصدر بيانا به، وتدعي أنه يمثل الموقف الإسلامي، مهما كانت هذه الدولة مع أو ضد الربيع العربي الذي أشعلت حروب نقضه حركة الاستقطاب الشرسة بين علماء العالم الإسلامي.
إن قضايا الفكر ومنصات الرأي والعلم لا يجوز أن تبقى رهينة لهذا التدخل والتوظيف، وإن أول قواعد الإيمان بمهمة الفكر الإسلامي الرشيد تنطلق من قاعدة الاستقلال مهما صعبت، وللفرد أن يقف موقفا سياسيا أو يُصدر تقييما سياسيا، ويقول هذا بحسب تقديري ورؤيتي، لكن لا يجوز أن يُحشد الناس باسم الإسلام في ظل سياسة اجتهادية، فضلا عن برنامج صراع سياسي لهذه الدولة أو تلك، قربت أم بعدت من الإسلاميين الحزبيين، وهذا الموقف ذاته يوجه لخصومهم أيضا.
ثم إن هناك مسألة مشتبكة بين الرأي والجغرافيا، وهي أن الأصل أن يجتهد ذوو العلم لمصلحة أممية أو قُطرية، لا تمس بمصالح جزء آخر من الأمة، أو معاونة ظالم أو مستعمر عليها في مظلمتها، فهذه من الواجبات الكبرى، واليوم في ظل الانقسام والتعدد الإقليمي الذي لا علاقة للرابطة الأممية بدوله، أكثر من كونه برتوكولا بسيطا هو ما بقي بين المسلمين، باتت هذه العلاقات مواسم سياسية مصلحية، تضرب بعضها بعضا، فكيف تزكّى باسم الفتوى أو البيان؟
ولذلك فالأصل الكف عن هذه التزكيات والمماحكات البيانية باسم الإسلام، والدفاع عن الدولة أو الحاكم بفتوى دينية، وإنما تترك لتقييم سياسي لمختصين يُقدّر صحة الموقف من عدمه بحسب المبدأ السياسي والأخلاقي العام، لا بحسب بورصات الدعم والعلاقات الخاصة.
إن الأمة اليوم تعيش حربا فكرية، تحتاج فيها إلى ضمان استقلال خطاب البلاغ الإسلامي، حتى لا تتحول هزيمة الشرق الكبرى، وسقوطه تحت أقدام المحتل الداخلي والخارجي إلى هزيمة للفكر الإسلامي، فأقدس مهمة للبلاغ هي رسالة الحق والعدالة الاجتماعية والنجاة الروحية التي بعث بها الإسلام لتفقهها البشرية، وبها ينتصر الإيمان والإنسان.