مقالاتمقالات مختارة

الاستعمار.. ومحاربة العربية الفصحى (1)

الاستعمار.. ومحاربة العربية الفصحى (1)

بقلم عمران أبوعين

لغة الأدب أو الفصحى هي اللغة التي تستخدم في تدوين الشعر والنثر والإنتاج الفكري عامة، أما لغة الحديث أو العامية فهي اللغة التي تستخدم في الشؤون العادية ويجري بها الحديث اليومي. ووجود العامية بجانب الفصحى على ما بينهما من اختلاف، ظاهرة طبيعية في كل اللغات.

ولو أننا تتبعنا هذه الظاهرة لوجدنا تلازمها منذ أقدم العصور، فبها انقسمت القبائل الى فروع، كل منها بلهجة متميزة عن الأخرى في بعض مظاهرها، إلا أن اللهجة القرشية هي التي استطاعت أن تتغلب على لهجات القبائل المتعددة، بفضل ما كان لأهلها من سلطان ديني واقتصادي وسياسي، بالإضافة إلى التفوق على سائر اللهجات العربية من حيث غزارة المادة ورقة الأسلوب والقدرة على التعبير في مختلف الفنون، حتى أصبحت لغة الأدب عند جميع القبائل. فلما انتشر الإسلام وامتدت فتوحاته ازداد اختلاف لهجات المحادثة بسبب اختلاط العرب بالأعاجم وانتقال العربية إلى الأمصار واختلاف القبائل العربية النازلة بتلك الأمصار واختلاف الشعوب الأعجمية المجاورة لها.

الأصل الأجنبي للدعوة إلى العامية

أهتم الأجانب بدراسة اللهجات العربية العامية منذ القرن التاسع عشر، ومن مظاهر هذا الاهتمام، منها إدخالهم تدريس اللهجات العامية في مدارسهم وجامعاتهم، أدخلوا تدريس اللهجات العربية المحلية في مدارسهم وجامعاتهم مستعينين بذلك بالشرقيين الذين كانوا يعملون في بلادهم، ففي ايطاليا درست العربية العامية في مدرسة نابولي للدروس الشرقية، وكذلك في النمسا أنشئت مدرسة فينا، أطلقوا عليها اسم “مدرسة القناصل”، وكذلك في فرنسا وروسيا والمجر وانجلترا.

وكان من نتيجة اهتمامهم بإدخال تدريس اللهجات العامية العربية في مدارسهم وجامعاتهم ظهور كتب كثيرة في اللهجات العامية منها ما ألفها أبناء العربية بإيعاز منهم سواء في العربية مثل كتاب” أحسن النخب في معرفة لسان العرب” لمحمد عياد الطنطاوي، وكذلك كتاب ميخائيل الصباغ والمعنون ” الرسالة التامة في كلام العامة والمناهج في أحوال الكلام الدارج”، ومنها ما قاموا هم أنفسهم بتأليفها وهي كثيرة اختص كل منها بدراسة لهجة من لهجات الأقطار العربية مثل اللهجة المصرية والسورية والعراقية والتونسية والمراكشية.

فهذا الاهتمام لم يكن من أجل البحث العلمي كما يزعمون، ولا من أجل حاجتهم إلى معرفة لهجات البلاد العربية التي تقتضي مصالحهم أن يعيشوا فيها ويتعاملوا مع أهلها، وإنما من أجل القضاء على العربية الفصحى وإحلال العامية محلها. بالإضافة إلى أنها كانت أحد أهداف الاستعمار البريطاني في فصل المسلمين والعرب عن ماضيهم وتفتيت وحدتهم اللغوية بالقضاء على العربية الفصحى كما شرحها المستشرق القاضي الانجليزي لسلدن ولمور في كتابه ” العربية المحكية في مصر”.

يعتبر كتاب “قواعد العربية العامية في مصر” للدكتور ولهلم سيبتا، الرائد الأول لكل من كتب في العامية المصرية، ففي كتابه هذا انبثقت الدعوة الى اتخاذ العامية لغة أدبية، ومن هذا الكتاب انبعث الشكوى من صعوبة العربية الفصحى. فهذا الكتاب يعتبره الباحثون أول محاولة جدية لدراسة لهجة من اللهجات العربية المحلية، فهو الذي خلق في الحقيقة معظم مشاكلنا الأدبية، واستنفذ الوقت والجهد لدى الباحثين في هذا العصر.

ومن هذه الكتب أيضاً كتاب “اللهجة العربية الحديثة في مصر” للمستشرق الألماني كارل فولرس، وقد انتهج فولرس نهج “سيبتا” في التقليل من شأن اللغة العربية الفصحى وأهميتها، هذا بالإضافة الى العشرات من الكتب التي عملت على تغريب اللغة عن أهلها.

يمكن القول، وباختصار شديد، أن أغلب الكتب التي ألفها الأوروبيون في العامية المصرية، تتفق على الدعوة إلى اتخاذ العامية لغة الأدب، وعلى استبدال الحروف اللاتينية بديلاً عن العربية، وبالطبع على الشكوى من صعوبة اللغة العربية، وقد وصلت إلينا هذه الدعوات مستترة تحت ستار البحث العلمي البحت لدراسة لهجة محلية من اللهجات العربية.

الآثار العامية التي قام الأجانب بتسجيلها ونشرها

لما قام الأجانب بنشر دعوتهم إلى اتخاذ العامية لغة أدبية لم يجدوا أدبا لهذه اللغة بمكن الاعتماد عليه في دراسة العامية، وأشاروا إلى الآثار العامية القليلة التي عثروا عليها والتي لم تف لحاجتهم، مثل مجلة “أبي نظارة” وما قام به محمد عثمان جلال من نقل بعض آثار موليير إلى الزجل المصري.

إذا تتبعنا تاريخ الصراع بين الفصحى والعامية في مصر لا نجد أثراً لهذا الصراع قبل ظهور الدعوة الأجنبية التي نادت باتخاذ العامية أداة للتعبير الأدبي

ومن الصعوبات التي صادفتهم، كانت ترجع إلى افتقار هذه العامية إلى أدب مدون. لذلك قام بعضهم بتسجيل ونشر أدب العامة من أزجال ومواويل وقصص من نوع الأحدوثة الذي يعرف عند العامة (بالحدوتة). منها على سبيل المثال، مجموعة من الأغاني الشعبية المتداولة في مصر العليا، وقد جمعها (م. جاستون ماسبيرو)، وكذلك مجموعة ازجال مصرية قام بجمعها ونشرها (م. بوريان) مدير بعثة الآثار الفرنسية في القاهرة، وكذلك مجموعة حكايات ” باسم الحداد وما جرى له مع هارون الرشيد” والتي قام بنشرها الكونت كارلودى لندييرج، باللهجة العامية المصرية… إلخ.

كما حاول الأجانب ادخال العامية في نماذج أدبية رفيعة وعلمية، منها ما قام به مهندس الري الإنجليزي “وليم ولكوكس” من ترجمة قطعاً من روايات شكسبير، وترجمة الانجيل إلى العامية المصرية أو كما يسميها اللغة المصرية العامية، كما قام بتأليف كتاب “الأكل والإيمان”، حاول فيه أن يدخل العامية في نماذج علمية. فهذه هي المحاولات التي قام بها “ولكوكس” ليمهد الطريق للعامية التي أرادها لغة للعلم والأدب، وهذه المحاولات وغيرها مما أشرنا لبعضها؛ هي اللبنة الأولى في نشأة الصراع بين الفصحى والعامية في مصر.

وأخيراً؛ إذا تتبعنا تاريخ الصراع بين الفصحى والعامية في مصر لا نجد أثراً لهذا الصراع قبل ظهور الدعوة الأجنبية التي نادت باتخاذ العامية أداة للتعبير الأدبي. كان في مصر من دعا إلى ضبط العامية، وكان فيها من استخدم العامية فعلاً في الكتابة، ولكن لم يكن هدفهم من ضبط العامية أو استخدامها رفع العامية إلى الاستعمال الكتابي حتى تتمكن من القضاء على الفصحى واحتلال مكانها كما كان يهدف دعاة العامية من الأجانب. وإنما كان هدفهم من ذلك هو استخدام العامية في مواضيع مخصوصة، للترفيه عن العامة حيناً، أو لتثقيفهم وتهذيبهم حينا آخر، على أن تظل للفصحى مكانتها كلغة للأدب الرفيع والثقافة الإسلامية عامة. وبالنهاية، تجدر الإشارة إلى أن هذا الكلام هو من كتاب (تاريخ الدعوة إلى العامية) للدكتورة نفوسة سعيد، مع التصرف والتنسيق.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى