مقالاتمقالات مختارة

الاستشراق وقيمتاه المختلفتان عندنا وعندهم

الاستشراق وقيمتاه المختلفتان عندنا وعندهم

بقلم راجي سلطان

الاستشراق هو حركة علمية وفكرية غربية لدراسة الشرق (عقائده وأديانه ولغاته وآدابه وفنونه).

والاستشراق الذي يعنينا نحن العرب المسلمون هو الذي يُعنى بالخصوص بمنطقة الشرق الأوسط العربية الإسلامية، وبلغتها العربية كوعاء لدينها وآدابها وفنونها.

وعن بداية الاستشراق التاريخية تختلف وجهات النظر، فتذهب بعض الرؤى إلى أن اهتمام الغربيين بالشرق الأوسط وبعقائده وآدابه قد بدأ من قديم، حتى أنه بدأ قبل مجيء الإسلام.

هذا عن الاستشراق كحركة ثقافية عامة، أما عن الاستشراق كحركة غربية رسمية فقد بدأ بعد الحروب الصليبية، عندما اعتُمدت مقاعد في بعض الجامعات الأوروبية لدراسة اللغة العربية.

الدراسات والأبحاث والكتابات حول الاستشراق كثيرة ومتنوعة، والرؤى فيه وفي الحكم عليه متنوعة كذلك، ما بين مثمّن مكْبِر ومتّهم ناقِم.

ونحن هنا ننظر للاستشراق من زاويتين اثنتين يختلف الحكم على الاستشراق بينهما.

فأما إن نظرنا للاستشراق من ناحية أنه يقدم لنا نحن الشرقيين العرب منتجاً ثقافياً فكرياً، فإن الحكم لا بد حينها أن يكون بتقليل قيمة الاستشراق، والنظر إليه على أنه محاولات تشبه محاولات المبتدئين في الحكم على علم لم يبلغوا فيه إلا مرحلة الابتداء.

فالمستشرقون في هذه الناحية أشبه بالتلاميذ أمام أساتذة اللغة العربية الحقيقيين وأساتذة آدابها وعقائدها من أهل الشرق العربي.

المستشرقون ما هم إلا مجموعة من الغربيين حاولوا أن يتعلموا اللغة العربية ويبرعوا فيها ثم يطاولوا فيها أربابها من أهلها الأصليين، وأنّى لهم ذلك، وكيف يقبل عقل سليم أن يقارن بين أصيل نسيب وبين دخيل مدّعٍ.

المستشرقون ما هم إلا مجموعة من الغربيين حاولوا أن يتعلموا اللغة العربية ويبرعوا فيها ثم يطاولوا فيها أربابها من أهلها الأصليين، وأنّى لهم ذلك، وكيف يقبل عقل سليم أن يقارن بين أصيل نسيب وبين دخيل مدّعٍ

مهما حاول المستشرقون أن يبرعوا ويحذقوا في فهم العربية وقواعدها وآدابها فلن يصلوا في ذلك إلى معشار ما وصل إليه أربابها الأصليون، الذين قعّدوا لها ولآدابها.

وبالتالي فمن السخف أن ننظر لرأي المستشرقين في قضية من قضايا العربية ونقدمه على رأي أصولييها العرب، ومن السخف كذلك أن ننظر لرأي المستشرقين في قضية من قضايا القرآن والسنة، ونقدمه على رأي أصوليي القرآن والسنة، وذلك لأن القرآن والسنة هما أعظم آداب العربية إذا نظرنا إليهما باعتبارهما نصوصاً أدبية عربية، ولن يفهم أحد هذه النصوص مثلما يفهمها أهل العربية الأصوليون من الأسلاف والقدماء ومن سار على دربهم وشرب من معينهم من المحدَثين.

لن يحيط المستشرقون بأصول اللغة العربية وقواعدها كما يحيط بها أربابها من العرب، ولن يحيط المستشرقون بأصول الأدب العربي وقواعده مثلما يحيط به أربابه من العرب، وكذلك لن يحيط المستشرقون بأصول القرآن والسنة وقواعدهما كما يحيط بهما أربابهما من العرب.

المستشرقون في ذلك عيال على العرب وتلامذة لهم، ومن السخف أن نقيم لمنتجهم قيمة كبرى، بل ونحتج بهم على علماء العربية وآدابها، وننتصر لهم في بعض الأمور.

ومثال على ذلك ما ردده المستشرق الإنجليزي “ديفيد مرجليوث” حول الشعر الجاهلي، حيث ذهب إلى أنه في الحقيقة ليس شعراً جاهلياً لشعراء جاهليين عاشوا قبل الإسلام، وإنما هو شعر كتبه شعراء ورواة في العصر الأموي والعباسي ثم نسبوه لشعراء جاهليين.

فقد ردد هذا الرأي من بعد ذلك الدكتور طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي)، والذي أحدث دوياً هائلاً في الأوساط العربية والإسلامية، فرد عليه كثيرون، ومن أهم هذه الردود وأقواها كتاب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي (تحت راية القرآن).

وما كان للدكتور طه أن يردد ما ذهب إليه ذلك المستشرق مأخوذاً به معتقداً فيه، وهو الرأي الذي لم يقل به أرباب العربية وأساطينها وشعراؤها في العصرين الأموي والعباسي، ولا في ما بعدهما من عصور، وإن كان لهذا الرأي أي أرضية من صحة لما خفي عن هؤلاء الكبار، وهم قد عاشوا العصر نفسه، ورأوا هذا النَّحل الذي وضعه الرواة كما قال مرجليوث وردد طه حسين من بعده.

انبهارنا بنتاج المستشرقين وتصديقنا فيه وتقديمنا له على منتجنا العربي والإسلامي ما هو إلا مظهر من مظاهر الهزيمة النفسية أمام الغرب المتقدم الآخذ بزمام الحضارة في نسختها المعاصرة الراهنة، وهو كما ذكر ابن خلدون في مقدمته (تقليد من المغلوب للغالب) حتى في آرائه الخاصة بلغة المغلوب وعقيدته وآدابه.

انبهارنا بنتاج المستشرقين وتصديقنا فيه وتقديمنا له على منتجنا العربي والإسلامي ما هو إلا مظهر من مظاهر الهزيمة النفسية أمام الغرب المتقدم الآخذ بزمام الحضارة في نسختها المعاصرة الراهنة

وهل لنا نحن العرب والمسلمين أي رأي معتبر في لغات الغربيين وآدابهم!

ليس لنا في ذلك إلا أن أخذنا منهم آدابهم، وأخذناها بذات الانبهار الذي أخذنا به آراءهم وأفكارهم، فأدخلنا من آدابهم على آدابنا، وذهبنا للشعر المنثور تأثرا بالترجمة العربية لشعرهم المنظوم، وأخذنا الرواية وقواعدها منهم، وكذلك أخذنا النقد الأدبي ومدارسه منهم، والحداثة في الأدب وما بعد الحداثة.
وأصبحت آدابنا الحديثة تحتكم إلى معايير غربية وضعها الغربيون لآدابهم.

أما إن نظرنا للاستشراق بالنسبة للغربيين، فهو ذو قيمة كبيرة لا بد أن ننتبه لها نحن العرب المسلمون، فهو بوابة الغربيين لمعرفة العربية والإسلام، وكل صورة للغربيين عن العرب والإسلام هي من رسم هؤلاء المستشرقين.

فلا يستطيع عموم الغربيين القراءة عن العربية والإسلام من نتاج العرب والمسلمين أنفسهم، وذلك لضعف الترجمة عن العربية من ناحية، وكذلك لأن الغالب هو أن يقرأ من يحب أن يقرأ عن لغة أخرى أو عن دين آخر مما كتبه علماؤه ومفكروه بلغته، لأنه يكون حينها اختصارا ملمًّا، ويكون بلغته السهلة التي يعرفها بعيداً عن تعقيدات الترجمة والمُتَرجمات.

ولأننا نحن العرب والمسلمون في أوج محنتنا الحضارية، وفي ذروة تخلفنا في كافة النواحي والأبعاد، فما زلنا إلى الآن في قمة فشلنا في نقل تراثنا الأدبي والفكري والإسلامي إلى الغرب.

فلم يُنقل من تراث العرب والمسلمين إلى الغرب كما ينبغي أن يكون النقل إلا التراث العلمي والفلسفي، وهذا ما كان له أكبر الأثر في النقلة الحضارية الغربية، كما يعترف بذلك الغربيون أنفسهم.

أما التراث الأدبي والفكري، وخصوصا المرتبط بالإسلام وفلسفته، فهذا ما فيه أكبر الخلل والضعف في ترجمته ونقله.

لا بد من أن نخاطب الغرب بلغته ليعلم عن لغتنا وعقائدنا وشرائعنا وآدابنا ما ينبغي عليه أن يعلمه، وما ينبغي علينا أن ننقله له.

لا بد من أن نخاطب الغرب بلغته ليعلم عن لغتنا وعقائدنا وشرائعنا وآدابنا ما ينبغي عليه أن يعلمه، وما ينبغي علينا أن ننقله له

ليقرأ الغرب في عمومه عنّا منّا، ولا يقرأ عنا من غيرنا، ممن تتحكم فيهم الأهواء والأحقاد الدينية والحضارية والتاريخية.

وقد اطلعت مؤخرا على كتاب (الظاهرة القرآنية) للمفكر الجزائري مالك بن نبي، والذي كتبه بالفرنسية، مخاطبا به الغربيين في الأساس، ثم تُرجم بعد ذلك إلى العربية على يد الدكتور (عبد الصبور شاهين).

ولما قرأت الكتاب وجدته كتاباً بسيطاً، لا يحمل الكثير لأبناء الإسلام والعربية، ولكنه في الحقيقة يحمل الكثير لأولئك الغربيين الذين لا يقرؤون عن العربية والإسلام إلا من المستشرقين الحاقدين في أغلبهم.

واطلعت مؤخراً أيضا على كتاب (مرآة الإسلام) للدكتور طه حسين، وهو كتاب مكتوب بالعربية ألفه الدكتور طه حسين في أواخر عمره، ووجدته كتاباً لسرد قصة الإسلام في أبسط صور السرد وأكثرها عمومية، ولكني رأيت أن ذلك الكتاب سيكون من أعظم الكتب في بابه لو أنه كُتب بالإنجليزية وترجم ترجمة وافية، ليخاطب الغربيين، ويعطي صورة مجملة صحيحة عن الإسلام ونبيه وقرآنه وسنته.

الاستشراق تكمن قيمته ويكمن خطره في خطابه للغرب وتأثيره فيهم، وكونه مصدر المعرفة الوحيدة بالعربية والأدب العربي والإسلام، ولا بد أن نواجهه بمنتج عربي وإسلامي موجه أساساً للغرب بلغاته، أو ننتقي أفضل ما عندنا، وأنسب ما نستطيع أن نترجمه لهم، ليكون مرآتنا الحقيقة عندهم.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى