مقالاتمقالات مختارة

الاستشراق والصهيونية

بقلم فتيحة عطية

يتضمن الاستشراق مادة علمية تتخللها أفكار التفوق الأوروبي وشتى ألوان العنصرية والإمبريالية، وقد استمدت الصهيونية نظرتها للعرب من المفاهيم الاستشراقية ومن ثم طورتها استناداً إلى نظرتها العنصرية، فالاستشراق هو رؤية سياسية للواقع مبنية على تعزيز الفرق بين المألوف نحن أو الغرب (الأذكياء) وبين هم أو الشرق (الأغبياء).

النظرة الاستعلائية العنصرية جسدتها الصهيونية مع بداية نشأتها؛ ففي الاجتماع الذي عقده مارك سايكس (كمندوب عن الحكومة البريطانية) في 7/2/1917 مع قادة الصهيونية للاطلاع على مطالبهم، تركزت مطالبهم حول عدم مساواتهم مع سكان فلسطين العرب لأنها بلاد متخلفة والحقوق المتساوية تكون في البلاد المتقدمة وفلسطين تحتاج من يطورها، وذلك موجود عند اليهود (الأوربيين) فقط، وهذا يشير إلى تبني الصهيونية للنظرة الاستشراقية للعرب والمسلمين.

يكمن الاستشراق في كونه دليلاً على السيطرة الأوروبية الأميركية على الشرق أكثر من كونه خطاباً صادقاً حول الشرق، فالعلاقة بين الشرق والغرب علاقة قوة وسيطرة، ودرجات متفاوتة من الهيمنة “المركبة”، تقوم النظرة الاستشراقية الاستعلائية على أنّ “القوة والعصا أفضل وسيلة” و”القطيع يتبدد بإزالة من يقف في المقدمة” تكثيفاً لمقولة عالم النفس فرويد “الشعوب غير الأوروبية كاذبة، همجية، عنيفة، كسولة، متخلفة”، وتتجلى هذه النظرة الاستشراقية تجاه الفلسطينيين من خلال تصريحات قادة إسرائيل؛ فرئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق شامير يقول رداً على انطلاق الانتفاضة الحجارة عام 1987: “سوف نخضعكم بالبطش؛…، أنتم لستم سوى جنادب قياساً بإسرائيل”، وعلى نفس المنوال نجد أنّ الحملة الانتخابية لحزب إسرائيل بيتنا اليميني عام 2009 تتبنى شعار: ” فقط ليبرمان يفهم العربية”؛ كناية عن أنّ العرب لا يفهمون سوى لغة القوة.

استفحلت هذه النظرة الاستشراقية الاستعلائية في صفوف القادة الإسرائيليين؛ حتى وصل الأمر برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للمجاهرة (في معرض تعليقه على تشبيه بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية لحادثة حرق عائلة الدوابشة الفلسطينية على يد مستوطنين يهود ببعض الأفعال “الإرهابية” العربية) برفضه تشبيه الإرهاب اليهودي بـ “الإرهاب العربي” بحجة كون إسرائيل دولة ديمقراطية بعكس غيرها من الدول العربية، فرغم بشاعة الجريمة وحرق عائلة فلسطينية كاملة بما فيها طفل رضيع على يد المستوطنين إلا أن نتنياهو يرى بأنّه لا مجال لوصم هذا الفعل بالإرهاب، وعلى ما يبدو حرص نتنياهو على عدم مساواة العربي باليهودي من إجل الإبقاء على الصورة الذهنية للإرهابي ملتصقة بالعربي الفلسطيني دون أن تشمل المتطرفين من اليهود.

قامت المؤسسة الصهيونية بتغطية هذا الإجرام بفتاوى بعض الحاخامات المتطرفين، فقد تبين أن معظم منفذي العمليات الإرهابية ضد الفلسطينيين هم من أتباع الحاخام إسحاق غيزنبيرغ؛ حيث اشتهر بفتاويه التي تحرض بشكل مباشر على قتل الفلسطينيين والفتك بهم.

وفي مطلع عام 2013 أصدر غيزنبيرغ ما يمكن عدّه “المسوغ الفقهي” الذي عملت على أساسه مجموعات “شارة ثمن” الإرهابية اليهودية، التي نفذت عشرات الاعتداءات في المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، وأحرقت عدداً كبيراً من المساجد وثلاث كنائس في الضفة الغربية وداخل المدن التي يقطنها فلسطينيو الداخل، وحسب غيزنبيرغ؛ فإنه يتوجب تفهم جرائم “شارة ثمن” على أنها “مقدمة طبيعية للخلاص اليهودي”، حيث عدّ هذه الجرائم بمثابة “المخاض الذي تمر به الأمة قبل تحقيق الخلاص”.

ومما لا شك فيه أن أخطر “المصنفات الفقهية” اليهودية التي صدرت حديثا، وتسوغ قتل العرب لمجرد أنهم عرب، وعدم التفريق بين طفل وبالغ، هو كتاب “شريعة الملك”، لمؤلفه الحاخام إسحاق شابيرا، الذي صدر عام 2009، وهناك في إسرائيل من يرى أن أعضاء التنظيمات الإرهابية اليهودية الذين يتعمدون المس بالأطفال الفلسطينيين تأثروا بمصنف “شريعة الملك”، لأنه تضمن “مسوغات فقهية” توجب قتل الرضع العرب بحجة أنهم عندما يكبرون سيحاربون إسرائيل.

لذا فالأجدر أن يتم قتلهم مبكراً، المفارقة أنه على الرغم مما يعكسه هذا الكتاب من شطط وخلل أخلاقي وقيمي وديني، فإن العشرات من الحاخامات أيدوا ما جاء فيه، في حين عدّه عدد من أعضاء مجلس الحاخامية الكبرى -التي تعد أكبر هيئة دينية رسمية في إسرائيل- “إبداعاً فقهياً”.

لماذا يحرص المستشرقون والصهاينة على وصم الشرقيين بصفات غير إنسانية؟ ولماذا الحرص على ترسيخ معادلة “نحن و”هم”؟ والإجابة قد تكون في علم النفس الاجتماعي؛ حيث حاول هذا العلم تفسير بعض تصرفات الجماهير وكيفية حصول تحول في سلوكياتها، بحيث تتحول من تصرفات عاقلة إلى تصرفات تفتقر للعقل والمنطق.

وبالتالي يتحول أفراد مسالمين غير عنيفين للنقيض تماماً، على ما يبدو كان لا بد للاستشراق كي يمهد للاستعمار والصهيونية اقناع جمهوره “الغربي” بتقبل فكرة السيطرة على شعب آخر “الشرقي” بل وممارسة العنف ضده، وهذا لن يحصل بدون نزع صفة الانسانية عن “الآخر” من خلال وصمه بصفات التخلف وتشبيهه بالحيوانات، بحيث يكون هنالك “نحن” المتحضرين الأذكياء المتفوقين في مقابل “هم” المتخلفين الأغبياء المنحطين؛ الذين لا يستحقون الحياة أو حتى الشفقة عند قتلهم كما صرح بذلك الحاخام عوفاديا يوسف، تصنيف “نحن” و “هم”.

يرى غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، أنّ هنالك روحاً للجماهير مكونة من الانفعالات البدائية ومكرسة بواسطة العقائد الايمانية القوية وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني والمنطقي، كما أنها خاضعة لتحريضات وايعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها.

فالقائد يستخدم الصور الموحية والشعارات بدلاً من الأفكار المنطقية والواقعية ليستملك روح الجماهير ويسيطر عليها، يرى لوبون أنّ الجمهور النفسي عبارة عن تجمع بشري يمر في لحظة معينة بظروف متشابه تحوله لكائن جديد له صفات مختلفة، فيتجمع الأفراد ويصبحوا كتلة ذهنية واحدة والكتلة هذه لها صفات مختلفة عن صفات الأفراد المتفرقين، بحيث يتصرف الجمهور بلا وعي أو عقلانية.

فتجد الفرد (بغض النظر عن مستواه الفكري) يؤيد جمهوره النفسي وتصرفاته لمجرد أنها خرجت من جمهوره بغض النظر عن صحة التصرف أو خطئه؛ فهو لا يخضع هذه الأفكار للمحاكمة العقلية لأنها ببساطة صادرة عن “جمهوره النفسي”، وهذا ربما يفسر ما حدث في الولايات الأميركية المتحدة عقب أحداث 11 سبتمبر2001، من سقوط ضحايا مدنيين من النساء والأطفال في افغانستان والعراق بذريعة محاربة الإرهاب، حيث تظهر بعض الإحصائيات مقتل أكثر من مليون شخص منذ بداية الغزو الاميركي للعراق.

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى