الاستشراق في ضوء ما كتبه “إدوارد سعيد”
بقلم عبد القادر الطرنيشي
ولد الاستشراق بفعل الاهتمامات الكبرى التي أولتها أوروبا لبلدان ما وراء البحار، وأرخ العلماء لهذا الاهتمام الغربي بالشرق ببداية الحملة النابليونية على مصر، لكن في إطار اهتمام الغرب بالشرق على العموم فإن البدايات ترجع الى القرن 16 الميلادي وقبله بكثير، وقد حدد مكسيم رودنسون مولد الاستشراق في الغرب بتاريخ 1779 حيث ظهرت هذه الكلمة لأول مرة بإنجلترا. في القرن 19 جرت أحداث مهمة “لعلم الاستشراق” فقد كون محمد علي دولة مصر، وبدأ يفكر في تكوين الدولة الوطنية على طراز الغرب، وأرسل العديد من البعثات الأزهرية إلى فرنسا، وكانت تجربة “محمد علي” عامة على العالم الإسلامي برمته.
من باب إذا أردت أن تتقن فنا فألف فيه، سأحاول من خلال هذا المقال ان أبدي وجهة نظري حول موضوع “الاستشراق” من خلال ما كتبه ادوارد سعيد حول هذا الموضوع، هذا الرجل الذي ألف كتبا كثيرة حلل من خلالها اهتمام الغرب بالشرق ومن أهم كتبه التي تعلق بها المفكرون المسلمون وانتقدها المستشرقون كتابه الشهير: “الإستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء”، وله كتاب أخر لا يقل أهمية بعنوان: “تغطية الإسلام”، سعى من خلالهما الى توضيح محاولة تغطية الغرب للجوانب الإيجابية والمشرقة للإسلام بحقائق أخرى.
قد يتساءل القارئ لهذا المقال لماذا ادوارد سعيد وليس غيره ممن كتبوا عن الاستشراق؟ الجواب بكل بساطة: لأن هذا الباحث يعتبر من أبرز من حلل علم الاستشراق تحليلا علميا، بحيث صبر على الاستشراق حتى نما واكتمل من هنا سهل عليه معالجته داخل مختبر مخيلته الذي يتكون من: اللغة الإنجليزية، المنهج التحليلي، الاستاذية الأكاديمية والاكتمال والنضج كما أشار إلى ذلك الأستاذ محمد خروبات في كتابه القيم حول الاستشراق، وبالتالي كل من أدلى بدلوه في هذا الموضوع من بعده لم يصل إلى ما وصل إليه ادوارد سعيد من نتائج.
لما كان الجيش الغربي يبحث عن الموارد الاقتصادية والسياسية، كان المستشرقون يبحثون عن الموارد الفكرية والثقافية والعلمية، فلما حققوا بعض التراث أصبحوا يشكلون الوساطة الفعلية بين المسلم وتراث |
لم يسلم ادوارد سعيد من الانتقادات حيث خوصمت كتبه من طرف المستشرقين والمستعمرين، ولمم يرحب به غير المسلمين لسبب واحد هو أن الكتاب تكلم عن الإسلام لا لغرض الدفاع عنه بل لغرض بيان كيف أن الإسلام بحضارته وتراثه وعلومه أصبح مفعولا به في اللغة الاستشراقية. بالنسبة لإدوارد سعيد، الاستشراق مشروع ناجح بالنسبة للغرب والخاسر فيه هو الشرق، ثم إنه لا مكان فيه للعمل الفردي، إنه عمل جماعي يمتلك هوية حقيقية، تراكمية، وجماعية وبالتالي فهو نوع من المعرفة التي لها منهج معين ومدرسة للتحليل والتفسير والمجال هو الشرق بكل مكوناته.
بالإضافة الى ذلك ورغم أن هناك استشراق إيجابي ويتمثل في: ان المستشرق جمع المخطوطات ورتبها وبوبها وحفظها في المكتبات الغربية فحقق وترجم، وأنشأ المعاجم والفهارس وسهل تقنية البحث العلمي إلا أن ادوارد سعيد خلص إلى انه لا يوجد ما يسمى ” الاستشراق الموضوعي” أو الإيجابي، لأن كل ما يفعل وكل ما يقال عن أنه موضوعي له ارتباط بالمصلحة فقط وبالتالي فالاستشراق هو إيديولوجيا.
قد يكون ادوارد سعيد محقا من هذه الناحية بحيث انه لما كان الجيش الغربي يبحث عن الموارد الاقتصادية والسياسية، كان المستشرقون يبحثون عن الموارد الفكرية والثقافية والعلمية، فلما حققوا بعض التراث أصبحوا يشكلون الوساطة الفعلية بين المسلم وتراثه، لا ندري ربما أتلفوا بعض المخطوطات القيمة أو حرفوها أو سجنوها في أماكن لا نعرفها أو حرقت خلال الحربين العالمية الأولى والثانية، إنها السلطة بالمعنى الذي حدده ادوارد سعيد للكلمة.
فهذا التوجه لم يولد من فراغ لان المثقف الغربي دائما يبني دراساته على تساؤلات تجعله يبحث عن حلول لمعالجتها وهذا هو سر تفوقهم بحيث ان السؤال الذي حير بعض المستشرقين هو: ما سر جاذبية الإسلام وسرعة انتشاره؟ فهذا ليون فانتاني مثلا يؤلف كتابا عنونه ب “المصيبة الإسلامية” يتساءل فيه عن سر دخول الشعوب النصرانية الى الإسلام وذاك مكسيم رودنسون يؤلف كتابا اخر عنونه ب “جاذبية الإسلام”. هذه الطائفة من المستشرقين كان هدفهم ولا يزال هو: اعتبار الإسلام دين يجب محاربته لأنه يشكل عقبة أمام انتشار حضارتهم.
كان أول مدخل دخل منه المستشرقون إلى التراث الإسلامي والى القران بصفة خاصة هو المعجم فقدد كان هو رفيقهم في رحلة البحث في التراث ومنهم من فسر القران انطلاقا من معجم بسيط كان يملكه أمثال ” رودي بارت” وقد ذهب الأمر ببعض المستشرقين أمثال casanova الى الاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بعملية جمع القران قيد حياته لأنه كان يتوقع قرب نهاية العالم نظرا لوجود هذه الاية: (اقتربت الساعة وانشق القمر). هذا التفسير الضيق لبعض الأمور جعل بعض المستشرقين يتهمون من طرف المفكرين الإسلاميين بالافتراء والأوهام الواهية وبالتالي يشك في حسن نيتهم وبراءتهم العلمية.
ومن الأوهام التي وقع فيها بعض المستشرقون أيضا هي: ادعى برودلي ان زيد عندما كلف من طرف ابي بكر الصديق بجمع القران في مصحف واحد كان يخرج الرقاع من الصندوق كيفما اتفق، ثم يكتب الوحي دون النظر الى الترتيب الزمني، وقد رد الاستاذ محمد خروبات على هذا المستشرق بقوله ” إن ما يسترعي الانتباه هو غياب طرق البحث العلمي وقواعد المتابعة الدقيقة، إن الصندوق الذي كتب له أن يحضر هنا هو صندوق بودلي صندوق الإنشاء والكتابة التي يدخل فيها الوصف الاعتباطي مع الخيال غير المطابق للواقع”.
نعم في بعض الأحيان قد يقع الباحث الغربي المهتم بالمجال الإسلامي في بعض الأخطاء قد يعود مرجعها الى عدم فهم مفهوم السند فعلم الحديث مثلا قد حصنه علماء الحديث بالسند والضبط والعدالة وعلم الجرح والتعديل ولولا هذه العلوم لكثر القيل والقال في هذا الباب وقد صدق ابن المبارك حين قال: “لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء” والمستشرقون لما وجدوا الحديث قد جمع في مجاميع ومسانيد ووجدوا القران قد جمع بين دفتي المصحف مالوا إلى التاريخ وفي التاريخ تكثر التفاصيل، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلا لما وجدوا ان السيرة النبوية لم تعطي الاهتمام الكبير لفترة ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم استغلوا هذا الفراغ لزيادة بعض الأحداث الغير الصحيحة بالمرة كقول بعضهم أن النبي محمد استمد تعاليم الدين الإسلامي من اليهودية عندما كان يقبل على راهب يهودي قبل البعثة!
ما ذكره ادوارد سعيد تبدى واضحا في كتاب ” تاريخ القران” لنولدكه، حيث لم تكن اللغة المستعملة في المعالجة مستقلة عن الميولات والمصالح والأهواء والأحقاد بل سخرت لخدمة مصالح الاستشراق وأهدافه ومن هذه الاهداف: نسف نولدكه لربانية القران وقدسيته وارجاعها الى الطبيعة البشرية.
من جهة أخرى يظن البعض أن محاولات المستشرقين ترجمة القران هي بهدف علمي نبيل ولكن إذا نظرنا الى المنسوبين على هذا التوجه سنلحظ أن هدفهم هو مزاحمة أي ترجمة حقيقية للقران الكريم بترجمة تلحق بمعاني القران الكريم تحريفا، وتجعل كل من قرأ الترجمة المحرفة يعتقد أن ما فيها هو ما في قران المسلمين، والأمثلة الشاهدة على ذلك كثيرة جدا فهذا بلاشير مثلا بين في مقدمة كتابه عن القران الكريم كيف ان ترجمته كانت بدافع الحقد الصليبي المعادي للإسلام وليست لهدف علمي كما يدعي البعض. وهذا جلادستون في تصريح مثير اما مجلس اللوردات البريطاني حيث امسك المصحف بيده وقال: “ما دام هذا الكتاب على الأرض، فلا سبيل لنا الى إخضاع المسلمين”.
وهذا ما قصده ادوارد سعيد بقوله أن الاستشراق سياسة، و معرفة لها منهج معين لا مكان فيه للعمل الفردي انه عمل جماعي شارك فيها كل مكونات المجتمع الغربي: المفكر والمثقف باسم المناهج العلمية، الراهب والقسيس ورجل الدين والسياسي المحنك. وفي الختام هل يمكن اعتبار الاستشراق حملة صليبية جديدة أو دعوة بابوية تحاول طمس معالم العقيدة الإسلامية؟ أم هي ردة فعل تلتجئ الى القوة لرد الإعتبار لنفسها؟ إنها تعود الى الماضي التاريخي لتؤكد استمرار الأحداث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع:
كتاب “الاستشراق والعلوم الاسلامية” للدكتور محمد خروبات.
(المصدر: مدونات الجزيرة)