مقالاتمقالات مختارة

الاستبداد وسلاح السجون

بقلم د. جاسر عودة

 

لو قررت أنظمة الاستبداد – عرباً أو عجماً – أن تغير سياساتها الحالية في سجن )الإسلاميين( وتصفيتهم، وأن تعود تلك الأنظمة كرة أخرى لسياسات الاتفاقات – السرية والمعلنة – معهم من أجل إعطاء )الإسلاميين( بعض المناصب والكراسي المتفق عليها مسبقاً في منظومة الدولة التشريعية أو التنفيذية – وليس بينهما انفصال فعلي للأسف -، فلا أشك أن كثيراً من )الإسلاميين( سيقبلون وسيفرحون بما يحققونه من سلطات تشريعية أو تنفيذية محدودة في إطار نظم الاستبداد بل وسيظنونه إنجازاً ونصراً )إسلامياً( في ظل المعطيات الواقعية … وهنا تكمن المشكلة!

فنظم الاستبداد منذ سقوط الخلافة الراشدة على يد بني أمية إلى يومنا هذا تحاول شراء )الإسلاميين( لشرعنة ملك عضوض أخذوه بلا قانون إلا قانون الغاب، وهو ملك أفرز حكاماً أدنى بكثير من مستوى المعايير القرآنية والنبوية في الشرعية والشورى والعدالة والأمانة، وذلك في الغالبية العظمى منهم. واستخدمت نظم الاستبداد في تلك المحاولات السيف والسجن والتعذيب والمال وغيرها من الوسائل التي أصبحوا يحتكرونها منذ ذلك التحول المشؤوم إلي الاستبداد، والذي حدث بعد نحو نصف قرن فقط من وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

وحتى نرفع الأقواس عن مصطلح )الإسلاميين( فلنبين أن هذا المصطلح المقصود به في سياق حديثنا هذا كل من اتخذ من الإسلام نظاماً شاملاً للحياة يحكم حياة الفرد كما يحكم على نظام الدولة في الماضي أو الحاضر، ومنهم العلماء وأصحاب الفكر والأدب والقيادات الاجتماعية والتعليمية والمؤسسية ممن يتخذون من الإسلام منطلقاً ومنهجاً، ويدخل معهم بالطبع الجماعات الإسلامية القديمة والمعاصرة على أشكالها – المخلصون منهم على أي حال، والله أعلم بما في قلوب الناس.

ودرس التاريخ مهم، وهو يروي لنا كيف أنه منذ أن حسم السيف الصراع بين يزيد والحسين رضي الله عنه، والمستبد لا يفتأ يستغل الإسلاميين لشرعنة نظامه الباطل، منذ من بقي من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك العهد إلى يومنا هذا، وكيف خوفهم المستبد بالسجن – أو القتل – من أجل أن يستقيموا على ما يريد من شرعية دينية يعطونه إياها في مقابل حياتهم، بالإضافة إلى اتفاق واضح – ولو كان غير مكتوب – أن يتكلموا ويكتبوا ويعملوا في حدود المساحات التي يسمح المستبد بها لا يتعدونها. وقد بدأ هذا الاستغلال للإسلاميين في شرعنة الاستبداد بالبيعة ليزيد بن معاوية بـ )الخلافة(، والتي منحها له مجاناً ستون من الصحابة رضي الله عنهم – بما فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – اجتهاداً منهم أن في تلك البيعة حقناً للدماء ودرءاً لما ظنوه )فتنة(، وإنما بدأت الفتنة الحقيقية بهؤلاء الولاة )المتغلبين( الذين لم يرقبوا في الإسلام حقاً ولا عدلاً ولا شورى وغصبوا مقدرات الأمة وثرواتها وسنوا سنة الاستبداد إلى يومنا هذا.

ولكن المستبدين أرادوا أن يذهبوا إلى شرعنة أبعد من مجرد الاعتراف، فطمحوا إلى أن يعمل معهم أعلام الإسلام وأصحاب العلم والرأي في إطار نظم الاستبداد نفسها، واتخذوا من السجون سلاحاً من أجل فرض هذا الطموح على هؤلاء الأعلام، ولكن أصحاب الوعي من الإسلاميين على مدار التاريخ أدركوا خطر هذه اللعبة وقرروا أن يرفضوا الاشتراك في نظم الاستبداد مهما هددوا من سجن، وعندنا أمثلة تاريخية كثيرة نتعلم منها دروساً لواقعنا الاستبدادي الجديد القديم.

فالصحابي الجليل سعيد بن جبير رضي الله عنه – مثلاً – كان مسؤولاً مالياً لأحد الجيوش التي بعثها الحجاج لقتال الترك في ذلك العهد، وكان حينئذ يرى التعاون مع السلطة المستبدة الواقعية ما دامت ترعى الجهاد في سبيل الله، ولكنه بعد حين أدرك أن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأنه لابد من زوال الاستبداد نفسه من أجل صالح الأمة جميعاً، فقرر سعيد أن يخلع الحجاج – أي يسقط عنه الشرعية – بل وخرج محارباً من أجل زوال النظام الأموي الاستبدادي كله )في ما سماه من بعد الأمويون الدهاة: فتنة ابن الأشعث، بدلاً من التسمية الحقيقية: الثورة على الاستبداد(. فما كان من الحجاج إلا أن اعتقل سعيد وعرض عليه المال! قالوا: )فوضع أموالاً كثيرة بين يديه(! وحين رفض سعيد أن يُشترى بالمال – الذي اغتصب أصلاً من أموال الناس – قتله الحجاج مباشرة.

ومضى النظام الاستبدادي العباسي على نفس المنوال، فأبو حنيفة الإمام رضي الله عنه سجنه الإمبراطور العباسي المنصور بعد أن رفض هديته )روى التاريخ أنها كانت: مالاً كثيراً وجارية بالإضافة إلى منصب القضاء(، فضُرب الإمام بالسياط حتى يقبل منصب القضاء ومات في سجنه – لله دره – وهو رافض للمناصب والأموال والجواري، بل قيل إنه قُتل بالسم في سجنه، ثم يروي لنا التاريخ كيف أن المنصور خرج ليصلي بنفسه صلاة الجنازة على أبي حنيفة خوفاً من ثورة الناس أو اتهامهم له بقتله! والمنصور هذا الذي سمى نفسه )خليفة( هو نفسه الذي أمر بضرب الإمام مالك في السجن حتى خلعت كتفه لأنه رفض شرعية البيعة للوالي بالإكراه، بل وأصر مالك على رواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: )ليس على مستكره يمين(، ورفض أن يكتم الحق إرضاء للمستبد أو أن يتعاون معه، وظل على رأيه حتى خرج من السجن.

وسُجن الشافعي وكاد أن يُقتل حين رفض شرعية الخلافة لهارون الرشيد الإمبراطور العباسي التالي، وعرض عليه هارون نفس الهدايا: المال والجواري والقضاء، إلا أنه أفلح في إقناعه بأن يعفيه من قبول الهدايا ومن منصب القضاء دون أن يقتله، فسمحوا له حيناً من الدهر بالتعليم والفتوى والسير في الأرض.

وسُجن وضُرب أحمد بن حنبل في بغداد ولكنه لم يلوث تاريخه الناصع بالاشتراك في السلطة المستبدة حتى بعد أن صدر )العفو( عنه، وسجن ابن تيمية بوشايات سخيفة في الإسكندرية والقاهرة ومات في سجن قلعة دمشق، وسجن ابن القيم أيضاً في قلعة دمشق، وسجن ابن حزم في الأندلس، والصنعاني في اليمن، وأبو شامة في الشام، والعز في مصر المماليك … والقائمة تطول لتشمل سجن كل من له نصيب من الإسلام وتأثير في الناس ومعارضة للاستبداد في أي شكل من أشكاله، منذ منتصف القرن الأول الهجري إلى يوم الناس هذا، وكانت المعادلة: السجن أو شرعنة نظام الاستبداد!

والدرس الذي نتعلمه من هؤلاء الأئمة الأعلام هو أنه على الرغم من أنهم تجنبوا مجابهةً بالسلاح لم يستطيعوا إليها سبيلاً مع نظم الاستبداد، إلا أنهم رفضوا أن يكونوا جزءاً من تلك النظم الفاسدة، وأصروا على استقلال أصحاب القدوة في الإسلام عن الأمراء المستبدين القتلة السارقين.

وتتعامل نظم الاستبداد في واقعنا المعاصر بنفس منطق يزيد والحجاج وهشام وأبو عباس )السفاح( والمنصور وهارون والمأمون وابن قلاوون وهلم جراً: )إما أن تقبل المال والجواري والمناصب وتكون جزءاً من النظام المستبد على شروطنا وإما السجن ثمناً لرفضك(. هكذا تعامل جنرالات العسكر في بلاد النظم العسكرية الاستبدادية – عرباً وعجماً – مع العلماء والمفكرين والجماعات الإسلامية في بلادهم، وهكذا تعامل الملوك والأمراء في بلاد النظم القبلية الاستبدادية – عرباً وعجماً – مع العلماء والفقهاء وأصحاب النشاط الإسلامي العام، وإذا أردنا الحصر فسنكتب هنا أسماء كل ما يسمى بـ )البلاد الإسلامية( بلا استثناء تقريباً.

خلاصة القول الذي يسمح به المقام في سياق تفكيك منظومات الاستبداد أنه: لابد أن ندرك أن التحالفات المفروضة بسلاح السجن بين المستبدين والإسلاميين على أنواعهم لا تصح ولا تفيد! من المقبول بل من الواجب شرعاً وعقلاً أن يتجنب الإسلاميون إراقة الدماء ويتجنبوا سلب حرية خير شباب وشابات ورجال ونساء الأمة الشرفاء من كل أطياف الفكر والحركة، لكن لا يلزمهم أن يكون ثمن هذا التجنب الاشتراك الفعلي في النظام الاستبدادي أو التحالف معه. هذا تحالف ضار جداً بهذه الأمة على المستوى الاستراتيجي الطويل المدى البعيد الأثر.

من الأولى للإسلاميين – بدلاً من أن يبيعوا مبادئ الدين في قيام الدولة العادلة بأن يصبحوا جزءاً من نظام الدولة المستبدة في المرحلة الحالية – أولى بهم أن يستقيلوا من العمل السياسي جملة وأن يقتدوا بهؤلاء الأئمة الأعلام في رفض المناصب والأموال ثمناً للخروج من السجن، بل يخرجوا من السجن – بعد أن يُخرجوا الشباب البريئ – بخروجهم من العمل السياسي كله واعتزالهم للعبة السياسة كلها في تلك الدول )الوطنية( الموهومة التي تعمق فيها وتأصل الاستبداد والفساد، فإنهم إن لم يستطيعوا اجتثاث نظم الاستبداد من جذورها العميقة فلا أقل من أن يرفضوا أن يكونوا جزءاً منها أو أدوات لها، وأن يسألوا الله تعالى السلامة من المسؤولية عن أموال الناس ودمائهم وأعراضهم، ولا يشتركوا بالفعل في نظم باطلة وغير قابلة للإصلاح وصممت أصلاً منذ أن نشأت لتخدم المستعمر القديم الجديد.

أولى بالإسلاميين أن يخوضوا معارك الوعي والإدراك والثقافة وملاحم التربية والتوجيه والدعوة حتى تحين ساعة التغيير الشامل العميق ويقضي الله أمراً كان مفعولاً، لعل الله تعالى أن ييسر لهذه الأمة بمجموع قواها وبإرادتها الجمعية التي لا مرد لها إذا ظهرت، أن ييسر لها أمر رشد بعد قرون من الاستبداد، وما ذلك على الله بعزيز.

 

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى