الاستبداد الديني وشيوخ السلطان
بقلم علي درويش
يعلم الطاغية أن الاستبداد السياسي وحالة القمع التي يحكم بها شعبه لا يكفيان وحدهما في توطيد حكمه الواهن مهما بلغت درجة الجهل التي يقبع فيها الشعب، لذلك يلجأ أول ما يلجأ الطاغية إلى الاستبداد الديني وتجار الدين لبث حالة من اللاوعي في النفوس، لما له من قوة وأثر كبير في إرساء وترسيخ الاستبداد فهو اليد التي يبطش بها وقوته النافذة ليس في الأجسام، ولكن في العقول.
وللاستبداد الديني تاريخه الطويل – وجذوره الضاربه في القدم – في دعم الاستبداد السياسي، فمتى نبت أحدهما في أمة جذب إليها الآخر؛ كان فراعنة مصر يستعينون بالكهنة ليشرعوا الأحكام ويستعبدوا العقول ويرتفعوا بالملوك إلى مرتبة الآلهة، ومن الأمثلة على ذلك كهنة الفرعون أمفسيس – الذي حكم مصر بالحديد والنار وخاض حربًا خاسرة مع النوبة قُتل فيها خمس شعب مصر وأباد شباب مصر مُتهمًا إياهم بالخسارة وتعد فترة حكمه هي الأسوأ في تاريخ مصر الفرعونية بداية من الأسرة الأولى وحتى الخامسة – ورغم ذلك بكى الشعب على موت الفرعون أمفسيس حتى أخناتون – الذي أخذ فرعون ماله وقطع يديه ورجليه من خلاف – كان يبكي على موت فرعون متأثرًا برثاء الكهنة له، فقد قاموا بأفضل ما يجيدونه وهو تأليه الحاكم وتنزيهه عن أي خطأ.
وقد جاء في خطبة الكهنة «يا شعب مصر لقد فقدت الأرض والسماء وما بينهما قلبًا كبيرًا كان يحب مصر وما فيها من إنسان وحيوان ونبات وجماد كان للأيتام أب، وللفقراء عون، وللشعب أخ، ولمصر مجد كان أعدل الآلهة وأرحمهم وأكثرهم حبًا لشعب مصر)، وذهب أمفسيس لكي ينضم إلى الآلهة الكبار وترك الشعب في ظلام».
وذلك فرعون موسى الذي شاع في الأرض الفساد وذبح الذكور واستباح النساء، يخبرنا عنه الحق – سبحانه وتعالى – «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ» البقرة 49، ولأن تلك الحالة من الذل والاستعباد ضد الطبيعة أرسل الله – عزوجل – موسى – عليه السلام – ليرفع الظلم عن بني إسرائيل ويخلصهم من ذل فرعون وتكبره عليهم، يقول الحق – سبحانه وتعالى – «أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» الدخان 18، ولكن فرعون أعمى الغرور عينه عن الحق حتى وصل إلى أن نادى في قومه أنه هو ربهم الأعلى، «فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ» النازعات ٢٣-٢٤، ولأن الاسراء لا يرون إلا بإذن، تفاخر عليهم فرعون بما أنعم الله عليه «وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ» الزخرف 51-52، ومن دأب المستبد الاستخفاف بالعقول وتكبره على إتباع الحق، وتبديل الحقائق، لذلك اتهم فرعون موسىَ – عليه السلام – بالإفساد في الأرض وأنه سيخرب على الناس دنياهم «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ» الزخرف 26. أي فساد – بعد قتل الأطفال واستباحة النساء – كان يخشى على قومه!
ولابد لكل ظالم من نهاية تليق بظلمه وبطشه، غرق فرعون في اليم وبقيت جثته شاهدًا وخير دليل على أن الظلم لابد له من نهاية مهما تكبر وتعالى في الأرض.
حديثًا بعد أن منَّ الله علينا بنعمة الإسلام، خرج علينا شيوخ السلطان وتجار الدين وأخذوا في تحريف آياته وطمس تعاليمه واختزال الإسلام في علاقة العبد بربه، ونسبوا إليه ما جاء محاربًا له، من أجل دعم الطغاة واستبدادهم وسلبوا الناس القدرة التى أعطاها الله لهم في دفع الظلم وردع كل ظالم جبار، حتى أصبح يتهمه دعاة الاستعباد بالظلم وينسبون إليه رذائل أفعالهم متخذين تجار الدين وشيوخ السلطان حجة على الإسلام، وكأن الإسلام هو ما نطقوا به ولا شيء غيره، ولا يأخذ السفيه كحجة إلا من هو أحقر منه عقلًا ومنزلة؛ فالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يبطلان كل تلك الحجج الواهية من دعم الإسلام للاستبداد والظلم، فعلى سبيل الذكر لا الحصر «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» آل عمران 104. «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ». آل عمران 159، «إِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ » النساء 58.
ومن السنة المطهرة عَنِ «ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَلِي 10 فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَحَبُّوا أَوْ كَرِهُوا، جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَشْدُودَةٌ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَإِنْ كَانَ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ زِيدَ غُلًا إِلَى غُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ حَكَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَمْ يَحِفْ فِي حُكْمٍ، وَلَمْ يَرْتَشِ فِيهِ أُطْلِقَتْ يَمِينُهُ».
قال صلى الله عليه وسلم: اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
وعن عمر بن مرة الجهني يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ولاه اللهُ شيئًا من أمورِ المسلمين، فاحتجب دون حاجتِهم وخَلَّتِهم وفقرِهم؛ احتجب اللهُ دون حاجتِه وخلَّتِه وفقرِه يومَ القيامةِ».
وهذه الأمثلة أقل القليل لما يشتمل عليه القرآن الكريم وتتضمنه السنة النبوية من تعاليم جليلة تدفع الظلم وترتقي بالإنسان من وطأة الذل والاستعباد إلى مرتبة الحرية التي وهبها الله له، وما أشبه أولئك الذين يتهمون الإسلام بدعم الاستبداد باتهام فرعون لموسى بالفساد، ولكنه هو الاستبداد المشؤوم الذي يفسد الفطرة ويخرب العقول ويطمس الحق ويورث في النفوس الهوان بعد أن وهبها الله نعمة العقل وأنعم عليها بالحرية!
(المصدر: ساسة بوست)