فتحي أبو الورد – بوابة الشرف.
كان الاختلاف المحمود القائم على الحجة والدليل، مظهرا من مظاهر الصحة، وعنوانا للثراء الفكرى، ومجالا من مجالات السعة على الناس، وانفتاحا للآفاق وتعددا للحلول والمخارج، وهذا حاصل في الأمور الاجتهادية التي تحتمل وجهات النظر المختلفة في الفروع الفقهية بعامة، وفي الاجتهادات في فقه السياسة الشرعية بصورة خاصة، فالاختلاف بهذا الوصف سعة ورحمة، ما دام لا تصاحبه أعراض تغير القلوب والنفوس، وتطاول الألسنة وتسفيه الآراء ونظرات الازدراء.
وسادت بين أهل العلم في الاختلاف المشار إليه عبارة: “اختلافهم رحمة” حتى جاء بعض ضيقي الأفق والصدر فقال: إذا كان اختلافهم رحمة، فإن اتفاقهم عذاب، وكان الجواب ما قاله ابن قدامة الحنبلى: “اختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة”..
إذ الاختلاف المذموم ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد كما يقول الإمام القرطبى.
وهذا ما كان يعنيه ويعيه سلفنا الصالح ويطبقه ويمارسه، من ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن رجلًا صنف كتابًا في الاختلاف، فقال له الإمام أحمد: لا تُسمِّه “كتاب الاختلاف”، ولكن سمه “كتاب السعة”.
ومن عقل الرجل أن يفهم أن اختلاف الناس في الفروع والأمور الاجتهادية أمر لا مفر منه، وإلا أصابته لوثة في عقله، وانعكس ذلك في سلوكه.
قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة.
وعقب الإمام الذهبي على هذا بقوله: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون.
ويعمل المجتهد بما أداه إليه اجتهاده، ويعرضه مصحوبا بحجته على أصحاب العقول، فإن رأوه – أو رآه البعض – صوابا أخذ به، وإلا فلا يجوز له أن يحمل الناس على العمل باجتهاده، فإن فعل فقد ارتكب شططا.
كان أبوحنيفة يقول: قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا.
ومع هذا، فقد كان الأئمة الأعلام رضي الله عنهم، لكل منهم اجتهاده ودليله، ولكنهم كانوا يأخذون برأي غيرهم في بعض المواقف موافقة لجماعة المسلمين وإيثارا للوحدة، ودفعا للخلاف المذموم، وذكر الشيخ رشيد رضا من ذلك الكثير.
كان أبوحنيفة وأصحابه يرون انتقاض الوضوء من خروج الدم، ولكن أبا يوسف رأى هارون الرشيد احتجم وصلى ولم يتوضأ لأن مالكا أفتى الخليفة بأن لا وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى أبو يوسف خلفه ولم يعد الصلاة.
وكان أحمد بن حنبل يرى أن الحجامة تنقض الوضوء، فسئل عمن رأى الإمام احتجم وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ، هل يصلي الإمام (أحمد) خلفه؟ فقال رضي الله عنه: كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب؟! يعني أن هذا رأيهم.
ورووا أن الشافعي ترك القنوت في صلاة الصبح لما صلى مع جماعة الأحناف في أحد مساجد بغداد، وذلك رعاية لأدب الإسلام، ورغبة عن الخلاف. فقال البعض: غير الشافعي اجتهاده، وقال بعض آخر: بل فعل ذلك احتراما لصاحب المذهب، والحقيقة التي غابت عنهم هي أن الشافعي لم يرغب في إحداث خلاف بين جماعة المسلمين في أمر فرعي.
إن الاختلافات الجزئية واقع لابد منه وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لابد منه كذلك، كما قال الشيخ الغزالي رحمه الله.