مقالاتمقالات مختارة

الاحتلال والاستبداد بين المقاومة والمسايرة

الاحتلال والاستبداد بين المقاومة والمسايرة

بقلم سعيد الشهابي

في مثل هذه الأيام قبل 54 عاما، كانت الجماهير العربية تعيش صدمة مؤلمة إثر هزيمة ما عرف لاحقا بـ «حرب الأيام الستة» أو «حرب حزيران» بين الدول العربية و «إسرائيل».

قبل ذلك، كانت تلك الجماهير تعيش حقبة من الانتعاش المعنوي والآمال العريضة لأسباب عديدة، أولها: تأسيس حركة حركة فتح وشعاراتها الثورية وطموحات مؤسسيها، خصوصا سعيهم لتحرير فلسطين من الاحتلال الذي لم يمض عليه آنذاك سوى أقل من عشرين عاما.

 

ثانيا: الخطاب الحماسي الذي طرحه الرئيس المصري آنذاك، جمال عبد الناصر، وصعود الاتجاهات القومية واليسارية التي رفعت شعارات تحررية تناغمت مع مشاعر الجماهير.

ثالثا: الظروف التي فرضتها أجواء الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي وشيوع روح التحدي والتحرر في أغلب مناطق العالم.

رابعا: الأجواء الثورية الناجمة التي غذتها ثورة الجزائر (1954-1962)، التي أدت لاستقلال البلاد ورفعت معنويات الجماهير العربية.

 

لم تستمر الحرب سوى بضعة أيام، بعد أن انطلقت بعدوان إسرائيلي على المطارات المصرية والسورية والأردنية في الخامس من حزيران/يونيو، ودمرت القوات الجوية لهذه الدول. وبعد تدخلات دولية وقّعت مصر والأردن قرار وقف إطلاق النار في 8 حزيران/يونيو، وتبعتهما سوريا في اليوم التالي. وانتهت الحرب في العاشر من حزيران/يونيو، بعد ما اعتبر هزيمة ساحقة أصابت معنويات الجماهير في مقتل.

 

وفي السنوات القليلة اللاحقة، حدثت «حرب الاستنزاف»، التي كانت عبارة عن عمليات عسكرية بدأت في الأول من تموز/يوليو 1967 عندما حاولت «إسرائيل» احتلال مدينة بور فؤاد المصرية. وتواصلت حرب الاستنزاف بمشاركة من الفدائيين الفلسطينيين، حتى انتهت بعد ثلاث سنوات بتوقيع ما سمي «مشروع روجرز» في الأول من آب/أغسطس 1970. وبعدها سادت حالة «اللاسلم واللاحرب» حتى نشوب حرب تشرين الأول/أكتوبر في 1973.

ليس المقصود هنا طرح سرد تاريخي لتطورات الأزمة الفلسطينية، بل التوقف عند بعض محطاتها المهمة ذات الصلة بأطروحات التحرير والكفاح المسلح. فبرغم ما أنجزته حرب تشرين الأول/أكتوبر من تحقيق قدر من التوازن العسكري بين مصر و«إسرائيل»، إلا أن ما ترتب عليها كان كارثيا من منظور أصحاب مشروع التحرير الكامل؛ فقد قررت القيادة المصرية التخلي عن سياسة المواجهة مع «إسرائيل» والقبول بتوقيع اتفاقات سلام معها.

 

ولم يكن ذلك مطروحا قبل ذلك. ولعل الموقف الأصعب الذي أحدث بلبلة سياسية ومعنوية على الجانب العربي، تمثل بموقف الزعيم الفلسطيني المرحوم ياسر عرفات بعد عام واحد من تلك الحرب. ففي 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1974 وقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أول خطاب له قائلا: «جئتكم يا سيادة الرئيس حاملا غصن الزيتون بيدي وبندقية الثائر بيدي الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي». ومن هناك بدأ تراجع مشروع التحرير المؤسس على «الكفاح المسلح»، ودخلت القضية الفلسطينية في دهاليز السياسة التي أنهكت القضية في العقود اللاحقة. وثمة فرق كبير في التوجهات والمشاعر والمواقف على الصعيدين العربي والفلسطيني بين السنوات العشر التي أعقبت تأسيس حركة فتح في الأول من كانون الثاني/يناير 1965 والأجواء التي أعقبت خطاب عرفات المذكور. وعلى مدى العقود الثلاثة اللاحقة، تأرجحت العقيدة السياسية لدى حركة فتح بين الحل السياسي والمقاومة المسلحة لـ «إسرائيل»، حتى أوقفتها رسميا في العام 2007.

 

فقد سلم الجناح العسكري للحركة (كتائب شهداء الأقصى) السلاح، وأعلنت وقف الهجمات على قوات الاحتلال، في مقابل «عفو إسرائيل» عن أعضائها.

ثمة ملاحظات ذات صلة بهذه التطورات. أولها أن رفع غصن الزيتون في أي مشروع نضالي يعادل في نظر الأطراف المعنية والمراقبة رفع الراية البيضاء، الذي يعني أيضا التراجع والاستسلام. ويندر أن يرفع الطرف القوي في الصراعات شعار «غصن الزيتون»، حتى وإن توازى معه رفع البندقية في اليد الأخرى كما جاء في خطاب عرفات. فكان من تبعات تلك السياسة تغير المزاج العام لدى مصر التي كانت آنذاك الدعامة الأساسية لمشروع التحرير الكامل. وفي غضون أربعة اعوام من خطاب عرفات، وقّع السادت اتفاقات كامب ديفيد مع الجانب الإسرائيلي في أيلول/سبتمبر 1978. وبرغم أنها نصّت على أن قرارات مجلس الأمن رقم 242 و338 هي الأساس الشرعي لمثل هذا السلام، إلا أن الجانب الإسرائيلي لم يلتزم بذلك. وانقسمت اتفاقات كامب ديفيد إلى قسمين؛ أولهما يتعلق بالأراضي الفلسطينية، وثانيهما يخص انسحاب «إسرائيل» من جزيرة سيناء المصرية.

ثانيها: برغم ادعاءات الأطراف التي شاركت في تلك الاتفاقات، فإن السلام الموعود لم يتحقق بعد مرور أكثر من أربعة عقود، كما لم يتحقق التطبيع أو زوال مشاعر العداء بين الطرفين العربي والإسرائيلي، وما هو سائد من علاقات بين الكيان الإسرائيلي وبعض الحكومات العربية، إنما هو علاقات ظاهرية غير مدعومة بمشاعر الصداقة أو الاحترام المتبادل، خصوصا من قبل الشعوب العربية.

 

ثالثها؛ أن قرار منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة عرفات، لم يلق استحسانا لدى الفلسطينيين بل أسس لانشقاقات لاحقة؛ فبعد عشرة أعوام بدأت مجموعات صغيرة تعمل على أساس مشروع التحرير الكامل، منها «المرابطون على أرض الإسراء» و«حركة الكفاح الإسلامي». وهذه المجموعات وضعت الأسس لانطلاق حركة حماس في العام 1987 قبيل إعلان الانتفاضة الأولى.

 

ثم ظهرت حركة الجهاد الإسلامي التي أسسها الشهيد فتحي الشقاقي، وبذلك ازداد الوضع الفلسطيني تعقيدا حيث انقسم بين السائرين في مشروع «السلام» الذين انخرطوا في مفاوضات مدريد وأوسلو، والمجموعات المسلحة التي ترفع السلاح ضد الاحتلال.

 

رابعها؛ أن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي ساهمت في توسيع دوائر رفضه، فكانت تدخلاتها في لبنان من أسباب ولادة حركة مقاومة لبنانية، وتواصلت العمليات المسلحة ضدها حتى أنهكتها وأجبرتها على الانسحاب، وهي المرة الأولى التي تجبر فيها قوات الاحتلال على الانسحاب من أراض احتلتها بالقوة. ولا شك أن ظهور المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي ساهم في تقوية شوكة المجموعات المسلحة الفلسطينية المذكورة، ووفر لها الدليل العملي على إمكان كسر مقولة «الجيش الذي لا يُهزم».

 

خامسها؛ أن الحروب التي شنتها قوات الاحتلال على مجموعات المقاومة ابتداء من العام 2006 وآخرها العدوان الأخير الشهر الماضي على غزة، أضعفت هيبة الاحتلال في نفوس الجماهير العربية التي أصبحت للمرة الأولى منذ ثلاثة أرباع القرن مقتنعة بإمكان تحرير فلسطين.

 

سادسا: نجم عن ذلك ظهور ما يسمى «محور المقاومة» الذي يتألف من دول ومجموعات مسلحة ترفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وتصر على التصدي له بدون تراجع، وتؤمن بأن التحاور معه يساهم في تقويته، ويضفي عليه شرعية ترفض منحه إياها.

دروس كثيرة من تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي تتجاوز دائرة هذا الصراع وتتصل بمشروع إنهاض المنطقة العربية، بما يتيح لشعوبها تجديد العزم وتحمّل مسؤوليات أمن المنطقة واستقلالها واستعادة هويتها وقوتها. وفي هذه الحقبة التي تسعى «إسرائيل» لتجاوز تراجعاتها العسكرية في حروبها ضد مجموعات المقاومة عن طريق «الدبلوماسية»، تتعمّق قناعة المقاومة من جهة ومنظمات المجتمع المدني في البلدان العربية بإمكان اختراق الوضع الراهن الذي توسع فيه النفوذ الإسرائيلي في المنطقة من جهة أخرى. ومن المتوقع أن تتعاظم شوكة مجموعات المعارضة، فتزداد صلابة وتماسكا وإصرارا على التغيير السياسي في بلدانها. يتأكد ذلك المنحى في ظل توحش النظام الرسمي العربي، وشيطنة معارضيه والتعامل القاسي مع النشطاء ورموز المعارضة.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى