مقالات

الاجتهاد الجماعي وأهميته في نوازل العصر

إعداد : الشيخ صالح بن حميد

الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

التصدر للإفتاء في الإسلام شأن ذو خطر حتى كان سلف الأمة الصالح من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والتابعين وتابعيهم بإحسان والأئمة المهديين والعلماء الراسخين يتهيبون الإقدام على الفتوى ويتدافعونها وما ذاك إلا لعظم أمرها.

بل قد كان بعض فقهاء المذاهب الفقهية المعتبرة يفتي بخلاف ما يدونه في كتبه من قواعد المذهب الذي يعتمده فإذا سئل عن ذلك، أجاب بأنه إذا ألف مشى على قواعد المذهب وإذا أفتى استحضر الوقوف بين يدي الله عز وجل.

ورغم عظم منزلة منصب الإفتاء في الإسلام إلا أن الأمة اليوم وقد تطورت أدوات الاتصال وتقنيات التواصل الأمر الذي سهل لكثير من المنتسبين إلى العلم والمشتغلين بالدعوة والإرشاد والتوجيه الديني مزيداً من التواصل مع الناس والجماهير فصاروا أهل تصدر مما جعلهم مستهدفين بالاستفتاء والأسئلة الفقهية وهو ما جرأ غير ذوي الاختصاص والأهلية على الدخول في هذا الباب والولوج في مسائل الأحكام وفيهم من لم يستجمع شروط الإفتاء وأدوات الاختصاص مما انتشرت معه فتاوى قد جانبها الصواب في إجابات مضطربة ومتناقضة وناقصة وبخاصة ما يمس عموم الأمة ويخوض في الشأن العام السياسي والاقتصادي ومسائل الدين الكبرى.

وإذ كان الأمر كذلك فإن الحاجة ماسة لا سيما في هذا العصر الذي اختص بكثرة نوازله ومستجداته وتشعبها إلى إعادة النظر في طرائق الفتوى ووسائلها وبخاصة تلك التي تتناول القضايا التي تلامس عموم الأمة ويطال تأثيرها سواد المسلمين.

وإن من أهم تلك الطرائق الاجتهاد الجماعي وهو موضوع هذا الحديث من خلال هذه الكلمات التي جاءت في ثلاثة مباحث وخاتمة:

المبحث الأول: حقيقة الاجتهاد الجماعي: وفيه ثلاثة مطلب:

 المطلب الأول: تعريف الاجتهاد: وفيه فرعان:

 الفرع الأول: تعريف الاجتهاد لغةً.

 الفرع الثاني: تعريف الاجتهاد اصطلاحاً.

 المطلب الثاني: تعريف الجماعي لغةً.

 المطلب الثالث: تعريف الاجتهاد الجماعي باعتباره مركباً إضافياً: وفيه فرعان:

 الفرع الأول: تعريفات بعض المعاصرين ومناقشتها.

 الفرع الثاني: التعريف المختار.

 المبحث الثاني: الاجتهاد الجماعي والفتوى: وفيه ثلاثة مطالب:

 المطلب الأول: تعريف الفتوى لغة واصطلاحاً.

 المطلب الثاني: العلاقة بين الاجتهاد الجماعي والفتوى.

 المبحث الثالث: الاجتهاد الجماعي والمجامع الفقهية: وفيه مطلبان:

 المطلب الأول: نشأة المجامع الفقهية.

 المطلب الثاني: دور المجامع الفقهية في تحقيق الاجتهاد الجماعي.

 الخاتمة.

 أسأل الله – تعالى – أن يجعل هذا العمل خالصاً صواباً، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

المبحث الأول: حقيقة الاجتهاد الجماعي.

المطلب الأول: تعريف الاجتهاد.

الفرع الأول: تعريف الاجتهاد لغةً.

الاجتهاد افتعال من الجهد(1)، قال ابن فارس: “الجيم والهاء والدال أصله المشقة ثم يحمل عليه ما يقاربه، يقال: جهدت نفسي وأجهدت، والجهد الطاقة”(2). وفي المصباح المنير “الجهد بالضم في الحجاز، وبالفتح غيرهم: الوسع والطاقة، وقيل: المضموم الطاقة، والمفتوح المشقة، والجهد بالفتح لا غير: النهاية والغاية، وهو مصدر من: جَهَد في الأمر جهداً، من باب نفع: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب… واجتهد في الأمر: بذل سعه وطاقته في طلبه ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته”(3).

والتاء في (اجتهد) لفرط المعاناة وهي أبداً تدل على تعاطي الشيء بعلاج وإقبال شديد نحو اقتلع واقترع واكتسب وما شابه ذلك.

ولذا لا يستعمل الاجتهاد إلا فيما فيه جهد أي: مشقة؛ يقل: اجتهد في حمل الرحا، ولا يقال: اجتهد في حمل النواة(4).

 وتأسيساً على ما تقدم فالاجتهاد في اللغة هو: استفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل.

الفرع الثاني: تعريف الاجتهاد اصطلاحاً:

تعددت تعريفات الأصوليين والفقهاء للاجتهاد، وهي وإن كانت متنوعة الألفاظ إلا أنها – في الجملة – متقاربة المعاني، وعليه نورد بعضاً من تلك التعريفات مما نحتاج إليه في تعريف الاجتهاد الجماعي، ومن ذلك:

 1 – عرف ابن الهمام الاجتهاد بأنه:

 بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي عقلياًكان أم نقلياً، قطعياً كان أم ظنياً(5).

 2 – وعرفه القرافي بأنه:

 استفراغ الوسع في النظر فيما يلحق فيه لوم شرعي(6).

 3 – وعرفه الآمدي بأنه:

 استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس بالعجز عن المزيد فيه(7).

 4 – وعرفه الطوفي بأنه:

 بذل الجهد في تعرف الحكم الشرعي(8).

ويحسن – في هذا المقام – التنبيه لمسائل:

 الأولى:

 قال في تيسير التحرير: “إن ما يقع من بذل الوسع في العقليات من الأحكام الشرعية الاعتقادية اجتهاد عند الأصوليين… والأحسن فيها تعميم التعريف بحيث يعم العمليات والاعتقاديات ظنية كانت أو قطعية”(9).

 وقد صحح شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وقوع الاجتهاد في مسائل الأصول والفروع فقال – رحمه الله -: (ولم يفرق أحد من السلف ولا الأئمة بين أصول وفروع، بل جَعْلُ الدين قسمين أصولاً وفروعاً لم يكن معروفاً في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع… وحكوا عن عبيد الله العنبري أنه قال كل مجتهد مصيب ومراده أنه لا يأثم، وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما)(10).

الثانية:

 قول القرافي في تعريفه – المتقدم – (النظر فيما يلحق فيه لوم شرعي) هو أوسع من مجرد النظر في الأحكام الفقهية، ولعله بهذا النص يشير إلى أمرين:

 أحدهما: ما ذكره شيخ الإسلام من أن الاجتهاد لا يختص بمسائل الفروع.

 والآخر: ما ذكره أهل العلم من أنواع الاجتهاد والثلاثة هي:

 1 – القياس الشرعي، لأن العلة لما لم تكن موجهة للحكم لجواز وجودها خالية عنه لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب لذلك كان طريقه الاجتهاد.

 2 – ما يغلب في الظن من غير علة كالاجتهاد في الوقت والقبلة وتقويم الممتلكات والمياه وجزاء الصيد ومهر المثل والنفقة.

 3 – الاستدلال بالأصول من الكتاب والسنة والقياس والمصلحة واللغة والمقاصد وغيرها(11).

الثالثة:

 قسم الطوفي الاجتهاد إلى تام وناقص، فالتام ما انتهى إلى حال العجز عن مزيد طلب، والناقص هو النظر المطلق في تعرف الحكم وتختلف مراتبه بحسب الأحوال(12).

 ومعلوم أن الاجتهاد الناقص هو اجتهاد مقبول، وإنما مراده – رحمه الله – بهذا التقسيم الإشارة إلى تفاوت المجتهدين في الهمم وطول البحث والصبر والجلد.

 ولذا لا يُلزم المجتهد بالإحاطة بجميع الأحكام ومداركها، كما لا يُكلف بنيل الحق وإصابته بالفعل إذ ليس في وسعه ولا طاقة له بتحصيله لغموضه وخفاء علته.

 وقد انعقد الإجماع على أن المجتهد قد يخطئ، وأنه مصيب في الطلب وإن أخطأ في المطلوب، وأن للاجتهاد استعداداً فطرياً من حسن الفهم وحدة الذكاء ونحو ذلك.

المطلب الثاني: تعريف الجماعي لغةً.

فعله: جَمَعَ، وبابه: قَطَع، ومصدره: جَمْع.

 والجَمْع أيضاً الجماعة تسمية بالمصدر فتقول: جاء جمع من الناس.

 والجَمْع تأليف لمفترق، وضم الشيء بتقريب بعضه إلى بعض(13).

 والجماعة من كل شيء يطلق على القليل والكثير، والجماعة من الناس طائفة بينها ائتلاف وانسجام أو يجمعها جامع من علم أو مال أو غير ذلك(14).

والمجمع بفتح الميم وكسرها مثل المَطلع والمِطلع يطلق على الجمع، وعلى موضع الاجتماع وجمعه مَجَامع.

 والجامع ما جمع الناس، وسمي المسجد الذي تصلي فيه الجمعة جامعاً لأنه يجمع الناس(15).

 وفي التنزيل العزيز: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62]. وهي آية عظيمة في أدب الاجتماع مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم في اجتماعات الأمة من بعده.

 والجماعي نسبة إلى الجماعة، فالاجتهاد الجماعي هو اجتهاد الجماعة.

المطلب الثالث: تعريف الاجتهاد باعتباره مركباً إضافياً.

الفرع الأول: تعريفات بعض المعاصرين ومناقشتها:

يعد مصطلح الاجتهاد الجماعي من المصطلحات المعاصرة إذ لم يرد له ذكر عند المتقدمين، أما من حيث الممارسة العملية فقد شهد تاريخ التشريع الإسلامي جملة من الوقائع التي هي في حقيقتها اجتهاد جماعي وإن لم تسم بهذا الاسم، وليس هذا مقام تفصيل ذلك غير أنه من المناسب التنبي – هنا – إلى ما بذله بعض الباحثين من محاولات لربط الاجتهاد الجماعي بالإجماع تارةً باعتباره صورة من صور هذا الإجماع(16)، وتارة باعتباره مقدمة لازمة للإجماع فلا إجماع إلا باجتهاد جماعي(17) والواقع أن كلا الرأيين محل كل نظر إذ الفرق قائم بين الاجتهاد الجماعي والإجماع فالاجتهاد الجماعي هو أحد الوسائل الموصلة إلى الإجماع الذي يعد والحال ما ذكر نتيجة وفرق بين الوسيلة والنتيجة، ومن جهة أخرى فإن كون الاجتهاد الجماعي – في بعض الأحيان – وسيلة مفضية للإجماع لا يستلزم افتقاره لهذا النوع من الاجتهاد لا سيما وقد شهدت الأمة انعقاد الإجماع باجتهادات فردية.

وفيما يلي عرض ومناقشة لبعض تعريفات الاجتهاد الجماعي، فمن ذلك:

 1 – عرفه الأستاذ الدكتور شعبان إسماعيل بأنه:

 “الذي يتشاور فيه أهل العلم في القضايا المطروحة، وخصوصاً فيما يكون له طابع العموم ويهم جمهور الناس”(18).

 2 – وعرفه الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي بأنه:

 “استفراغ أغلب الفقهاء الجهد لتحصيل ظن بحكم شرعي بطريق الاستنباط، واتفاقهم جميعاً أو أغلبهم على الحكم بعد التشاور”(19).

 3 – وعرفه الدكتور العبد خليل بأنه:

 “اتفاق أغلب المجتهدين من أمة محمد في عصر من العصور على حكم شرعي في مسألة”(20).

 4 – وعرفته ندوة الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي بأنه:

 “اتفاق أغلبية المجتهدين في نطاق مجمع أو هيئة أو مؤسسة شرعية ينظمها ولي الأمر في دولة إسلامية على حكم شرعي عملي لم يرد به نص قطعي الثبوت والدلالة بعد بذل غاية الجهد فيما بينهم في البحث والتشاور”(21).

 5 – وعرفه الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو بأنه:

 “العملية العلمية المنهجية المنضبطة التي يقوم بها مجموع الأفراد الحائزين على رتبة الاجتهاد في عصر من العصور من أجل الوصول إلى مراد الله في قضية ذات طابع عام تمس حياة أهل قُطر أو إقليم أو عموم الأمة، أو من اجل التوصل إلى حسن تنزيل لمراد الله في تلك القضية ذات الطابع العام على واقع المجتمعات والأقاليم والأمة”(22).

مناقشة التعريفات:

 بالنظر في هذه التعريفات وما يماثلها من تعريفات أخرى لم نذكرها يمكن إيراد عدة ملاحظات منها ما يتصل بالصياغة ومنها ما يتصل بالقيود والأوصاف وذلك على النحو الآتي:

 أولاً: الصياغة:

 لم تول بعض هذه التعريفات الصياغة العناية التي جرى عليها أهل الصنعة من الفقهاء والأصوليين فتضمنت عبارات غير محكمة في سعتها وترادفها، ومن ذلك:

 1 – قول الأستاذ الدكتور شعبان إسماعيل في تعريفه (القضايا المطروحة)، فهذه العبارة تتسم بالعموم وهي عند التأمل تصريح لا حاجة له إذ بحث المجتهدين ونظرهم هو في الحكم الشرعي.

 2 – وردت في تعريف ندوة الاجتهاد الجماعي عبارة: (في نطاق مجمع أو هيئة أو مؤسسة)، وقد اشتملت هذه العبارة على عدد من المتعاطفات التي لا حاجة لها ثم إنها في الوقت نفسه غير حاصرة.

 3 – قول الأستاذ الدكتور قطب سانو في تعريفه: (العلمية المنهجية المنضبطة)، فهذه العبارة ليس ثمة ما يدعو لها في توصيف عملية الاجتهاد إذ معلوم أن من حصل صفة الاجتهاد فعنده الآلية الكافية لذلك دون تصريح بهذا الوصف.

 4 – وكذا قوله في التعريف: (مجموع الأفراد الحائزين على رتبة الاجتهاد) إذ يغني عن ذلك قول (المجتهد) أو (المجتهدين).

ثانياً: القيود والأوصاف:

 وردت في هذه التعريفات قيود وأوصاف محل نظر منها:

 1 – عبارة: (طابع العموم) (ويهم جمهور الناس) و(ذات طابع عام) فهذه القيود عند التحقيق غير لازمة فلو أن الاجتهاد الجماعي جرى في مسألة خاصة أو ذات طابع خاص لصدق عليه أنه اجتهاد جماعي.

 2 – عبارة: (أغلب الفقهاء) و(أغلب المجتهدين) فهذا التنصيص محل نظر من حيث:

 أ – إن الحكم بأن المجتمعين هم أغلب الفقهاء أو المجتهدين متعذر.

 ب – ثم إن الأقلية المخالفة يصدق على اجتهادها أنه اجتهاد جماعي.

 جـ – وكذا لو أن جمعاً من الفقهاء ممن لا يمثلون الأغلبية اجتهدوا لعُدّ ذلك اجتهاداً جماعياً صحيحاً.

 3 – عبارة (لتحصيل ظن بحكم شرعي) هذا الوصف غير دقيق فإن كان المقصود به المجتهد فإنه قد يتحصل من اجتهاده على ظن وقد يتحصل على قطع، وإن كان المقصود به غيره فليس ذا بال.

 4 – عبارة: (اتفاقهم) و(اتفاق) فهذا الوصف خارج عن ماهية الاجتهاد الجماعي إذ الاتفاق أحد نتائج هذا الاجتهاد وفرق بين الشيء ونتيجته، ثم إنه ليس من شرائط تحقيق الاجتهاد الجماعي أن يخرج منه المجتهدون بالاتفاق بل لو أنهم اجتمعوا وتباحثوا ولم يتوصلوا إلى شيء أو حصل منهم التوقف لصدق على ذلك أنه اجتهاد جماعي.

 عبارة: (في نطاق مجمع أو هيئة أو مؤسسة) فهذا القيد ليس شرطاً في انعقاد الاجتهاد الجماعي وصحته وعليه فلو اجتمع جمع من الفقهاء غير المنتسبين لمجمع أو هيئة أو مؤسسة لصدق على اجتماعهم واجتهادهم أنه اجتهاد جماعي.

 6 – عبارة (ينظمها ولي الأمر في دولة إسلامية) هذان القيدان محل نظر إذ ليس تنظيم ولي الأمر شرطاً في تحقق الاجتهاد الجماعي من حيث المصدق أما من حيث الإلزام فذاك شأن آخر وهو خارج عن ماهية الاجتهاد الجماعي وحقيقته.

 وكذلك الأمر بالنسبة لاشتراط كون الاجتهاد الجماعي في دولة إسلامية فهو غير مسلم إذ لو اجتمع الفقهاء في دولة غير إسلامية أو دولة ذات أقلية مسلمة لصح وصدق على ذلك أنه اجتهاد جماعي.

 7 – عبارة: (لم يرد به نص قطعي الثبوت والدلالة) هذا الوصف محل نظر إذ إنه يستلزم إخراج الاجتهاد في تحقيق المناط وهو ضرب من أضرب الاجتهاد المعتبرة.

 8 – عبارة: (الوصول إلى مراد الله) هذا الوصف محل نظر إذ ما يتوصل إليه المجتهدون هو رأيهم، وهو وإن كان معتبراً إلا أننا لا نجزم بأنه هو مراد الله – تعالى – وقد قال أبو بكر – رضي الله عنه – في الكلالة: “أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله”، وقال معاذ – رضي الله عنه -: “أجتهد رأيي ولا آلو”.

الفرع الثاني: التعريف المختار:

بعد استعراض ما أورده بعض العلماء المعاصرين الأفاضل من تعريفات للاجتهاد الجماعي أخلص إلى التعريف الذي يبدو أقرب إلى بيان حقيقة الاجتهاد الجماعي وعليه فيمكن القول:

 إن الاجتهاد الجماعي هو:

 بذل جمع من الفقهاء وسعهم مجتمعين لتحصيل حكم شرعي.

إذ يشتمل هذا التعريف على جملة من القيود التي لا بد من مراعاتها وهي:

 1 – إن الاجتهاد الجماعي يحصل بأي عدد يصدق عليه أنه جمع أو جماعة، وللناظر أن يرجح في أقل الجمع هل هو اثنان أو ثلاثة، وكلما كثر العدد كانت الفائدة أعظم وحصول الاطمئنان أكبر.

 2 – أن يكون هؤلاء المجتهدون مجتمعين حين الاجتهاد وهو ما يعبر عنه البعض بـ(التشاور) وانسجاماً مع طبيعة هذا العصر وآلياته فيقصد بالاجتماع ما كان حقيقة في مكان واحد وما كان حكماً كالاتصال عبر الهاتف أو الدوائر التلفزيونية أو شبكة المعلومات أو غيرها من وسائل الاتصال والتواصل مما يتحقق معه الاجتماع.

 3 – يهدف الاجتهاد إلى تحصيل حكم شرعي سواء كان ذلك متعلقاً بقضية عامة أو خاصة، ولا يشترط أن يتم ذلك من خلال هيئة أو مجمع، كما لا يشترط فيه أن يكون ذا صفة رسمية وإن كان توافر هذه الأوصاف حسناً غير أنه ليس شرطاً في حقيقة الاجتهاد الجماعي.

 4 – إن واقع الاجتهاد الجماعي المعاصر من خلال المجامع الفقهية وهيئات الإفتاء وما شابه ذلك يشهد بأن هذا الاجتهاد لا يقتصر على الأحكام والمسائل الفقهية وإنما يتجاوز ذلك إلى بعض القضايا والوقائع غير الفقهية كمسائل العقائد وأصول الدين من مثل الحكم على بعض الفرق كالقاديانية والبهائية، بل منه ما يتعلق بخوض غير المسلمين في أصول الديانة الكبرى كالتشكيك في القرآن الكريم أو الاستهزاء بالله – تعالى – أو رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وكذا الحديث عن التقريب بين المذاهب وحوار الأديان، وليس المراد هنا ما تصدره هذه المجامع والهيئات من بيانات بل ما تصدره من مواقف وأحكام في هذه القضايا وأمثالها، ولا ريب أن الحاجة قائمة على مختلف الأصعدة والمستويات إلى مثل تلك الأحكام من قبل هذه المراجع العلمية.

وجدير بالإشارة – هنا – أنه لا ينبغي أن يقال إن هذا خارج عن اختصاص المجامع الفقهية، أو أنه لا يعد اجتهاداً جماعياً لا سيما إذا استحضرنا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره – وذكرناه قريباً – من أن التفريق بين أصول الدين وفروعه غير معهود عند السلف.

المبحث الثاني: الاجتهاد الجماعي

المطلب الأول: تعريف الفتوى

أولاً: لغة:

 الفتوى اسم من الإفتاء(23)، وفعله (فَتَيَ) جاء في لسان العرب: (قال ابن سيده: إنما قضينا على ألف أفتى بالياء لكثرة فَتَيَ وقلة فَتَوَ)(24)، يقال في اللغة: أفتاه في الأمر إذا أبانه له، و: أفتاه في المسألة إذا أجابه عنها(25). والفُتيا والفُتْوى والفَتوى: ما أفتى به الفقيه، والفتح في الفتوى لأهل المدينة(26).

 وعليه فالفتوى لغة تعني: الإبانة والإجابة.

ثانياً: اصطلاحاً:

 تعددت تعريفات الفتوى اصطلاحاً، ومنها:

 1 – الإخبار بحكم الله تعالى عن الوقائع بدليل شرعي(27).

 2 – إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة(28).

 3 – ما يخبر به المفتي جواباً لسؤال أو بياناً لحكم من الأحكام وإن لم يكن سؤالاً خاصاً(29).

 4 – الإخبار بحكم الله تعالى عن الوقائع بدليل شرعي لمن سأل عنه(30).

 5 – ولعل التعريف الجامع هو:

 الإخبار بالحكم الشرعي لمن سأل عنه بلا إلزام.

 فهذا التعريف جامع للمسائل الشرعية العلمية والعملية ومانع من دخول الحكم القضائي.

المطلب الثاني: العلاقة بين الاجتهاد الجماعي والفتوى.

بناءً على التعريف المختار للاجتهاد الجماعي يظهر أن العلاقة بينهما علاقة الوسيلة بالنتيجة، ذلك أن الاجتهاد الجماعي هو أحد وسائل الفتوى، كما أن الفتوى هي أحد نتائج الاجتهاد الجماعي، فالاجتهاد وسيلة والفتوى نتيجة.

ورغم ذلك فقد يوجد قدر مشترك بينهما فيما هو خارج عن ماهية كل منهما، وفيما يلي إجمال بأبرز أوجه التشابه والاختلاف بين الاجتهاد الجماعي والفتوى:

 أولاً: أوجه التشابه بينهما:

 1-    أنهما يبحثان في المسائل الشرعية(31).

 2-    لا يشترط فيهما إذن ولي الأمر.

 3-    أنهما يتعددان في العصر الواحد في المسألة الواحدة.

 4-    أنهما يكونان في المسائل الخاصة والعامة.

 5-    عدم الإلزام فيهما لذاتهما وإنما يكتسبان صفة الإلزام بأمر خارج.

ثانياً: أوجه الاختلاف بينهما:

 1-    إن الاجتهاد الجماعي وسيلة من وسائل الفتوى – كما تقدم -؛ إذ الفتوى قد تصدر عن فرد أو عن جماعة، وصدورها عن الجماعة قد يكون بعد اجتماع أو تشاور وهو الاجتهاد الجماعي، فالفتوى نتيجة للاجتهاد الجماعي.

 2-    إن الاجتهاد الجماعي لا يكون من واحد، أما الفتوى فإنها تكون كذلك.

 3-    لا يلزم في الفتوى أن تكون نتيجة بذل وسع إذ قد تكون في المسائل القطعية، بخلاف الاجتهاد الجماعي فلا يكون في المسائل القطعية لعدم قابليتها للاجتهاد(32).

 4-    إن الاجتهاد الجماعي قد يدخل في المسائل المتخاصم فيها أما الفتوى فلا.

 5-    إن الإفتاء لا يتم إلا بتبليغ الحكم الشرعي للسائل، أما الاجتهاد فيتم بمجرد تحصيل الحكم الشرعي(33).

المطلب الثالث: أهمية الاجتهاد الجماعي في ضبط الفتوى.

تقرر فيما تقدم أن الاجتهاد الجماعي هو أحد طرائق الفتوى ووسائلها، والواقع أن للاجتهاد الجماعي أهمية بالغة – وبخاصة في عصرنا الحاضر – في ضبط الفتوى والبعد بها عن الشطط والاضطراب.

وتبرز هذه الأهمية من خلال النقاط الآتية:

 أولاً: إن الاجتهاد الجماعي – لا سيما في ظل المجامع والهيئات الفقهية القائمة – يعد نتاجاً لتفاعل جمع من العلماء المجتهدين والخبراء المختصين وتكاملهم وتشاورهم، وثمرةً لتقليب وجهات النظر المختلفة والآراء المتعددة في القضية محل الاجتهاد، وبهذا فهو أقرب إلى الحق وأدعى للقبول والاطمئنان إذ من المعلوم أن رأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأي الفرد وإن علا شأنه في العلم فالمناقشة والمذاكرة والمشورة تجلّي ما كان غامضاً وتذكّر بما كان منسياً وتكشف عما كان خافياً.

ومن جهة أخرى فإن عمق النقاش ودقة التمحيص للآراء والحجج اللذين يتسم بهما الاجتهاد الجماعي يجعلان استنباط الحكم أكثر دقة وأحرى بموافقة الصواب.

ولعل من شواهد هذه الخصيصة التي يتميز بها الاجتهاد الجماعي حرص السلف الصالح وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون على الأخذ بالاجتهاد الجماعي القائم على المشورة وبخاصة في القضايا العامة والمشكلة في وقائع عديدة ليس هذا مجال حصرها.

ثانياً: شهد العصر الحاضر ظهور التخصص العلمي لدى العلماء بحيث يكون العالم مختصاً في اللغة أو الفقه أو الأصول وهكذا حتى أضحى وجود العالم الذي يحيط بكل العلوم والمعارف نادراً في هذا العصر وهو مأخذ ولا ريب، بيد أن ما يمتاز به الاجتهاد الجماعي من تكامل بين العلماء على اختلاف تخصصاتهم وتنوعها من شأنه أن ينتج أحكاماً أقرب إلى الحق وأدنى إلى الصواب وأبعد عن الخطأ والخطل، وبذلك تظهر أهمية الاجتهاد الجماعي في حماية جناب الفتوى عبر تنظيم الاجتهاد نفسه ومنع غير المختصين من الخوض فيه.

ثالثاً: يمتاز هذا العصر بمكتشفات ومخترعات عمت جوانب الحياة المتعددة وقد نشأ عن ذلك الكثير من المستجدات والنوازل التي لم تكن معهودة من قبل وليس لها مثيل فيما حوته كتب الفقه التي وضعها المتقدمون – رحمهم الله -، وتختص تلك النوازل المستجدة بأمرين:

 الأول: أنها في الغالب ذات بعد عام يمس المجتمعات والدول بل ربما تناولت آثارها الأمة الإسلامية جمعاء.

 الثاني: أنها تحفل بكثير من الملابسات والتشعبات التي تخرج بها عن حيز الفن الواحد إلى حيز الفنون المتنوعة الأمر الذي يجعل استيعابها وفهمها على حقيقتها معتركاً صعباً.

وتأسيساً على ذلك فإن التصدر للإفتاء في هذه النوازل ينبغي أن يراعى فيه هذان الأمران فإن أي خطأ أو قصور في الفتاوى العامة يصيب أثره عموم الناس كما أن النظر القاصر من شأنه أن يفرز فتوى قاصرة؛ وعليه فإن رعاية الفتوى في مثل تلك النوازل تستدعي إخضاعها للاجتهاد الجماعي الذي تتوافر له الرؤية الجماعية والخبرة والاختصاص، ومن هنا يظهر جلياً الدور العظيم الذي يقوم به الاجتهاد الجماعي في ضبط الفتوى والوصول بها إلى المقصود الأمثل وهو إصابة الحق(34).

المبحث الثالث: الاجتهاد الجماعي والمجامع الفقهية.

المطلب الأول: نشأة المجامع الفقهية.

شهدت بدايات القرن الرابع عشر الهجري دعوات عدد من العلماء والباحثين إلى إحياء الاجتهاد الجماعي في شكل مؤسسي مقنن يتخذ شكل مجمع علمي أو هيئة شرعية أو ما شابه ذلك يتصدى فيه المجتهدون بالدراسة والجواب في حيادية واستقلال لمشكلات المسلمين وقضاياهم ونوازلهم.

ومن أولئك العلماء الأجلاء الذين طالبوا بهذا المسلك الاجتهادي المنظم الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله – حيث يقول: “فالاجتهاد فرض كفاية على الأمة بمقدار حاجة أقطارها وأحوالها، وقد أثمت الأمة بالتفريط فيه مع الاستطاعة ومكنة الأسباب والآلات… وإن أقل ما يجب على العلماء في هذا العصر أن يبتدئوا به من هذا الغرض العلمي أن يسعوا إلى جمع مجمع علمي يحضره أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار، ويبسطوا بينهم حاجات الأمة، ويصدروا فيها عن وفاق فيما يتعين عمل الأمة عليه، ويُعْلِموا أقطار الإسلام بمقرَّراتهم، فلا أحسب أحداً ينصرف عن اتباعهم، ويعينوا يومئذ أسماء العلماء الذين يجدونهم قد بلغوا مرتبة الاجتهاد أو قاربوا. وعلى العلماء أن يقيموا من بينهم أوسعهم علماً وأصدقهم نظراً في فهم الشريعة فيشهدوا لهم بالتأهل للاجتهاد في الشريعة، ويتعين أن يكونوا قد جمعوا إلى العلم العدالة واتباع الشريعة لتكون أمانة العلم فيهم مستوفاة، ولا تتطرق إليهم

ويقول الدكتور محمد يوسف موسى: (هذا ونعتقد كل الاعتقاد أنه آن الأوان ليكون لنا مجمع للفقه الإسلامي بجانب مجمع اللغة العربية، فإن دراسة الفقه على النحو الواجب الذي نريد تحقيق الغاية من هذه الدراسات أمر لا يمكن أن يتحقق إلا بإنشاء هذا المجمع الذي ندعو إليه جاهدين)(36).

ويقول الأستاذ مصطفى الزرقا: (… فإذا أردنا أن نعيد للشريعة وفقهها روحها وحيويتها بالاجتهاد الذي هو واجب كفائي لا بد من استمراره في الأمة شرعاً، والذي هو السبيل الوحيد لمواجهة المشكلات الزمنية الكثيرة بحلول شرعية جريئة، عميقة البحث، متينة الدليل، بعيدة عن الشبهات والريب والمطاعن، قادرة على أن تهزم الآراء والعقول الجامدة والجاحدة على السواء، فإن تحقيق ذلك يتطلب ركيزتين مهمتين إحداهما تنظيمية والأخرى تعليمية، فالركيزة التنظيمية: الاجتهاد الجماعي، ومجمع فقهي… وطريقة ذلك الآن أن يؤسس مجمع للفقه الإسلامي عالمي التكوين، على طريقة المجامع العلمية واللغوية…)(37).

وقد آتت تلك النداءات أُكُلها فخرج إلى الوجود عدد من المجامع والهيئات واللجان الفقهية والشرعية والعلمية(38)، منها:

1 – مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر:

فقد صدر عام 1381هـ قرار بإنشاء هذا المجمع، الذي يقوم بدراسة ما يتصل بالبحوث الإسلامية، وبيان الرأي فيما يجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية، ويتألف من خمسين عضواً من العلماء والمختصين من المذاهب الإسلامية، ويكون من بينهم عدد لا يزيد عن العشرين من غير المصريين، ويكون نصف الأعضاء على الأقل متفرغين لعضويته، ويعين العضو بقرار من رئيس الجمهورية، ويكون شيخ الأزهر رئيساً لهذا المجمع.

 وقد عقد المجمع أول مؤتمر له في القاهرة عام 1383هـ، وطبعت التوصيات والبيانات الصادرة عنه حتى العام 1403هـ.

2 – هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية:

ألفت بموجب أمر ملكي عام 1391هـ، ومهمتها إبداء الرأي فيما يحال إليها من ولي الأمر لأجل بحثه وتكوين الرأي المستند إلى الأدلة الشرعية فيه، وتنعقد جلساتها كل ستة أشهر ويرأسها سماحة المفتي العام للمملكة، وتتفرع عنها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.

 وتصدر الأمانة العامة للهيئة دورية (ثلاث مرات في السنة) باسم مجلة البحوث الإسلامية، تتضمن طائفة من فتاوى اللجنة الدائمة، وفتاوى سماحة المفتي العامة، وبعض البحوث الشرعية.

3 – اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية:

تتفرع عن هيئة كبار العلماء، ويختار أعضاؤها من بين أعضاء الهيئة بأمر ملكي، ومهمتها إعداد البحوث وتهيئتها للمناقشة من قبل الهيئة وإصدار الفتاوى في الشؤون الفردية بالإجابة عن أسئلة المستفتين دون تقيد بمذهب معين، وقد جمعت فتاوى اللجنة في مجلدات تيسيراً لمن أراد الاطلاع والإفادة.

4 – المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة:

وقد أنشئ هذا المجمع سنة 1398هـ لدراسة أمور المسلمين الدينية والفقهية، والنظر في الوقائع الجديدة في شؤون الحياة.

 ويتألف من رئيس ونائب له وعشرين عضواً من العلماء المتميزين بالنظر الفقهي والأصولي، وقد عقدت الدورة الأولى للمجمع في شعبان عام 1398هـ.

 وتصدر عن المجمع مجلة دورية تتضمن بحوثاً فقهية، وبعض قرارات المجمع وفتاوى وملخصات وتقارير علمية.

 وقد جمعت القرارات الصادرة عن المجمع حتى الدورة السادسة عشرة في كتاب واحد صدر عام 1422هـ.

5 – مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي:

صدر قرار مؤتمر القمة الإسلامي الثالث بإنشاء مجمع الفقه الإسلامي الدولي، ويتألف المجمع من أعضاء عاملين، ويكون لكل دولة من دول منظمة المؤتمر الإسلامي عضو عامل في المجمع يتم تعيينه من قبل دولته، وللمجمع بقرار منه أن يضم لعضويته من تنطبق عليهم الشروط من علماء وفقهاء المسلمين والجاليات المسلمة في الدول غير الإسلامية.

 وقد عقد اجتماع المجلس التأسيسي للمجمع عام 1403هـ وكانت دورته الأولى في مكة المكرمة في شهر صفر من العام 1405هـ ويجتمع مجلس المجمع في درة سنوية، ومقره الرئيس في محافظة جدة، ويقوم بدراسة مشكلات الحياة المعاصرة، والاجتهاد فيها لتقديم الحلول النابعة من الشريعة الإسلامية.

 وتصدر عن المجمع مجلة تتضمن البحوث المقدمة إليه والقرارات الصادرة عنه، ونصوص وقائع جلسات المجمع بما في ذلك العرض والمناقشة، كما يلحق بها الوثائق المتعلقة بكل دورة، وقد طبعت القرارات والتوصيات الصادرة عن المجمع حتى الدورة العاشرة.

6 – مجمع الفقه الإسلامي بالهند:

أنشئ هذا المجمع عام 1988م، ويهدف إلى البحث عن الحلول لمستجدات العصر والمشاكل الناجمة عن ذلك وفق الأطر الإسلامية، ويشارك في ندوات المجمع السنوية نخبة من العلماء يزيد عددهم عن ستمائة عالم معظمهم من الهند، وعقدت الندوة الأولى له في نيودلهي عام 1989م، وقد جمعت قراراته وتوصياته في كتاب طبع باسم (قضايا معاصرة) في العام 1420هـ.

7 – مجمع الفقه الإسلامي بالسودان:

صدر نظام هذا المجمع وتم اعتماده في شهر شعبان عام 1419هـ، ويضم مجلسه أربعين عضواً من الفقهاء والعلماء والخبراء جميعهم من جمهورية السودان، وله هيئة للمستشارين من ممثلي المجامع الفقهية والبحثية من خارج السودان وقد عقد المجمع مؤتمره الأول عام 1422هـ.

 وتصدر عن المجمع مجلة حولية تتضمن بحوثاً فقهية وبعض قرارات المجمع، وقد صدر العدد الأول من المجلة عام 1422هـ.

8 – رابطة علماء المغرب:

تعنى ببحث المسائل الفقهية المعاصرة والنوازل، وتجمع معظم علماء المغرب، ومقرها الرباط، وتصدر عنها مجلة باسم مجلة الرباط.

9 – قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية في الكويت:

يتبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، وقد صدرت عنه مجموعة الفتاوى الشرعية في ثلاثة مجلدات.

10 – المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث:

وهو هيئة علمية متخصصة مستقلة، مقرها في أيرلندا، وقد عقد لقاؤه التأسيسي عام 1417هـ في لندن بدعوة من اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، ويهدف المجلس إلى إيجاد التقارب بين علماء الساحة الأوروبية، والعمل على توحيد الآراء الفقهية فيما بينهم، وإصدار فتاوى جماعية تسد حاجة المسلمين في أوروبا، وإصدار البحوث والدراسات الشرعية في المستجدات على الساحة الأوروبية.

11 – مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا:

وهو مؤسسة علمية تسعى لبيان أحكام الشريعة فيما يعرض للمقيمين في أمريكا من النوازل، ومقرها واشنطن.

وقد زامن هذه المجامع وتلاها في الظهور عدد من اللجان والهيئات الشرعية التي تعنى بالاجتهاد الجماعي، وأسهم الازدهار المادي والحضاري بكفل في توسع تلك اللجان والهيئات وبخاصة فيما يتصل بالنشاط المصرفي والمالي إذ تعددت هيئات الرقابة الشرعية الملحقة بعدد من المصارف والمؤسسات المالية لدراسة ما يستجد في ميدان المعاملات المالية المعاصرة وتصدر قرارات تلك الهيئات بأغلبية أعضائها، ومنها:

 1-    اللجنة الشرعية بمصرف الراجحي في المملكة العربية السعودية.

 2-    اللجنة الشرعية ببنك البلاد في المملكة العربية السعودية.

 3-    الهيئة الشرعية العالمية للزكاة بالكويت.

 4-    بيت التمويل الكويتي.

المطلب الثاني: دور المجامع الفقهية في تحقيق الاجتهاد الجماعي.

تعد المجامع الفقهية القائمة الآن – وفي مقدمتها مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، والمجمع الفقهي الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي، وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية – أحد أشكال الاجتهاد المعاصر.

وقد تبين لنا من خلال المطلب السابق أن الهدف الأساس من إنشاء هذه المجامع وما شابهها من هيئات ولجان شرعية كان البحث عن صورة مثلى للاجتهاد الجماعي الذي يخطو بالأمة الإسلامية نحو مواكبة العصر وما يحفل به من مستجدات ونوازل.

وإن الناظر فيما قدمته وتقدمه المجامع الفقهية يلحظ أنها قد أسهمت بشكل فاعل ومؤثر لا في تحقيق الاجتهاد الجماعي فحسب بل في ترسيخه مفهوماً قائماً بذاته ومصطلحاً مستقبلاً عما سواه وممارسة عملية منظمة، عمادها البحث العميق والاجتهاد الأصيل والدليل المتين، والبعد عن الشبهات والريب، في مشورة علمية ناصحة من أهل علم أخيار أكابر تشدهم آصرة التآخي، وتقوي علاقاتهم الآمال في وحدة الأمة.

وقد نهضت المجامع ولله الحمد بمسؤولياتها سعياً لتحقيق مصالح الأمة على وفق مقاصد الشريعة الغراء وروحها السمحة وجاء نتاجها جماً وفيراً ضم العديد من البحوث والقرارات والتوصيات التي زانها تلاقح المذاهب الفقهية دون تعصب أو محاباة ونضج الأراء والمفاهيم، وتحري الدقة وانتهاج مبدأ الاستقراء لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة ومظانها الموثوقة لإيجاد الحلول الشرعية لمشكلات الحياة المعاصرة ونوازلها.

ولا يعني ذلك أن ما يجري في تلك المجامع هو قصارى الطموح أو الشكل الأمثل للاجتهاد الجماعي، كما لا يعني ادعاء الكمال لما هو موجود بل الطبيعة البشرية مجبولة على التقصير والحاجة إلى المراجعة وإعادة النظر فيما تم إنجازه قائمة ومعتبرة لدى رجالات المجامع الفقهية والقائمين عليها.

وإن مما يحسب للمجامع الفقهية القائمة أنها وإن كانت فقهية من حيث الاسم إلا أنها لم تقف بممارساتها الاجتهادية عند حدود المسائل الفقهية بل تجاوزت ذلك إلى مختلف فروع الشريعة حتى أضحى الاجتهاد الجماعي عملاً مؤسسياً شاهداً على ما تتسم به الشريعة الإسلامية من وفاء بحاجات البشر وإعطاء الحكم الشرعي لكل نازلة وفي كل واقعة أو معضلة ومن نظر بعين الإنصاف أدرك.

الخاتمة:

في ختام هذه الكلمات يمكننا إجمال أبرز ما تضمنته في الآتي:

 1 – إن التعريف المختار للاجتهاد الجماعي هو أنه:

 (بذل جمع من الفقهاء وسعهم مجتمعين لتحصيل حكم شرعي).

 2 – إن العلاقة بين الاجتهاد الجماعي والفتوى هي أن الاجتهاد الجماعي وسيلة والفتوى نتيجة، وفرق بين الوسيلة والنتيجة، على أن ذلك لا يمنع وجود أوجه من التشابه بينهما خارجة عن ماهية كل منهما.

 3 – تظهر أهمية الاجتهاد الجماعي في ضبط الفتوى وتنظيمها من خلال ثلاثة جوانب:

 أ – إن الاجتهاد الجماعي أقرب إلى الحق وأدعى للقبول والاطمئنان.

 ب – إن الاجتهاد الجماعي وسيلة لتنظيم الاجتهاد ومنع غير المختصين من الخوض في غير اختصاصهم لا سيما بعد ظهور التخصص العلمي.

 جـ – كثرة النوازل المستجدة في هذا الزمن واتصافها بطابع العموم والتشعب.

 4 – جاءت نشأة المجامع الفقهية استجابة لدعوات عدد من العلماء الأجلاء إلى غحياء الاجتهاد الجماعي في شكل مؤسسي مقنن، وقد برزت على السطح اليوم مجامع وهيئات ولجان تمارس الاجتهاد الجماعي في مجالات متعددة.

 5 – تضطلع المجامع الفقهية بأدوار عظيمة في تحقيق الاجتهاد الجماعي مفهوماً وممارسة والمأمول منها في هذا الصدد أكبر.

هذا ما تيسر تدوينه، والله الموفق والهادي إلى الصواب وكفى بربك هادياً ونصيراً.

 وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_____________________

(1)    انظر لسان العرب، لابن منظور، (3/135) دار الفكر – بيروت.

 (2)    معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (1/486)، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل – بيروت.

 (3)    المصباح المنير، للفيومي، ص101 مكتبة لبنان – بيروت.

 (4)    انظر تيسير التحرير لأمير ياوشاه (4/178-179)، دار الكتب العلمية – بيروت.

 (5)    التحرير في أصول الفقه، لابن الهمام، ص523، مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر.

 (6)    شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص429، تحقيق/ طه عبد الرؤوف، المكتبة الأزهرية للتراث.

 (7)    الإحكام للآمدي، (4/396) تحقيق/ إبراهيم العجوز، دار الكتب العلمية – بيروت.

 (8)    شرح مختصر الروضة للطوفق، (3/576) تحقيق د/عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة – بيروت.

 (9)    تيسير التحرير (4/179).

 (10)    مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (13/125) جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم.

 (11)    انظر: شرح الكوكب المنير، لابن النجار الحنبلي، (4/458)، تحقيق الدكتور محمد الزحيلي والدكتور نزيه حماد، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي – جامعة الملك عبد العزيز. البحر المحيد للزركشي (6/197-198)، دار الصفوة الكويت. إرشاد الفحول للشوكاني ص418-419 تحقيق/ محمد البدري مؤسسة الكتب الثقافية بيروت.

 (12)    انظر: شرح مختصر الروضة (3/576).

 (13)    انظر: الصحاح للجوهري، (3/1198)، تحقيق أحمد عطار، دار العلم للملايين بيروت. لسان العرب، لابن منظور، (8/53).

 (14)    انظر: المصباح المنير، للفيومي، ص98.

 (15)    انظر: لسان العرب، لابن منظور (8/53، 55).

 (16)    وهو رأي الدكتور/ العبد خليل في بحثه (الاجتهاد الجماعي وأهميته في العصر الحديث)، مجلة دراسات الجامعة الأردنية، ص222-226.

 (17)    كما هو رأي الأستاذ الدكتور/ قطب مصطفى سانو، في كتابه (الاجتهاد الجماعي المنشور) ص34، دار التجديد – ماليزيا.

 (18)    الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه، الأستاذ الدكتور/ شعبان إسماعيل، ص21، دار البشائر – بيروت.

 (19)    الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، الأستاذ الدكتور/ عبد المجيد الشرفين ص46، سلسلة كتاب الأمة – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر.

 (20)    الاجتهاد الجماعي وأهميته في العصر الحديث، الدكتور/ العبد خليل، ص215.

 (21)    أبحاث ندوة الاجتهاد الجماعي (2/1079) نقلاً عن الاجتهاد الجماعي المنشود، الأستاذ قطب سانو، ص38.

 (22)    الاجتهاد الجماعي المنشور، الأستاذ الدكتور/ قطب سانو، ص53.

 (23)    انظر: الصحاح، للجوهري، (6/2452).

 (24)    لسان العرب، لابن منظور، (15/147-148).

 (25)    انظر: المصباح المنير، للفيومي، ص175، معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (4/474.

 (26)    انظر: لسان العرب، لابن منظور، (5/148).

 (27)    انظر: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لابن حمدان، ص4 منشورات المكتب الإسلامي – بيروت.

 (28)    الفرق، للقرافي، (4/53) نقلاً عن الفتوى (نشأتها وتطورها)، للدكتور حسين الملاح (1/398)، المكتبة العصرية – بيروت.

 (29)    أصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله التركي، ص725، مؤسسة الرسالة.

 (30)    الفتوى، للدكتور حسين الملاح (1/398).

 (31)    انظر: الفتوى للدكتور حسين الملاح، (1/398).

 (32)    انظر: الفتوى للدكتور حسين الملاح، (1/404).

 (33)    المصدر السابق، (1/404).

 (34)    انظر: الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، الدكتور عبد المجيد الشرفي، ص77-92. منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية، الدكتور مسفر القطحاني، ص234-239، دار الأندلس الخضراء – جدة. الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه، الأستاذ الدكتور شعبان إسماعيل، ص119-122. الاجتهاد الجماعي وأهميته في العصر الحديث، الدكتور العبد خليل ص226-229.

 (35)    مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، ص408-409، تحقيق/محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس – الأردن.

 (36)    تاريخ الفقه الإسلامي، الدكتور محمد يوسف موسى، ص18، دار الكتب الحديثة – مصر.

 (37)    الاجتهاد الجماعي ودور الفقه في حل المشكلات، مصطفى أحمد الزرقا، ص49-50، جمعية الدراسات والبحوث الإسلامية – الأردن.

 (38)    انظر: فقه النوازل، للأستاذ محمد الجيزاني، (1/92-97)، دار ابن الجوزي – الدمام. الاجتهاد الجماعي ودور الفقه في حل المشكلات، مصطفى الزرقا، ص50-53. الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، الدكتور عبد المجيد الشرفي، ص56-58. الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه، الأستاذ الدكتور شعبان إسماعيل، ص138-191.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى