مقالات مختارة

الابتعاد عن الغضب وأسبابه.. (الوقاية والعلاج)

بقلم الشيخ ندا أبو أحمد

كظم الغيظ والابتعاد عن الغضب مِن أسباب السلامة من اللجاج والخصومات، وعلاج الغضب يكون بطريقتين:

الطريقة الأولى: الوقاية:

ومعلوم أنَّ الوقايةَ خيرٌ من العلاج، والوقاية مِن الغضب قبل وقوعه تكون باجتنابِ أسبابه والابتعاد عنه، ومن هذه الأسباب التي ينبغي لكلِّ مسلم أن يُطهِّر نفسَه منها: الكِبر، والإعجاب بالنفس، والافتخار، والتِّيه، والحرص المذموم…، وما شابه ذلك.

♦ أيضًا من طُرق الوقاية لعلاج الغضب: العمل بوصيَّة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((لا تَغضب))؛ ففي الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصِني، قال: ((لا تغضب))، فردَّد مرارًا قال: ((لا تغضب)).

فدلَّ هذا الحديث على أنَّ الغضب هو جِماع الشرِّ، وأن التَّحرُّر منه هو جماعُ الخير، فيا لها من وصيَّة جامعةٍ مانِعة، استقلَّها هذا الرجل، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيده، ولكن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اقتصر على ذلك فَقط، فعُلِم أنَّ النجاة في عدم الغضب.

 وفي مسند الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، عن رجل من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم: أخبِرني بكلماتٍ أعيش بهنَّ ولا تُكثر عليَّ، قال: ((اجتنِب الغضبَ))، ثم أعاد عليه، قال: ((اجتنب الغضَب))، ومعنى الحديث؛ أي: اجتنب الأسبابَ التي تؤدِّي إلى الغضب.

 الطريقة الثانية: العلاج:

والإنسان ربما يأخذ بالطُّرق الوقائيَّة لعدم الوقوع في الغَضَب، لكن لبشريَّته قد يغلبه الغضَب، ولا يستطيع دفعه وردَّه عن نفسه، ففي هذه الحالة وجب عليه أن يبادِر إلى العلاج، ويتمثَّل في:

1 – الاستعاذة بالله من الشيطان:

قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ[1] فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200]، فالشيطان أَمْلَك ما يكون للإنسان عِند غضبِه وشَهْوته، يفعل به الشَّيطان ما يشاء، ويلعب به كما يلعب الغِلمان بالكرة، فعلى الإنسان أن يلجأ إلى الرَّحمن، ولْيسْتَعِذ به أن يحمِيه من هذا الشيطان؛ حتى يذهب عنه ما يجد.

 وقد أخرج البخاري ومسلم عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: كنتُ جالسًا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبَّان، فأحدهما احمرَّ وجهه، وانتفخَت أَوْداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي لأعلم كلمةً لو قالها ذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذُ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يَجد))، فقالوا له: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعوَّذ بالله من الشيطان))، فقال: وهل بي جنون؟ وفي رواية: أمجنونًا تراني؟

 يلاحَظ أن أكثر الناس اليوم إذا غضبوا ثمَّ استعاذوا، لا يجدون أثرًا للاستعاذة عند الغضب، فهذا الغضب لا يسكن، وتفسير ذلك: أنَّ الاستعاذة مشروطة بالفهم؛ أي: تعلُّق القلب بالله واللُّجوء إليه بصدقٍ وإخلاص عند النُّطق بها؛ أي: تَوَافق اللِّسان مع عملِ القلب، أمَّا مجرد النطق بها دون عمل القلب، فهذا لا يُجْدِي، ولا تجد له أثرًا يذكر.

 2 – الالتزام بالهدي النبوي، وذلك عن طريق تغيير الهيئة (الحال):

أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا غَضِبَ أحدُكم وهو قائمٌ فليجْلِس؛ فإن ذهب عنه الغضبُ وإلاَّ فليضطجع))؛ (صححه الألباني في صحيح أبي داود).

ومن المعروف أنَّ الغضب من الشيطان، والشَّيطان من النَّار كما أخبر عن نفسه، فقال لربِّ العزة: ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ[2] مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]، ومِن شأن النَّار التَّلظِّي والاشتعال والحركة والاضطراب والصعود لأعلى، ومن شَأن الطين السُّكون والوَقار.

 3 – ترك المخاصمة والسكوت:

فقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((علِّموا، وبشِّروا ولا تعسِّروا، وإذا غضب أحدُكم فليسكت)).

1- قال ابن رجب رحمه الله؛ كما في جامع العلوم والحكم (1/ 146):

“وهذا أيضًا دواءٌ عظيم للغضَب؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه مِن القول ما يندم عليه في حال زوالِ غضبه، وكثير من السِّباب وغيره ممَّا يعظم ضرره، فإذا سكتَ زال هذا الشرُّ كلُّه عنه”.

وما أحسن قول مورِّق العجلي رحمه الله حيث قال: “ما امتلأتُ غضبًا قط، ولا تكلَّمت في غضب قطُّ بما أندم عليه إذا رَضيت”.

وصدق القائل حيث قال: “إيَّاك وعزَّة الغضب؛ فإنَّها تفضي إلى ذلِّ العُذر”، فلا تتكلَّم حال الغضب، وإذا تكلَّمت فلا تتكلَّم بما تندم عليه.

2- قال ميمون بن مِهران رحمه الله: جاء رجلٌ إلى سلمان رضي الله عنه، فقال: يا أبا عبدالله، أوصني، قال: “لا تغضب”، قال: أمرتَني ألاَّ أغضب وإنَّه ليغشاني ما لا أملِك، قال: “فإن غضبت، فاملك لسانَك ويدَك”.

وها هو أبو ذرٍّ رضي الله عنه: “يدخل عليه سفيهٌ من السُّفهاء فيشتمه، وظلَّ الرجل يشتم أبا ذر، فرفع أبو ذرٍّ إليه رأسَه ليَسكت، فقال الرجل: والله لو رددتَ عليَّ كلمةً لرددتُ عليك مائة، فقال أبو ذر: والله لو سببتني بمائة فلن أردَّ عليك بكلمة، اذهب غفر الله لي ولك”.

وشتم رجلٌ عديَّ بن حاتم وهو ساكت، فلما فرغ من مقالته قال: “إن كان بقِي عندك شيء فقل قبل أن يأتِي شباب الحيِّ؛ فإنَّهم إن سمعوك تقول هذا لسيِّدهم لم يرضوا”.

ويقول الشافعي في ديوانه:

إذا نطق السَّفيهُ فلا تجبه

فخيرٌ من إجابته السكوتُ

فإن كلَّمته فرَّجتَ عنه

وإن خلَّيته كمدًا يموتُ

وقال أيضًا:

يخاطبني السَّفيهُ بكلِّ قبح

فأكره أن أكونَ له مجيبَا

يزيد سفاهةً فأزيد حِلمًا

كعودٍ زاده الإحراقُ طيبَا

4 – الوضوء:

أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ فيه مقال عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الغضب مِن الشيطان، وإنَّ الشيطان خُلق من النَّار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء؛ فإذا غضب أحدُكم فليتوضأ))؛ (ضعيف الجامع: 1510)، وإن كان الحديث ضعيفًا لكن المعنى صحيح، وهو شيءٌ مجرَّب.

5 – التـَّحلِّي بتقوى الله:

جاء في كتاب “الحلم” لابن أبي الدنيا: “أنَّ أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت صائمة، فأمرت جاريتها (بُرَيْدَةَ) أن تصنع لها طعامًا لتفطِر به، فتشاغلَت عن ذلك حتى مضى النهار وجاء المغرب، فلم تجد أمُّ المؤمنين طعامًا، فالتفتَت إليها، وقالت وهي تكتمُ غيظَها: لله درُّ التقوى، فلم تدع لذي غيظٍ شفاء (تَشَفٍّ)”.

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: “مَن اتَّقى الله لم يَشف غيظَه، ومَن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترَون”.

6 – الإكثار من ذكر الله:

قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، فمَن اطمئنَّ قلبُه بذكر الله، كان أبعد ما يكون عن الغضب.

قال عكرمة رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ [الكهف: 24]: أي: إذا غضبت. (تفسير ابن كثير: 5/ 149).

7 – التَّحلِّي بالسكينة:

فالتزام السكينة من أَنجح الوسائل لقَطْع الخصومة والخَوض في الباطل.

يقول ابن القيم كما في مدارج السالكين: “السَّكينة إذا نزلَت على القلب اطمأنَّ بها، وسكنَت إليها الجوارح وخشعَت واكتسبت الوقارَ، وأنطقت اللِّسان بالصواب والحِكمة، وحالَت بينه وبين قول الخنا والفُحش، واللغو والهُجْر، وكل باطل”. اهـ

8 – الوقوف على عواقب الغضب والنظر في نتائجه الوخيمة:

فقد أثبتَت الأبحاث الطبيَّة أنَّ الغضب يسبِّب كثيرًا من الأمراض، منها:

1 – مرض السكر: فعندما تحدث الإثارة العصبيَّة نتيجة الغضَب يفرز هرمون (رسول) الأدرينالين (هرمون الطوارئ)، وذلك من لُبِّ الغدَّة الكظرية أعلى الكُلى، ومهمة هذا الهرمون تكيِيف الجسم وإعداده للاستجابة للمؤثِّرات العصبيَّة، ومنها: الغضب؛ حيث يتَّجه إلى البنكرياس ليوقف إِفراز الأنسولين ليزداد السكر في الدَّم، علاوة على تأثيره في زيادة تصنِيع السكر من مصادر دهنيَّة وبروتينية، ومن تكسير النشا الحيواني.

2 – ارتفاع في ضغط الدم: نتيجة انقِباض عضلَة القلب وزيادة قوَّتها، فيعمل القلب على ضخِّ كميةٍ كبيرة من الدِّماء، وتنتفخ الأوداجُ، وتزداد دقَّات القلب مما يُجهِد القلبَ، وربما يُؤدِّي إلى سَكتة قلبية تُسبِّب الوفاة، أو قد تُؤدِّي إلى تصلُّب الشرايين.

3 – وفي بعض الحالات يؤدي إلى السرطان: نتيجة إفراز بعض الغُدَد هرمونات تعمل على سدِّ الطريق أمام جهاز المناعة في الجسم، وإعاقة حركة الأجسام المضادَّة، بل تتعرَّض الأسلحة الفعَّالة التي يستخدمها الجسم للدِّفاع عن نفسه للضعف الشديد؛ نتيجة لإصابة بعض الغدَد بالتقلُّص عند حدوث أزمات قلبية.

4 – القولون العصبي: وذلك لعدم انفصال الحالة الجسمانيَّة عن الحالة النفسية.

5 – الذبحة الصدرية.

9 – استحضار الأجر الكبير، والطمع فيما أعده الله لمن كظم غيظه:

أ – الفوز بدرجة المحسنين ومحبَّة رب العالمين:

قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، وليس هناك أفضل من درجةِ الإحسان، والفوز بمحبَّة الرحمن.

ب – كظم الغيظ من أفضل الأعمال وأعظم الأجور:

أخرج الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من جُرعةٍ أعظم أجرًا عند الله من جرعةِ غَيْظ كظمها عبدٌ ابتغاءَ وجه الله)).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في “الاستقامة” (2/ 272): “ما تجرَّع عبدٌ جرعةً أعظم من جرعةِ حلمٍ عند الغضب، وجرعة صبرٍ عند المصيبة”.

جـ – كظم الغيظ سبب في زيادة الإيمان:

أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من جرعةٍ أحب إلى الله من جرعةِ غيظٍ يكظمها عبدٌ، ما كظمها عبدٌ لله إلاَّ ملأ الله جوفَه إيمانًا)).

د – كظم الغيظ سبب في قوة الرَّجاء:

أخرج الطبراني في الكبير بسند حسن أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كظَم غيظَه ولو شاء أن يمضيَهُ أمضاه، ملأ الله قلبَه رجاءً يوم القيامة))؛ (الصحيحة: 906).

هـ – ترك الغضب سبب لدخول الجنة:

أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، دلَّني على عملٍ يُدخلني الجنَّة، قال: ((لا تغضَب ولك الجنَّة)).

و – ترك الغضب للفوز بالحور العين:

أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهُ، دعاه الله على رؤوس الخلائِق، حتى يخيِّره من الحور العين، يزوِّجه منها ما شاء))؛ (صحيح الجامع: 6522)، وعند أبي داود بلفظ: ((مَن كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَهُ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يومَ القيامة حتى يخيِّره من الحور العين ما يشاء)).

———————————

[1] ينزغنَّك: يصيبنك أو يصرفنَّك، وقيل: يغضبك، نزغ: وسوسة أو صارف.

[2] خلقته؛ أي: آدم.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى