الإمام والرئيس.. كيف واجه الأزهر السلطة عبر تاريخه؟
إعداد عز الدين عمر
“تعبتني يا فضيلة الإمام”، بهذه الكلمات وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حديثه لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في الذكرى الخامسة والستين في احتفالات عيد الشرطة المصرية في يناير/كانون الثاني من العام الماضي 2017م، وذلك في سياق طلب السيسي ألا يُعترف بالطلاق إلا بوثيقة رسمية دون اعتداد بالطلاق الشفوي، وقد كان تصريح السيسي للإمام الأكبر يعني أن الأزهر لم يقبل ببعض إملاءات السيسي، وهو ما وصفه الأخير “بالمتعب”.
لم تكن تلك الحالة من الاشتباك العلني بين الرجلين هي الأولى من نوعها، فطالما استغل السيسي المناسبات الدينية ليخرج مهاجما الفكر الإسلامي والمسلمين على السواء، ويُلقي باللائمة في ذلك على الجمود -كما يرى-، وهو جمود أرجعه للمؤسسة الدينية الأكبر في مصر على مدار ألف عام من تاريخها، ألا وهي مؤسسة الأزهر.
بل تطور الأمر إلى مطالبة الرئيس المصري صراحة وعبر أذرعه الإعلامية إلى عدم الاعتداد بالمفاهيم القديمة للسنة النبوية والاكتفاء بالقرآن الكريم في التشريع والاستنان؛ متذرعا بأن صورة المسلمين أصبحت سيئة حول العالم، وهو الأمر الذي طالما كرّره بتجهم -للغرابة- في عدد من كلماته في مناسبات دينية إسلامية مختلفة، ويبدو أن هذا التعدي على ما اعتبره علماء الإسلام عبر تاريخهم من الخطوط الحمراء التي تُشكّل معنى الإسلام ومبناه هو ما دفع شيخ الأزهر في الاحتفالية الأخيرة بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى دعوة المسلمين إلى “الافتخار بسنة نبيهم”، ومهاجمة دعاوى المتبجّحين على هذه السنة من المستشرقين قديما وأذنابهم حديثا، الأمر الذي اعتبره عدد من المراقبين مواجهة انتقلت بين السيسي وشيخ الأزهر من السر إلى العلن بعد ثلاث سنوات من تصريحات السيسي المتكررة واللائمة في آن.
ومن اللافت أن هذه المواجهة لم تكن الأولى في تاريخ الأزهر منذ إنشائه وانخراطه على المستويين العلمي والسياسي في مصر على السواء، فطالما تورّط مشايخ الأزهر في الحياة السياسية، إما بالمواجهة مع السلطة المستبدة والالتحام بقضايا الشعب وهمومه، وإما بالتوسط للصلح بين الأطراف المتصارعة، لكن كيف كانت ملامح هذا التاريخ الطويل الممتد لأكثر من ألف عام بين مؤسسة الأزهر وبين السلطة في مصر؟ هل كانت العلاقة تقوم على المودة والاعتراف بفضل هؤلاء العلماء ومكانتهم؟ أم أن الأزهر كان يُجبر هذه السلطة على الانصياع لرغباته وشروطه في أوقات الصدام والثورات؟ وهل كان الأزهر يُضطر إلى الانصياع لرأي السلطة وقوتها وبندقيتها؟!
هذا أمر يدعونا إلى الرجوع إلى الوراء والنظر في تاريخ الأزهر، والتأمل في سلوكه مع السلطة، وطبيعة تكوينه واستمراريته وسط ديناميكية الحياة السياسية والاجتماعية في مصر عبر ذلك التاريخ الطويل؛ فقد كان إنشاء الأزهر في الأصل لخدمة المشروع الشيعي الإسماعيلي الفاطمي، حيث بُني الجامع في وسط القاهرة الفاطمية ليكون مركز الدعوة الشيعية في مصر ومنطقة شمال أفريقيا وربما المنطقة العربية كلها، وكان افتتاحه في العام 362هـ/973م خدمة لهذا الغرض، وقاعدة يُنافس بها المشروع السني الذي كانت بغداد عاصمة العباسيين تحمل لواءه.
لكن شيئا فشيئا استطاع علماء السنة في مصر الدخول إلى الجامع، وأصبح لهم حلقات من العلم، وتلاميذ ومريدون، وبدا أن الأزهر أصبح جامعة للمذاهب السنية والشيعية على السواء في ذلك العصر، بيد أن ذلك كان مرحليا، وتحت عين السلطة الفاطمية ومراقبتها الدائمة والدقيقة، وحين جاء صلاح الدين إلى مصر قاضيا على النفوذ الفاطمي، كان الأزهر على رأس المؤسسات التي تُسبب له عائقا أمام مشروع إعادة مصر إلى الإسلام السني من جديد، وقد نجح حين أصدر قراره بإغلاق الأزهر، فظل مُغلقا مئة عام كاملة أنشأ الأيوبيون والمماليك من بعدهم في البلاد عشرات المجمعات العلمية التي كانت تجمع المدارس والمساجد على السواء، وأصبح الأزهر في عصر المماليك لا يتميز كثيرا عما سواه من المدارس[1]، خصوصا مدارس السلاطين مثل المدرسة الصلاحية التي بناها صلاح الدين، والمدرسة الكاملية التي بناها السلطان الكامل، والمدرسة النجمية الصالحية التي بناها السلطان نجم الدين أيوب وغيرها.
حين دخل العثمانيون مصر ودانت لهم في زمن السلطان سليم الأول سنة 923هـ/1517م، فقد صاحبَ هذا الدخول حركة كبيرة من المقاومة، ونهبَ العثمانيون كثيرا من مكتبات القاهرة ومكتبات مدارس المماليك، فأصاب هذه المدارس نوع من التأخر والرجوع، وبدأ الأزهر بسبب مركزيته في قلب القاهرة من الناحية الجغرافية واتساعه، بدأ في احتضان الكثير من العلماء القادمين من المدارس الأخرى، وشيئا فشيئا أصبح الجامع والجامعة الأهلية التي تعكس حال العلوم والمعارف وهموم المجتمع المصري.
ونظرا لهذه المكانة الجوهرية للجامع الأزهر ولمنتسبيه، فقد كان علماء الأزهر لا يُذكرون إلا مسبوقين بلقب “ساداتنا”، فيُقال: “ساداتنا العلماء”، كما كان طلبة العلم المجاورون في الأزهر لا يُذكرون إلا مسبوقين بلقب “السادة”، فيُقال: “السادة المجاورون بالجامع الأزهر”. وقد جاء هذان اللقبان في الفرمانات والرسائل الرسمية، كما دوّنا في السجلات الأميرية والشرعية، كما جاء في منشور قاضي قضاة مصر في 5 ذي القعدة 973هـ/مايو/أيار 1566م أن الأكابر في مصر طبقتان؛ طبقة العلماء، وطبقة الصناجق والأمراء، وقد قدّم قاضي القضاة في منشوره العلماء على الأمراء[2].
في ذلك العصر كان العثمانيون يحكمون البلاد من قِبل والٍ من ناحيتهم فضلا عن بعض الفرق العسكرية “الصناجق” التي كانت تدعم مركزه، لكن القوة الأكبر كانت للمماليك الذين أصبحوا ينقسمون إلى المماليك القاسمية والمماليك الفقّارية، وكثيرا ما وقع بين الجانبين خلافات تستدعي العثمانيين إلى التدخل في حالات القوة، فعلى سبيل المثال في سنة 1071ه/1660م اضطر المماليك الفقارية إلى اللجوء إلى الأزهر خوفا على أنفسهم، فتوسط مشايخ الأزهر عند الوالي العثماني إبراهيم باشا للعفو عنهم، فأصدر عفوا بالفعل، قائلا:
“إن فرمان العفو ما صدر إلا امتثالا لما رآه السادة العلماء الفضلاء”[3]
بل إن مساحة الجامع الأزهر قد تضاعفت في زمن العثمانيين وحكمهم لمصر، ففي سنة 1167هـ/1754م قرر الأمير عبد الرحمن كتخدا القازوغلي توسعة الجامع على ما هو عليه الآن، فقد كان أصغر من ذلك من حيث المساحة[4].
وفي نهاية القرن السابع عشر أصبح للأزهر شيخ يرأس شؤونه، ويرعى مصالحه، وهذا الشيخ في الغالب يكون باختيار من كبار العلماء والفقهاء، وأول من ولي هذا المنصب كان الشيخ محمد بن عبد الله الخراشي المتوفى سنة 1101هـ/1690م وقد خلفه الشيخ محمد النشرتي، وكان الشيوخ الخمسة الأوائل للأزهر الشريف من المالكية ثم أصبح حكرا على الشافعية[5]، بل هناك بعض الدراسات الحديثة تؤكد أن منصب شيخ الأزهر يرجع إلى القرن السادس عشر الميلادي مع بدايات الدخول العثماني مصر، ومع الوقت أصبح شيخ الأزهر ذا نفوذ طاغ يخشاه الأمراء في مصر بمختلف طوائفهم وأعراقهم.
والحق أن نفوذ الأزهر كان قويا بسبب تزايد عدد المنتسبين طلبة وشيوخا خلال العصر العثماني، كما أصبحت رواقات الأزهر محطا للقادمين من الأصقاع كلها، فرواق المغاربة كان للقادمين من بلاد المغرب العربي وغرب أفريقيا، ورواق الصعيد ورواق الشرقية، ورواق الأتراك للقادمين من الدولة العثمانية والأناضول.
الأمر الآخر الذي قوّى من نفوذ الأزهر ومكانته الدينية والسياسية عبر ذلك التاريخ الطويل تمثّل في استقلال الذمة المالية للأزهر من خلال الأوقاف والأحباس والصداقات التي كانت تنهال على طلبته وشيوخه، وأصبحت لكثرتها المورد الأصلي الذي يتكئ عليه الأزاهرة في الإنفاق على أنفسهم وعلى علومهم، دون الاحتياج إلى رجال السياسة والسلطة.
والحق أن الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين لم يجرؤ أحد منهم على تقليص الذمة المالية للأزهر طوال ذلك التاريخ، بل أضافوا إليه من صدقاتهم وأوقافهم، ودعّموه بتجديده وإضافة المكتبات والكتب تيسيرا على طلبة العلم، وبعضهم أسهم في إنشاء أروقة جديدة مثل رواق اليمنيين، ورواق الأحناف لطلبة المذهب الحنفي، وهو الرواق الذي أنشأه الوزير العثماني حسن باشا، وعمّر فيه عدة خزائن ليحفظ بها المجاورون أمتعتهم وأسبابهم، كما قام بتجديد صحن الجامع الأزهر[6].
ومن خلال عنصري التنظيم الداخلي للأزهر الشريف، ولاستقلاليته العلمية والمالية والدينية، تضاعف نفوذه الاجتماعي في القاهرة، بل في الأقطار العربية كلها، وأصبح الأزهر الممثل الحقيقي لطبقات الجماهير من المصريين في الملمات والمصائب، وتعطينا مصادر التاريخ في تلك الحقبة أمثلة لا تُحصى على الانتفاضات الجماهيرية ضد ظلم الولاة والأمراء، وكيف وقف الأزهر الشريف وشيوخه وطلابه وعلماؤه في صف الناس عند حدوث هذه المصائب.
ففي عام 1200هــ/1786م نهب أحد الأمراء واسمه حسين بك وجنوده دارا لرجل من أهل الحُسينية شمال القاهرة يُسمى أحمد سالم الجزار جهارا نهارا، ظلما وعدوانا، فثارت ثائرة الأهالي، وتشاوروا فيما يجب عليهم أن يفعلوه، واتفقوا أخيرا على الالتجاء إلى أقوى العلماء شخصية، وأوسعهم نفوذا، فلم يجدوا إلا الأزهر وإمامه الدردير، فاجتمع الأهالي في اليوم التالي للحادث، ويمموا شطر الجامع، وقصدوا الشيخ وأخبروه، فغضب لاستهتار الأمراء وتعسّفهم ونادى في الجماهير قائلا: أنا معكم، وغدا نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما نهبوا بيوتنا، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم، وأمر الشيخ بدقّ الطبول على المنارات إيذانا بالاستعداد للقتال، حينذاك توافد أهل القاهرة من كل حدب وصوب للاشتراك في المعركة المرتقبة.
حينذاك وصلت الأخبار إلى كبير الأمراء المماليك إبراهيم بك، وبلغه تصميم الإمام الدردير على قيادة الشعب ضد الأمراء، وكان يعلم مقدار ما للشيخ من نفوذ ومكانة على الأهالي، فخشي أن يستفحل الأمر، ويؤدي إلى ضياع سلطته في مصر، فأرسل نائبه ومعه أحد الأمراء إلى الشيخ الدردير، واعتذر له عمّا حدث، ووعد بأن يكف أيدي الأمراء عن الناس، كما قرر توبيخ حسن بك على صنيعه، وطلب منه قائمة بجميع ما نهبه ليأمره برد ذلك إلى صاحبه[7].
وحين كان الأمراء في ذلك الزمان يعترضون على أحكام المشايخ وقضاة الأزهر كانت ثائرة الأزاهرة تقوم على هذا التجرؤ على الشرع من غير أهله، وقد روى لنا مؤرخ ذلك العصر الجبرتي عددا من الحكايات على ذلك، فقد اتفق أن رجلا يُسمى الشيخ عبد الباقي طلّق بنت أخيه من زوجها غيابيا على يد الشيخ حسن الجداوي من مشايخ وفقهاء المالكية لسفر زوجها الطويل وقد تزوّجت غيره.
فحين عاد الزوج الأول من الفيوم، وذهب إلى واحد من كبار الأمراء المماليك أصحاب النفوذ والسطوة آنذاك وهو الأمير يوسف بك الكبير، وكان من أكبر الناقمين على نفوذ الأزهر المتنامي وشيوخه، استغل ما اعتبره حكما جائرا، فكيف تطلق امرأة من زوجها والزوجة لديها ما يكفيها من المال والطعام، وإذا احتاجت إلى شي فوكيله موجود يمكن أن تأخذ منه، فأرسل الأمير المملوكي إلى عمّ الزوجة الشيخ عبد الباقي فضربه ووضعه في الحديد وحبسه في سجن الجرائم.
وحين علم شيوخ الأزهر ما حدث، قاموا فركب الشيخ علي الصعيدي والعدوي والشيخ الجداوي وجماعة كثيرة من المتعمّمين وذهبوا إلى الأمير، وخاطبه الشيخ الصعيدي وقال له: “هذا قول في مذهب المالكية معمول به، فقال الأمير: من يقول إن المرأة تُطلق زوجها إذا غاب عنها وعندها ما تنفقه وما تصرفه ووكيله يعطيها ما تطلبه ثم يأتي من غيبته فيجدها مع غيره. فقالوا له: نحن أعلم بالأحكام الشرعية. فقال: لو رأيتُ الشيخ الذي فسخ النكاح. فقال الشيخ الجداوى: أنا الذي فسختُ النكاح على قاعدة مذهبي. فقام (الأمير) على أقدامه وصرخ وقال والله أكسر رأسك. فصرخ عليه الشيخ علي الصعيدي وسبّه وقال له: لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميرا. فتوسّط بينهم الحاضرون مِن الأمراء يُسكنون حدّته وحدتهم، وأحضروا الشيخ عبد الباقي من الحبس فأخذوه وخرجوا وهم يسبونه وهو يسمعهم”[8].
فهذا الموقف المذهل وغير المعتاد في العصر الحديث الذي حكاه الجبرتي في العلاقة بين السلطة ورجل الدين ما كان لنا أن نتخيل مثله، حيث أجبر رجال الأزهر الأمير المتغطرس صاحب السطوة والمال والعسكر على فك أسر الرجل المظلوم، بل وإهانته في عقر داره، وتعييره بوضاعة أصله كعبد، ويلعنون من اشتراه ومن باعه، وكله كلام يمس بقية الأمراء الحاضرين بشكل مباشر، دون أن يحرّك ساكنا لمعرفته ويقينه بمدى القوة الحقيقية التي كان يملكها رجال الأزهر، بل يتدخل بقية الأمراء لتهدئة رجال الأزهر حتى يعودوا أدراجهم.
حين دخل نابليون بونابرت بقوته الغازية الفرنسية إلى مصر، ثارت البلاد في الوجه البحري والقبلي بكافة طبقاتها وفئاتها لمقاومة هذا الغازي المحتل، ورغم الإصلاحات الظاهرية التي أشار إليها بعض المؤرخين الموالين للغرب، والذين يعتبرون الحملة الفرنسية على مصر فاتحة التنوير والحضارة، فإن الحقيقة التي دوّنها مؤرخ ذلك العصر الجبرتي وغيره أن المصريين وعلى رأسهم شيوخ الأزهر كانوا يدركون تماما أن هذا احتلال ذو أغراض دينية واستعمارية واضحة تمام الوضوح.
لذا، كان الأزاهرة في القلب من ثورتي القاهرة الأولى سنة 1798م والثانية سنة 1800م على نابليون وجيوشه، بل استطاع رجال الأزهر تكوين تنظيم سري لم ينتبه له الفرنسيون قُبيل قيام ثورتهم ضد الفرنسيين، ليكون طليعة في تحريك الأمة وبث روح المقاومة فيها ضد المحتل، يقول نقولا الترك وهو المعاصر لتلك الأحداث: “في ذات يوم نهار الأحد عشرين ربيع آخر نزل أحد المشايخ الصغار وكان من مشايخ الأزهر، وبدأ يُنادي في المدينة أن كل مؤمن موحّد بالله عليه بجامع الأزهر، لأن اليوم ينبغي لنا أن نُغازي في الكفّار، وكان أغلب أهل البلد معهم الأسّ (السرّ) بذلك، أما الفرنسوية فكانوا متغفّلين عن ذلك”[9].
حين دخل نابليون بونابرت القاهرة أنشأ ديوانا ضم جمعا من كبار العلماء والأعوان مشايخ الأزهر ومنهم الشيخ السادات، كان نابليون يجبرهم على الحضور والنقاش، ويحاول إخضاعهم بمشاركتهم الظاهرية للفرنسيين في إدارة شؤون البلاد، لكن الشيخ السادات من الجانب الآخر كان قد أنشأ تنظيما سريا لإدارة مقاومة المحتل الفرنسي.
وحين قامت ثورة القاهرة الأولى في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1798م، كانت ثورة مباغتة تم الإعداد لها جيدا، وأخذ نابليون بونابرت فيها على حين غرة؛ لذا “فقد ثار غضب بونابرت وهو في مقر قيادته بقصر الألفي، فأمر مدفعية القلعة المعزّزة بمدافع الهاويتزر والمورتار بأن تُسدد المدافع إلى الجامع الأزهر وما حوله من أحياء هي مركز الثورة”[10].
كان نابليون يدرك أن مركز الثورة هو الجامع الأزهر ومشايخه، وظل ضرب الجامع بالقنابل من الظهيرة حتى المساء، بل أمر نابليون بأن “يبيد كل من في الجامع”، لكن كبار مشايخ الأزهر رأوا أن يخادعوا نابليون ويركبوا إليه “ليرفع عنهم هذا النازل، ويمنع عسكره من الرمي المتراسل، ويكفّهم كما انكفّ المسلمون عن القتال، والحرب خدعة وسجال”[11].
على أن نابليون استغل هذا الهدوء وطلب الصلح من المشايخ، واستمر في ضرب الأزهر بمدفعيته، وحين أقبل الليل حاصر الفرنسيون الأزهر بثلاث فرق عسكرية مدججة بالسلاح، وكانت الثورة قد هدأت بسبب التفوق العسكري الفرنسي بالقنابل والبنادق الحديثة، واستطاعوا دخول الأزهر أخيرا، معقل الثورة.
يقول الجبرتي: “ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر، وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهّارات، وهشّموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكُتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوّطوا وبالوا وتمخّطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوْها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عرّوه ومن ثيابه أخرجوه”[12].
كانت هذه الحادثة من أخطر الحوادث في تاريخ الأزهر، بل إمعانا في الإهانة رفض نابليون الخروج من الجامع لولا شفاعة واحد من أكبر مشايخ الجامع وهو الشيخ محمد الجوهري، وصارت الحادثة لهولها مثلا على ألسن المصريين حتى قيل: “ودخلت الخيل الأزهر”.
كانت هذه الحادثة قد أسقطت قناع الزيف عن المحتل الفرنسي، وأمر نابليون بإعدام ستة من مشايخ الأزهر الذين خطّطوا وقادوا الثورة، وهكذا استمرت زعامة الأزهر وشيوخه في مقاومة نابليون بونابرت وقواته حتى ارتحل عن مصر مضطرا، وخلفه كليبر الذي لقي مصرعه على يد طالب أزهري قادم من حلب يُسمى سُليمان الحلبي، حتى انجلى الفرنسيون عن مصر في نهاية المطاف.
لم يغب الأزهر وشيوخه عن مشهد ما بعد الحملة الفرنسية، فقد عاد المماليك والعثمانيون يتقاتلون فيما بينهم، وظهرت في تلك الأثناء شخصية محمد علي باشا قائد الفرقة الأرناؤوطية القادمة مع القوات العثمانية لمقاومة الفرنسيين مع المصريين، وقد رأت فيها الزعامة الشعبية والأزهرية على رأسها الشيخ الشرقاوي والشيخ عمر مكرم نقيب الأشراف وغيرهم شخصا نزيها لم تتلوث يداه بدماء المصريين أو بالسلب والنهب الذي اشتهرت به قوات العثمانيين والمماليك حينذاك، لذا بايعه المصريون وعلى رأسهم الشيخ عمر مكرم، شريطة أن يكون طوع أمرهم، وتحت مشورتهم، وهو الأمر الذي قبله محمد علي خداعا منه ودهاء.
لقد رأى محمد علي أن القوة الحقيقية في مصر تتمثل في الأزهر وشيوخه، فراح يُحدث الخلاف فيما بينهم، ويؤلبهم على بعضهم، ويقرب فريقا منهم طامعا في المناصب والأموال على حساب فريق آخر كان يقف مع الحق والجماهير وعلى رأسهم الشيخ عمر مكرم حتى تم له في نهاية الأمر نفيه من القاهرة، ثم تحجيمه وتقزيمه لدور شيوخ الأزهر المتبقين، بل هداه تفكيره إلى أبعد من ذلك لكي يأمن ثورة الأزهر عليه حين استولى على أوقاف الأزهر الشريف[13].
لا شك أن محمد علي حين قوّض مكانة الأزهر الشريف قد ساعد الإنجليز بعد ذلك بسبعين سنة على احتلال مصر بسهولة ويسر، ذلك أنه قضى على مكامن القوة الحقيقية في الأمة المصرية، قوة العلماء وقوة الأزهر وقوة الأوقاف فضلا عن قوة العامة حين جعلها كلها في يد واحدة هي يد الوالي، ومع ذلك كان للأزهر دوره في مقاومة المحتل الإنجليزي وفي ثورة 1919م وعلى مدار القرن العشرين، وبالرغم الحجر عليه بالقوانين المتوالية لا سيما قانون الأزهر في عصر عبد الناصر الذي سحق من قوة الأزهر وألقى بها إلى الهاوية، فقد بقيت المكانة الدينية للأزهر في العالمين العربي والإسلامي، كقوة ناعمة ومؤثّرة، فضلا عن دوره في الحفاظ على الإسلام ونشره والدعوة إليه.
على أن الخطورة الآن تتمثل في أن السيسي فوق ما صنعه محمد علي وجمال عبد الناصر يريد أن يقوّض من دوره الديني في نشر الإسلام، وفي التقييد من مكانة السنة، وفي مقابلتين على الأقل صرح السيسي قائلا: “مفيش حاجة اسمها قيادة دينية موجود لأن المفروض إن رئيس الدولة مسؤول عن كل حاجة فيها حتى دينها (مرددا) حتى دينها”[14]، وذلك قُبيل انتخابه لرئاسة الجمهورية في مايو/أيار 2014م، وفي مرة أخرى بحضور شيخ الأزهر نفسه في العام التالي على انتخابه مؤكدا على المعنى نفسه.
إن المعركة بين السيسي والطيب ليست بين رجل يريد إقصاء آخر لتخلو له الساحة من الزعامات المنافسة في الحقيقة، إنها فيما يبدو أعمق من ذلك، فهي معركة تقويض تأثير الأزهر الديني في الشأن العام الداخلي والخارجي على السواء، حتى على المستوى التعليمي والقيمي من خلال تدخّل السلطة الخشن فيما يجب أن يُدرّس من العلوم الشرعية، بل وفوق ذلك في كيفية فهم النص الديني المقدس، وهو فهم له أصوله وقواعده وعلومه المنهجية المعروفة منذ مئات السنين، وهو ما لم يحدث قط في تاريخ الأزهر فضلا عن التاريخ الإسلامي كله، فلم يجرؤ عليه والٍ أو سلطان أو رئيس طوال ذلك التاريخ، وتلك معركة أكبر وأعظم خطرا من كافة المعارك التي دخلها الأزهر عبر تاريخه الذي مرّ بنا، إنها على الحقيقة معركة البقاء الأخيرة للأزهر!
(المصدر: ميدان الجزيرة)