الإمام البخاري بين سيزكين وأهواء المغرضين
بقلم منذر الأسعد
توفي بمدينة إسطنبول يوم السبت – 16 شوال الجاري/ 30/6/2018م- العلّامة الشهير فؤاد سيزكين، رائد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، ومؤسس ومدير معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية في جامعة يوهان ڤولفغانغغوته في فرانكفورت.
رحل سيزكين عن عمر مديد بلغ أربعة وتسعين عاماً، فاستذكر المثقفون المحترمون سيرته العطرة، وعطاءه العلمي الفذ؛ في حين لجأ أهل الأهواء إلى الدس والتضليل!
السبق الحضاري الإسلامي
استأثر هذا المضمون بجهود البروفسور سيزكين وقد أثبته بالأدلة القاطعة، عبر مشواره العلمي المميز.
ومن ذلك قيامه بإثبات أن خرائط العالم والخرائط الجزئية الأوروبية حتى بداية القرن الثامن عشر الميلادي ترجع إلى أصول عربية، ففي عهد الخليفة المأمون في بداية القرن التاسع الميلادي قام نحو 70 جغرافيًّا مسلماً برحلة استغرقت عدة سنوات جالوا خلالها في السفن وعلى ظهور الخيول والفيلة مختلف أرجاء إفريقيا وأوربا وآسيا.
كما دافع سيزكين بشدة عن مبدأ وحدة العلوم، واعتبرها تراث البشرية العلمي الذي ينمو على دفعات متواصلة، وكان يرى مهمته في أن يبين مساهمة العرب فى تاريخ العلوم العام، ويبين ذلك للمسلمين أنفسهم كي يمحو من نفوس كثير منهم عقدة الشعور بالنقص أمام الغربيين.
بدأ سزكين بتعلم اللغة العربية جيداً الى حد أنه أصبح في الفصل الدراسي السابع يتحدث بها مع أساتذته. وتحت اشراف هلموت ريتر، حصل في عام 1954 على الدكتوراه بأطروحة عنوانها “مصادر البخاري”. تدفع بأنه، خلافاً للاعتقاد الشائع بين المستشرقين الاوروبيين، فإن المجموع من الحديث في صحيح البخاري كان يعتمد على مصادر مكتوبة تعود إلى القرن السابع الميلادي وكذلك على التواتر الشفهي.
رحلة مضنية ومضيئة
وأصبح سيزكين أستاذاً في جامعة إسطنبول عام 1954، وكان اهتمامه منذ وقت مبكر بنشر التاريخ الحقيقي للعلوم العربية في العصر الذهبي الإسلامي وتأثيرها على بلاد الغرب.
فى عام 1961 كان العالم الشاب قد اختار ألمانيا موطناً جديداً له. وبدأ العمل على تحقيق حلمه في جمع وإعادة نشر تاريخ العلوم العربية. في بادئ الأمر كتب بجامعة فرانكفورت عمله الاول للحصول على لقب برفسور في تاريخ العلوم الطبيعية، وسرعان ما أدرك أن جامعة فرانكفورت لا تلبي رغبته لتنفيذ خططه، وبعد ذلك بسنتين، أي عام 1963 أصدر المجلد الأول من (تاريخ التراث العربي) التي وصل عددها إثني عشر مجلداً في علوم العرب التي شملت العلوم الأدبية والطب و الكيمياء و الجغرافيا، ويعد أهم مستدرك لكتاب أستاذه الشهير كارل بروكلمان (تاريخ الادب العربي).
سعى لدى الدول العربية إلى تطبيق فكرته الداعية الى تأسيس معهد دولي متخصص بتاريخ العلوم العربية الإسلامية، وقد شارك أربعة عشر بلداً عربياً فضلاً عن المنظمات والاصدقاء والمشجعين من العالم الإسلامي بالتبرع بثلث الأموال المقترحة كرأسمال أولي للجمعية ومنها العراق، وتبرعت الكويت وحدها بتأسيس المبنى المناسب قرب الجامعة وتجديده بالشكل الذي يلبي متطلبات المعهد.
وفي عام 1982 تم تأسيس (معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية) التابع لجامعة فرانكفورت، وقد منحه رئيس المانيا وسام الاستحقاق من الدرجة الاولى في نفس العام، وفي سنة 1978 كان أول شخص يحصل على جائزة الملك فيصل للعلوم الإسلامية، وفي سنة 1979 حصل على ميدالية غوته من مدينة فرانكفورت.
شجاعة الرجوع إلى الحق
كان سيزكين في رسالته للدكتوراه قد تجنى على الإمام البخاري ربما لحداثة سنه، وتأثره يومئذ بمناخ الاستشراق. فقد ادعى أن البخاري في”الصحيح الجامع” برهن على أنه ليس عالم الحديث الذى طوَّر الإسناد، بل هو أول من بدأ معه انهيار الإسناد، وأن الأسانيد ناقصة فينحو ربع المادة، وقد أطلق على هذا الأمر، ابتداء من القرن الرابع، اسم “التعليق” (وهو اختصار الإسناد بحذف بعض شيوخ المصنف….).
وقد رد عليه أكثر من باحث متخصص ردوداً علمية مؤصلة، ومنهم الدكتور أكرم ضياء العمري والدكتور نجم عبد الرحمن خلف الذي يذكر في كتابه (استدراكات على تاريخ التراث العربي لفؤاد سيزكين في علم الحديث) يذكر أن الراحل تراجع عن غلطه فعمد إلى حذفه من كتابه.
لكن المغرضين استغلوا نبأ وفاة سيزكين ليزعموا أنه انتقص من البخاري، لغاية خبيثة يظنونها خافية على الناس، متجاهلين تراجع الرجل الشجاع عن خطئه.
(المصدر: موقع المسلم)