الإلحاد وفشل التجربة الإسلاميّة في الحكم
بقلم الشيخ محمد خير موسى
قبلَ أن يثورَ أحدٌ من العنوان فيقول هو إفشالٌ لا فشل، فيردّ عليه آخر بلْ هو فشلٌ ذريع، فيتوسّط ثالثٌ فيقول:هو اجتماعٌ بين الفشل والإفشال، أؤكّد لكم أنّ هذا النّقاش لا علاقةَ له بمقالنا هذا، فالذي يهمّنا هو النّتيجة التي وصلت إليها التّجربة عَقِب ثورات الرّبيع العربيّ وأثرها في بروز ظاهرة إلحادِ ما بعد الثّورات.
فعقب الانهيار المتسارع للحكّام في بعض بلاد الثّورات وعلى وجه الخصوص تونس ومصر، أو فقدان النّظام سيطرته على أجزاء من البلاد كما في سوريا، ظنّت الجماهير ونسبةٌ لا بأس بها من النُّخب معها أنّ الأنظمة الاستبداديّة انهارت، وأنَّ شمس الإسلاميّين أَشرقت لتمحو دياجير الظّلم والاستبداد.
غيرَ أنّ الفشل الذّريع كان هو المآل السرّيع الذي مُنيَت به الحركة الإسلاميّة بعد الثّورة المضادّة ممّا ساهم في بروز وإذكاء ظاهرة الإلحاد لأسباب عديدة نحاول الوقوف على بعضها.
التّمكين.. كان صرحًا من خيالٍ فهوى:
فور إعلان نتائج الانتخابات البرلمانيّة والرّئاسيّة في مصر عقب ثورة 25 يناير، ونجاح الحركة الإسلاميّة بمكونّها الرّئيس “جماعة الإخوان المسلمين”، ومعها حلفاؤها من الجماعة الإسلاميّة وبعض التّيارات السّلفيّة، أصابت نشوة النّصر عموم الإسلاميين في العالم ورأوا في استلام زِمام الحكم في دولةٍ عظيمة مثل مصر تتويجًا لعصر الإسلاميين القادم والذي ستكون له الكلمة العليا في كلّ من تونس واليمن وليبيا.
كما تعاملت بعضُ الفصائل الإسلاميّة في سوريّة مع المناطق التي أَحكمت سيطرتها عليها بعد فقدان النّظام لها على أنّها نواة دولة ما بعد الأسد، ومارست فيها طقوس السّلطة المــمَكَّنة، وكانت تدعم هذه الممارسة بالتّأصيل لمفهوم التمكين في هذه البقاع الجغرافيّة اليسيرة.
ولكنّ الخطورة تكمُن في نوع الخطاب المستخدم في مرحلة ما بعد استلام الحُكم أو السيطرة على المناطق، سواءً في الخطاب الدّاخلي في أوساط الجماعة الأمّ أو في أوساط الإسلاميين عمومًا أو في خطابات الفصائل وخُطب شرعييها.
هذا الخطاب كان تعبويًّا مشحونًا بعاطفةٍ عالية جدًّا، يرتكز على أنّ الإسلاميين عمومًا والإخوان على وجه الخصوص في مصر أو الفصائل ذات التّوجّه السّلفي في مناطق عدّة في سوريا قد وصَلوا إلى مرحلة التّمكين، هذه المرحلة التي تؤهّلهم تحقيق مهمّتهم وهي الاستخلاف في هذه الأرض وعمارتها.
كان الخطاب الذي يتوجّه من نخب الجماعات إلى قواعدها ويتبنّاه دعاتها يوهم الشّباب بالتّمكين الذي لم يكن الإسلاميّون يملكون منه في الحقيقة إلّا صورته أو بعضَ صورته.
كان الخطاب حالمـًا، سَكِرَ متبنّوه وأسكروا غيرهم بزبيبة، وغرقوا بشبرِ ماءٍ، لكنّهم أغرقوا شريحةً من الشباب في بحارٍ متلاطمةٍ من الخيبات والصّدمات.
إنَّ وهم التّمكين الذي عاشته الحركات الإسلاميّة عقب ثورات الرّبيع العربيّ ورسّخته في الشباب من خلال خطاب متكرّر كانت آثارُه السّلبيّة متجاوزةً حدود الكيان والجماعة والتّنظيم إلى الفكرة ذاتها.
فعندما وقع الانقلاب في مصر وَجَد الشّبابُ أنفسَهم أمام صرحٍ شامخٍ بنَوه في عقولهم وشيّدوه في نفوسهم وأرواحهم ليتهاوى على رؤوسِهم ويختنقوا بغبار أنقاضه الذي حجب عنهم الرّؤية وأدخلهم في متاهة جديدة من أسئلةٍ لا تنتهي عن مدى صدق كلّ ما سمعوه عن النّصر والتّمكين والاستخلاف.
إنّ غياب الواقعيّة في خطابِ ما بعد الوصولِ إلى الحُكم، والمبالغة في التوصيفات، وتوهّم الانتقال من المرحلة المكيّة إلى المرحلة المدنيّة، ورسم الأحلام الورديّة للشّباب الحالم بدولةٍ عُمَريّةٍ عقب الدّولة الفرعونيّة، كلّ ذلك ساهم في حدّة الصّدمة وعُنف ردّة الفعل وهم يرون الرّئيس محمّد مرسي يُقاد إلى المعتقل، والسّيسي يقلب الطّاولة على أوّل انتخاباتٍ حقيقيّة في تاريخ مصر، وكذلك وهم يرون الفصائل الإسلاميّة تسلّم أسلحتها للنّظام وتغادر في الباصات الخضراء تاركةً كلّ بقاع التّمكين السّابقة لبشّار الأسد وجنوده.
خطاب المنصّة:
وخطاب المنصّة ليس خاصًا بواحدةٍ من الثّورات أو منحصرًا في بقعةٍ جغرافيّة واحدة، فاعتصام رابعة ومنصّته كانت أشهر المنصّات، وكذلك المنصّات الواقعيّة والإعلاميّة الافتراضيّة في المدن والحواضر التي اصطلح على تسميتها “المناطق المحرّرة” في سوريا.
في هذه المنصّات كان الخطابُ الذي تضخّه الجماعات والحركات والفصائل الإسلاميّة -المقاتلة منها والمدنيّة على حدٍّ سواء- خطابًا يزخر بالتقريرات غير الحقيقيّة والتأكيدات غير الصحيحة.
وتكادُ تجدُ خطابَ المنصّة واحدًا في مختلف البقاع وعلى اختلاف التوجهات سواء الإخوان المسلمين والسّلفيون في مصر أو الفصائل الإسلاميّة التي يغلب عليها الطّابع السّلفي في سوريا.
ومن ذلك الحديث عن نزول الملائكة لمشاركتها المعتصمين في رابعة أو مشاركتها القتال إلى جانب الفصائل المسلّحة في سوريا، وكذلك تأكيد الخُطباء وقسمهم بالله العظيم أنّ الله سينصرهم وأنّ النّصر لا محالة واقع، وأنّ السّيسي لن ينتصر عليهم وبشّار الأسد لن يقوى على الوقوف في مواجهتهم، وتأكيدهم على رؤية النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- في منامات كثيرة وهو يشارك المعتصمين في رابعة أو يقاتل مع المقاتلين في الغوطة أو رؤيته على ظهر فرسه قادمًا ليفكّ الحصار عن حلب.
وكذلك القيام ببعض الطّقوس ذات الدّلالة الإسلاميّة مثل ارتداء الأكفان في ميدان رابعة، أو المبايعة على الموت في الغوطة وحلب وغيرهما.
وكذلك استحضار النّصوص الشّرعيّة والحوادث التّاريخية وإسقاطها على وقائع بعينها لا تشابهها ولا تقاربها لا من حيث الشّكل ولا المضمون ولا الظروف المحيطة، كاستحضار غزوة بدر وحوادثها على منصّة رابعة مؤكّدين على أنّ رابعة هي يوم الفرقان في هذا العصر، وأنّ هذه الفئة القليلة المؤمنة ستغلب الفئة الكبيرة المعادية التي يمثّلها السّيسي وجنوده، وكاستحضار مفهوم “الملحمة الكبرى” المرتبط بالغوطة الشّرقيّة في الحديث النّبويّ عند الحديث عن معركة الغوطة في وجه النّظام السّوري.
ولا تكمن المشكلة الحقيقية في استحضار النّصوص الشّرعيّة والحوادث التّاريخيّة من حيث المبدأ فهذا أمرٌ طبيعيٌّ في الخطاب الدّعوي، وإنّما تكمن في طريقة معالجة هذه النّصوص والتّعامل معها من جهة، وبناء مواقف ونتائج وأحكام مستقبليّة قطعيّة عليها لوقائع معاصرةٍ بعينِها من جهة أخرى.
وكذلك فإنّ هذا الخطاب الذي يبشّر بالملائكة ومساندة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- في المعركة ويدعو أتباعه للبس الأكفان واستعذاب الموت في سبيل الله تعالى، هو خطابٌ تجييشيّ يحتاجه النّاس في ساحة المواجهة، غير أنّه افتقر إلى الرؤية الواقعيّة التي ينبغي أو تلازمه، والتي تضع بين أيدي الشّباب السيناريوهات المحتملة وآليّات التّعامل مع كل واحد من هذه السيناريوهات.
وكما يفتقرُ هذا الخطابُ إلى الرؤية الواقعيّة فإنّه خطابٌ مشحونٌ بلا آليّات عمليّة لتنفيذ هذا الشّحن العاطفي، فالمتلقّي في الميادين وهو يستمع إليه يطاول الجوزاء ويحلّقُ في الفضاء ويعيشُ نشوة النّصر، لكنّه سرعان ما يجد نفسَه معلَّقًا في الهواء بلا آليّات تنفيذيّة.
وعندما ينهار كلّ شيءٍ ويجد الشّباب نفسه في محرقةٍ لا تبقي ولا تذر، ويرى أرض التمكين تُنقَصُ من أطرافِها، ولا يجد شيئًا ممّا قيل له من يقينيات النّصر والإمداد، فإنّ ردّة الفعل لن تكون هادئةً على الإطلاق، وستتجاوز الكفر بالأشخاص إلى الكفر بالأفكار ومنابعها، وهكذا تكون خطابات المنصّة اللَّاهبة أحد أسباب النّكوص عن الدّين كلّه وبروز ظاهرة إلحاد ما بعد الثّورات.
صدمةُ الشّعار:
بعد رابعة التي كانت موقفًا مفصليًّا في مواجهة الشّباب مع أفكارهم شعرَ كثيرٌ من الشّباب بالصّدمة البالغة مع ارتفاع شعار “سلميّتنا أقوى من الرّصاص“.
ووجهُ الصّدمة كان من جهات عدّة:
أوّلها: أن يكون القرار بالمواجهة السّلميّة بعد هذا السّيل من الدّماء والجثث التي جرّفتها الجرافات في رابعة، وما يجري في السّجون مما تشيب له الولدان.
وثانيها: أنّ هؤلاء الشّباب الذين تربّوا في ساعات الرّخاء على شعارات “الجهاد سبيلنا” و”الموت في سبيل الله أسمى أمانينا” طُلبَ منهم في المحنة وعند شعورهم بأنّ الوقت حان لتنفيذ الشّعارات التي تربّوا عليها أن يرفعوا شعار “سلميّتنا أقوى من الرّصاص”.
وشعر الشّباب أنّ عليهم كسر السّيفين اللّذين يحملهما شعارُ جماعة الإخوان المسلمين في أشدّ ساعات الاحتياج إليهما.
ونحن هنا لسنا في موضع تغليب جانبٍ على آخر من أنواع المواجهة السلميّة أو العسكريّة، فلذلك مواضع نقاشه الخاصّة به، وهي آليّاتٌ يتم التعامل معها بناء على الاحتياج والملاءمة الواقعيّة.
لكن ما يجب التّنبّه له هو أنّ العدول عن خطاب بنائيٍّ طويل الأمد إلى خطابٍ مناقضٍ له من حيث الظّاهر بطريقةٍ فجائيّةٍ غير ممهّدٍ لها يصيب المتلقّي بالصّدمة البالغة والخيبة العميقة.
إنّ أحاديّة الخطاب البنائيّ، ورفعُ مستوى وسقف الخطاب، وقصر مفهوم الجهادِ على القتال، وعدم توضيح فلسفة الخيارات البديلة للمواجهة، وضعف التّواصل بين النّخبة القياديّة والقواعد الشّبابيّة، وانحسار التّوعية الشّاملة لصالح الشّحن العاطفي في الأزمات، كلّ ذلك يساهم في الخيبات العميقة عند تبدّل المواقف بناء على ما يقتضيه الواقع أو الظّرف.
وتتحوّل الخيبة إلى ضرب من الخذلان وربّما شعورٌ بالخيانة عند عدم وجود إجاباتٍ واضحة ومبرّرات مقنعة وخطابٍ علاجيّ عاجل راشدٍ متوازن.
كما ينبغي أن يترافق ذلكَ باعترافٍ واضحٍ بمواطن الخلل وبيانها وإقرارِ المتسبّبين بها واعتذارهم مهما كان مكانهم ومكانتهم في صدارة المشهد، فالنّاس يقبلون من المعترفِ بخطئه ويعلو شأنه في أعينهم ويزدادُ إيمانهم به، لكنّهم مع المكابر المصرّ على المواقف التي أورتهم الموارد، فإنّهم يكفرونَ به وبما يحملُه من أفكار ويكون وبالًا على الفكرة كلّها من حيث لا يحتسب.
(المصدر: موقع “على بصيرة” نقلاً عن الجزيرة)