الإلحاد والنموذج المُتخيل
بقلم الشيخ محمد خير موسى
عند الحديثِ عن الإلحاد، لا سيما إلحاد ما بعد ثورات الرّبيع العربيّ، يلحّ على المرء استحضار “النّموذج” الذي اشرأبت إليه أعناق الشّباب وعانقته أحلامهم قبل اندلاع الثّورات.
والنّموذجُ نقصَد به ما استقرّ في عقول ونفوس الشّبابِ مثالًا تصبو إليه نفوسهم ويرتسمُ في مخيّلاتهم ويترسّخ في أعماقهم بديلًا للواقع المرّ ومنقذًا من جحيم الاستبداد، وقد يكون هذا النّموذج جماعةً أو كيانًا أو فصيلًا أو دولة.
النّموذَج المُتخيّلُ السّابق للثّورات:
قبلَ قيام الثّورات قام الشّباب بهندسة نموذجهم البديل لما هم فيه من دياجير الظلم وظُلمات القهر ودركات الانحطاط والتّخلف مستندين إلى أمرين اثنين:
الأمر الأوّل: المخزون التّاريخي الزّاخر بالأمثلة والعصور التي يتمّ وصفها بعصور العزّة والازدهار.
ويقوم هذا المخزون على قراءة مثاليّة للتّاريخ وأحداثه، قراءة أحاديّة النّظرة تسلّط الضّوء على الإيجابيّات وتغفل السلبيّات وتتغافل عنها، ممّا يجعل تلك العصور حُلمًا ورديًّا مقارنةً بالعصور الحاليّة، ويغدو الحلم هو استعادة ذلك التاريخ المجيد بما يقدّمه من نموذج منقذٍ من كلّ الأدواء التي فرّخت في أرض القهر والاستبداد.
والأمر الثّاني: هو الوعود التي يقدّمها من يعرّفون أنفسهم بأنّهم “أبناء المشروع الإسلاميّ” استنادًا إلى هذا المخزون التاريخي بتحقيق النّموذج الحلم المتمثّل بقيام دولة الإسلام وحُكم أهل الشريعة وريادة أصحاب الوجهة الإسلاميّة بعد أن اكتوى النّاس عقودًا بنار التّجربة الاستبداديّة التي تقدّم نفسها في غالب الوقت على أنّها بنت التوجّه العلماني.
وما أنْ اندلعت الثّورات حتّى غدا هذا النموذج الحُلم واقعًا مأمولًا، وأصبحَ السّدّ المانع من تحقيقه -الأنظمة الحاكمة- يتهاوى تحت أقدام الثّوار وهدير حناجرهم وقتالهم لأجل حياةٍ جديدةٍ فيها الكثير من الخيال المستقبليّ.
سقطت الأنظمة وتصدّر النّموذج المُتخيّل المشهد بل صدّره النّاس تحقيقًا لحلمٍ طويل الأمد، فغدا “أبناء المشروع الإسلامي” بتوجهاتهم المختلفة هم أهل الحكم في عددٍ من البلدان كما هو الحال في تونس ومصر، وهم أهل السيطرة العسكريّة على الأرض كما هو في بعض المناطق السّوريّة.
كما تصدّر النّموذج بوصفه دولةً المشهد على شكل دولة ٍ تقيم الحكم الإسلاميّ وتصدّر الشّريعة ويطلق على حاكمها لقب الخليفة ويطلق عليها اسم “الدّولة الإسلاميّة”.
وما إن تصدّر هذا النّموذج حتّى انقشع الحُلم ووجد الشّباب النّموذج الذي تخيّلوه عاجزًا عن تحقيق ما رسموه في خيالهم الثّوري، كما وجدوه عندما احتكّ بالواقع على خلاف ما بنوه في عقولهم وخلاف ما صوّر هو نفسه وقدّمها لهم.
مّا تسببّ بصدمة وخيبة انسحبت إلى رفض المرجعيّة الفكريّة لهذا النّموذج؛ لا رفض النّموذج نفسه فحسب، وقد تجلّت هذه الخيبة في نقاط عدّة منها:
صورة عمر لا عدله:
أوّل نموذجٍ يستحضره النّاس عند الحديث عن حُكم “الإسلاميين” على اختلاف توجّهاتهم هو النّموذج العمريّ، عمر بن الخطاب، الذي تحققّ في عهده العدل بأجلى صوره حتّى صار هو أيقونة العدل في الفِكر الإسلاميّ.
وعندما يحكم الإسلاميّ فإنَّ النّاس ينتظرون منه نموذج عمر ويحاسبونه عليه، من دون مراعاةٍ لتعقيدات المشهد ذاته والتعقيدات المحيطة به، كما يسعى الإسلاميّ نفسه ليكون نموذجًا عمريًّا لكنّه يفشل في ذلك لأسباب كثيرة موضوعيّة وطبيعيّة.
لكنّه في خضمّ هذه المحاولات يقدّم نموذجًا جديدًا مختلفًا لا يتجاوز الصّورة العمريّة في أحسن الأحوال، مثال ذلك أن يخرج إلى صلاة الفجر دون حرس، وأن يشارك النّاس مناسباتهم، أو يكون موكبه متواضعًا غير معهود عند الجماهير ويوقف هذا الموكب لأجل حديثٍ مع امرأة عجوز أو فقيرٍ محتاج.
كلّ هذه الصّور قد فعلها الرّئيس محمّد مرسي عند استلامه الحُكم، وهو لم يفعلها متكلّفًا أو ممثّلًا كما هو حال الكثيرين ممن يصلون الحُكم وإنّما فعلها على سجيّته وطبيعته.
وعندما يقدّم النّموذج المتخيّل هذه الصّور فإنَّ أتباعه ومحبّيه يطيرون بها فرحًا فيتمّ التعامل معها بمبالغةٍ تستحضر عمر -رضي الله عنه- من جديد، ممّا يجعل المتابعين يترقّبون العدل العمري والفتوحات العمريّة.
لكن سرعان ما تخيب هذه التّوقّعات، ويكتشف النّاس أن هذا النّموذج الذي تخيّلوه طويلا لم يستطع أن يقدّم لهم الكثير ممّا طمحوا إليه، ولأنّ الإنسان خلق عجولًا فيتمّ التعامل مع هذا النّموذج باستعجال كبيرٍ لتحقيق سقف التّوقّعات المرتفعة، وعند الخيبة تكون ردة الفعل اتّهام النّموذج بالفشل واتّهام مرجعيّته الفكريّة بالفشل وعدم القدرة على فعل شيء.
علمانيّة بلحية وحجاب:
يتخيّلُ الشباب أنّ نموذجهم الذي أفرزته الثّورة سيأتي لينسفَ كلّ المنظومة التي عانوا من استبدادها وقتًا طويلًا، وأنّه سيبسط منظومة العدل والحُكم والإصلاح الإسلاميّ التي حلموا بها وتغنّوا بها وهتفوا لها طويلًا.
لا سيما أنّ هذا النّموذج نفسه طالما هاجم المنظومة الموجودة التي تقدّم نفسها على أنّها منظومة علمانيّة، وبيّن لهم أنّ سعادة الدّارين تكمن في نظام الإسلام.
لكنّه عندما تولّى الحُكم وجدَ نفسه جزءًا من هذه المنظومة التي طالما هاجمها، مضطرًا للتعامل معها والعمل بموجبها، فما كان منه إلّا أنْ باشر “أسلمة” هذه المنظومة، لكنّها أسلمةٌ لا تتجاوز الشّكل الظّاهري مع الإبقاء على أصل المنظومة.
وجدَ نفسَه مضطرًا للسير في ركاب هذه المنظومة لكنّه سارع إلى إلباسِها لحيةً وحجابًا، مهتمًّا بمظهرها الإسلاميّ مع عدم القدرة على تغيير حقيقتها العلمانيّة، بل بالدّفاع عنها أحيانًا من حيث لا ينتبه.
لكنّه بهذا ساهم في انقشاع نموذجه المتخيل، فعاين الشّباب عجزه على التغيير ممّا ساهم برمي مرجعيّته الفكريّة بالقصور.
وكان الأجدر بهذا النّموذج أن يقدّم خطابًا واقعيًّا قبل تولّيه دفّة المسؤوليّة، وأنْ يصارح النّاس بعد تولّيه ويضع كلّ إمكاناته بين أيديهم دون وعودٍ حالمة، ومحاكاةٍ للنّماذج التّاريخيّة التي تزيده إغراقًا في الخيال.
فسادٌ واستبدادٌ في المُمارسة:
من الطّوام الكبيرة التي حلّت عقب الثّورات هو ما انكشف للشباب من صورِ استبدادٍ وفسادٍ طالت النّموذج الذي طالما تخيّلوه مُنقذًا وحلموا به مخلِّصًا.
فبعد أن تولّى النّموذج المتخيّل من جماعاتٍ أو فصائل دفّة القيادة والسيطرة في مناطق مختلفة بدأ يمارسُ أفعال المستبدّ الذي فقد سيطرته أو تهاوى نظامه، على اختلاف في درجات ذلك ونوعيّته.
فانتشرت المحسوبيّات الحزبيّة وتقديم أبناء الجماعة والفصيل على غيرهم في الأعمال والوظائف والفرص وحتّى توزيع المساعدات والإغاثة، ممّا أشعر الشباب بغياب العدل وعودة الفساد لكنّه هذه المرّة بصورة أشدّ قسوةً ووطأةً على النفس حيث أنّه جاء على شكل خيبةٍ تورثُ انقشاعًا للنّموذج وقناعةً بالتّشابه بينه وبين المستبدّ الذي تمّ التخلّص منه، فتعلو عبارة “كلهم مثل بعض”
ووصل الأمر إلى ممارسة فنون من الاستبداد والقهر في بعض الحالات ممّا جعل النّاس تكفر تمامًا بهذا النّموذج كما في يعض المناطق السوريّة عندما أقامت بعض الفصائل التي ترفع الشّعار الإسلاميّ سجونًا مارست فيها أبشع أنواع التعذيب، ومارست الاضطهاد بفنونه المختلفة، حتّى علا صوت النّاس قائلين: “كنّا ببشّار صرنا بألف بشّار”.
وبعضُ هؤلاء حاول محاكاة المستبدّ في المناطق التي سيطر عليها من خلال استعراضات عسكريّة تشبه إلى حدّ كبير استعراضات جيش النّظام السوري الذي يقاتله، ومارس بعض الطّقوس مثل إصدار عفوٍ عن المسجونين لديه ليلة العيد أو مع أوّل رمضان، ممّا عزّز في الأذهان تشابه هذا النموذج الذي تخيّله الشباب بديلًا للمستبدّ مع المستبدّ ذاته.
النّموذج الكابوس:
بعد أن تهاوت العروش في دول مثل ليبيا وارتخت قبضة النظام كما في سوريا والعراق تقدّم النّموذج المتخيّل ليقيم النّموذج البديل كما تخيّله أفراده مغرقًا في التاريخيّة.
فأنشأوا دولة الخلافة وأطلقوا على حاكمها لقب الخليفة، وارتدى جنود الخلافة لباسهم كما هو الحال في المسلسلات التاريخيّة، في استحضار دراميّ للتّاريخ.
وكما كان هذا الحال في مناطق سيطرة داعش كذلك كان الحال في مناطق سيطرة عدد من الفصائل الإسلاميّة المختلفة وإنْ كان بدرجات متفاوتة وصيغ مختلفة، لكنّها جميعها تتفق في استحضار المظهر الإسلاميّ عنوانًا لمرحلة النّموذج الجديد.
وسرعان ما قدّم كثيرٌ من هؤلاء لا سيما داعش والقاعدة الإسلام بصورة دمويّة تعافها النفس البشريّة وتأباها الفطرة السليمة، فكان هذا النموذج من أكثر النماذج المتخيّلة بؤسًا حيث تحوّل الحلم إلى كابوسٍ مرعب.
ومثله كذلك ما جرى بين هذه الفصائل من اقتتال دمويّ أودى بالنّموذج المتخيّل إلى الهاويّة، وجعل الفكرة الإسلاميّة تسيل دماؤها برصاص “الإسلاميين” المقتتلين، وغدت هشّةً في نفوس الشباب بعد أن تهاوى النّموذج الذي تخيّلوه بديلًا لاستبداد ثقيل.
وهنا لا بدّ أن يمتلك أصحاب هذا النّموذج على اختلاف مدارسهم الجرأة الحقيقيّة لمراجعة أنفسهم مراجعات منهجيّة عميقة، يضعون فيها أصابعهم على مكامن الدّاء ويقفون مع أنفسهم ألف مرّةٍ قبل تقديم نموذجهم للشباب بشكلٍ اعتباطيّ دونما منهجيّات واضحة تتلافى كلّ ما أدّى إلى انقشاع النّموذج حينًا وتهاويه حينًا آخر وتحولّه إلى كابوسٍ في حينٍ ثالث.
الهروبُ من المُتَخيَّل إلى المُتَخيَّل:
بعد أن انقشع الحُلم، وشعرت شريحةٌ من الشّباب بالخيبة من النّموذج الذي لم يقدّم لها بديلًا حقيقيًّا أو حتّى مغايرًا للاستبداد؛ سارعت بالهروبِ إلى نموذجٍ جديد.
جاء الهروبُ إلى نموذجٍ جديدٍ بسبب النّمطيّة التي عاشتها هذه الشريحة من الشباب وهي ضرورة وجود النّموذج الحًلم، وكأنَّ المرء قدره أن يستلهم نموذجًا يعيشُ في ظلاله.
فكان الهروب في بعضه إلى نموذجٍ إلحاديّ تخيّلَ الهاربون إليه أنّه القادر على تحقيق الحلم بعد فشل النّموذج المتخيّل الذي يحمل الفكرة والهويّة والصّبغة الإسلاميّة.
والإشكال في هذا الهروب أنَّه كان هروبًا من نموذجٍ متخيَّلٍ إلى نموذجٍ جديدٍ متخيَّلٍ أيضًا يفوق في استحضار الحالة الحالمة ما في النّموذج المتخيّل السابق.
حيث يحلم الهاربون إلى هذا النّموذج الإلحادي المُتخيَّل بتحقيق مطامحهم في التحرر والازدهار والتخلص من العبوديّة من خلاله.
وفي الحقيقة أنّهم بذلك يبقون في دائرة الخيال يدورون في حلقة مفرغة لن يخرجوا منها إلّا بالتّعامل مع النّماذج كما هي عليه في الواقع لا كما هي في خيالاتهم الحالمة.
كما أنَّ هذا يستدعي بثّ الوعي في أوساط الشّباب للتعامل بواقعيّةٍ مع النّماذج المختلفة وتمليكهم أدوات ذلك، وإلّا بقيَ هؤلاء الشّباب يعيشون في تيه البحث عن الواقع في غياهب الأحلام.
(المصدر: موقع “على بصيرة” نقلاً عن الجزيرة)