الإلحاد والعنف.. كيف صنع ملحدون أهم مجازر العالم وحروبه؟
بقلم إسماعيل عرفة
“إن بعض المعتقدات خطيرة جدا لدرجة أنه من الممكن أن يكون قتْلُ الناس الذين يعتقدون هذه المعتقدات فعلا أخلاقيا”[1]
(سام هاريس)
عند تناول قضية الإلحاد، ثمة خطأ شائع كما يوضح الكاتب عبد الله الأندلسي، وهو الاعتقاد بأن الإلحاد يقابله الدين، إلا أن الحقيقة تتمثل باعتبار الإلحاد Atheism يعني الاعتقاد بعدم وجود الله، ونقيضه هو الربوبية Theism أي الاعتقاد بوجود الله. وعليه، يشير الأندلسي إلى أن الاعتقاد بوجود الله أو عدم الاعتقاد بوجوده لا يؤدي وحده إلى التغير في السلوك، وإنما يتغير السلوك سلبًا أو إيجابًا بما يتبع هاتين الفكرتين من رؤى كونية ومقولات ونظم اعتقادية.
بذلك، لا تمثل حالة الاعتقاد بوجود الله مسببا مباشرا لوجود الرؤية الكونية، حيث لا تنبع تلك الرؤى من فكرة وجود الله مجردة، بل لا بد لها من استناد إلى الدين والشرائع المختلفة اللاحقة لهذا الإيمان. الأمر ذاته ينسحب في حالة الإلحاد، فالرؤية الكونية تنبثق من الفلسفات المادية التي تستبعد التدخل الإلهي في الكون وتقرير مصائرنا كبشر، كالشيوعية والداروينية الاجتماعية والفاشية وغير ذلك. يؤكد الأندلسي ما سبق بقوله: “لا يوجد مؤمن يقتل باسم (وجود الله)، لكنه يقتل باسم الدين، وكذلك لا يوجد ملحد يقتل باسم (عدم وجود الله) وإنما يقتل الملحد باسم الفلسفات المادية والرؤى الكونية التي يؤمن بها تبعًا لإلحاده”[2].
العلاقة الفلسفية تلك بين الإلحاد والجرائم التي يرتكبها معتنقوه، اختصرها الكاتب الأمريكي دينيش دسوزا: “ارتكبت جرائم الإلحاد عمومًا من خلال أيديولوجية متغطرسة ترى أن الإنسان هو صانع القِيم وليس الله. فباستخدام أحدث تقنيات العلم والتكنولوجيا، يسعى الإنسان إلى تهجير الله وخلق جنة العلمانية هنا على وجه الأرض. وبطبيعة الحال إذا كان هناك بعض الناس غير الأكفاء فيجب القضاء عليهم من أجل تحقيق هذه المدينة الفاضلة (الجنة)، هذا هو الثمن الذي أبدى الطغاة الملحدون -ومن يعتذر لهم- استعدادهم لدفعه، وهم هنا يؤكدون مقولة فيودور دوستويفسكي “إن لم يكن هناك إله، فكل شيء مباح”)[3].
في ذات الإطار، قام نفيد شيخ، أستاذ العلاقات الدولية والمحاضر بجامعة كيل البريطانية، بنشر دراسة مثيرة للاهتمام بعنوان (عداد القتلى: دراسة إحصائية للعنف السياسي في حضارات العالم)[4] والتي قام فيها بمراجعة كل الحروب التي جرت بين الدول، بما في ذلك الحروب الأهلية والمذابح العرقية والجماعية وغير ذلك من الأحداث العنيفة التي تخطى عدد القتلى في الحدث الواحد منها 10,000 قتيل، ليقوم بقراءة هذه الأحداث التي جرت منذ العام الأول الميلادي إلى العام 2008 الميلادي.
استطاع شيخ أن يحصر 276 حدثاً عنيفًا ضخمًا خلال هذه الفترة الزمنية الكبيرة، ثم قام بتصنيف ديانات العالم إلى 7 ديانات وحضارات رئيسية: الملاحدة، البوذية، المسيحية، الهندوس، الإسلامية، البدائية، والصينية. واضعا وفق تصنيفه، كل حدث عنيف في الحضارة التابعة له، مع إحصاء عدد القتلى في كل حضارة. جاءت نتائج الدراسة بشكل مثير للاهتمام، حيث تصدرت الحضارة المسيحية كأكبر من تسبب في حصاد أرواح البشر، وتبعتها مباشرة في المركز الثاني حضارة الملحدين بحصاد للقتلى يفوق ال 100,000,000 قتيل، وقد يصل عدد الضحايا حسب تقديرات الدراسة إلى 150,000,000 قتيل! وهو ما يناقض تمامًا بروباجندا فردوس السلام الإلحادي الذي لا يتوقف مدّعوه باعتبارها رسالة سامية جاءت لتنقذ الناس من عنف الأديان.
وقد مثلت الدول الشيوعية، أقسى نموذج يتبنى الإلحاد، فقد اعتنق الشيوعيون في روسيا ثم في البلاد المجاورة العقيدة المادية التاريخية الصلبة، وصارت مذهبًا عامًا للبلاد والعباد، وارتكبت بسببها جرائم فظيعة في حق البشر، في روسيا والصين وكمبوديا وغيرها. وقد وثق “الكتاب الأسود للشيوعية: الجرائم والإرهاب والقمع”، والذي صدر عام 1997م، لمجموعة من الأكاديميين الذين قرروا البحث في عدد ضحايا الأيدولوجيا الشيوعية المعادية للدين.
“إنني آمركم بحرق كل شيء قابل للحرق وبإعمال السيف في كل رقبة”
(أحد جنرالات الحكومة الفرنسية أثناء مذبحة فيندي[5].)
يعتبر كثير من المؤرخين مذبحة فيندي Vendéen genocide عام 1793م بفرنسا أول إبادة جماعية في العصر الحديث، حيث بدأت عقب الثورة الفرنسية بعض قطاعات الشعب الفرنسي في التمرد ضد الحكومة العلمانية الجديدة، فما كان من الحكومة إلا أن قابلت هذه التمردات بالقمع الغاشم والفوري. وفي عام 1793م، بدأ بعض الفلاحين بمنطقة فيندي في التظاهر ضد الوضع الاقتصادي الطاحن، وتحالف معهم المتدينين الكاثوليك، فطبقت عليهم حكومة “التنوير” سياسات شديدة الوحشية، تم على إثرها إعدام أكثر من 6,000 أسير أكثرهم نساء وأطفال وشيوخ، وإغراق أكثر من 3000 امرأة في المياه، كما تم دهس الأطفال الرضع تحت أقدام الخيول، بالإضافة إلى حرق المساكن والبيوت والمزارع عن بكرة أبيها.
بحلول عام 1796م، وصل إجمالي عدد القتلى طبقاً لبعض الإحصائيات إلى حوالي 500,000 إنسان تم حصد رؤوسهم حرقاً، غرقا، ذبحًا، أو دهسًا تحت أقدام العربات والخيول. ورغم عدم شهرة هذا الحدث إلا أن أستاذ التاريخ البريطاني ألان فورست يقول إنه “حتى الآن يتذكر الغرب هذه المذابح كصراع بين الفلاحين والكاثوليك على جهة وبين الجمهوريين والملاحدة على الجهة الأخرى”[6]. وبالطبع، وكما ذكرنا في البداية، فإن قتل هؤلاء الناس لم يكن باسم الإلحاد وإنما كان باسم التنوير والحرية والعقلانية[7].
جدير بالذكر في عام 2007م، قام عدد من البرلمانيين الفرنسيين بتقديم مقترح قانون يقضي باعتراف الجمهورية الفرنسية بجريمة الإبادة الجماعية في فيندي وتحمُّل مسؤوليتها بخصوص تلك الفظائع[8]. وحتى الآن لا تزال الحكومة الفرنسية ترفض الاعتراف بهذه المأساة.
“إن المساندة التي أتلقاها من ألمانيا هي الأساس الذي يجعلني أرجو أن تنتصر نظريتي في النهاية”.
(تشارلز داروين، أصل الأنواع)
عندما نشر تشارلز داروين كتابه (أصل الأنواع) عام 1859م تُرجم فورًا إلى اللغة الألمانية ولاقى قبولًا كبيرًا وقويًا في الوسط الثقافي الألماني. كانت ألمانيا حينئذٍ مستعدة لاستقبال الأفكار الداورينية بسبب شيوع ثلاثة اتجاهات فكرية متوازية: الأولى هي المادية العلموية Scientific materialism التي قادها لودفيج فيورباخ وكارل فوجوت، والثانية المادية الديالكتيكية Dialectical Materialism ورائدها الأبرز كارل ماركس، أما الأخيرة فهي اليمين الهيجلي[9].
هيأت هذه التيارات الفكرية الأرضية الثقافية المناسبة لاستقبال أفكار داروين التطورية، لا في شقها العلمي، وإنما في توظيفها الاجتماعي، والتي تقوم على أن البشر والثدييات الأخرى هم نتيجة لما أسماه بالانتخاب الطبيعي، أي الصراع الأعمى الذي يبقى فيه الأصلح حيًا، وتموت على إثره الأقل صلاحية.
“في المستقبل غير البعيد، سوف تبيد الأجناس المتحضرة الأجناس الهمجية وتحل محلها حول العالم”
(تشارلز داروين، أصل الإنسان)
وكما يعمل الساسة وأصحاب المصالح المادية على توظيف الأفكار لخدمة مساعيهم دون أي اعتبار أخلاقي، فقد صنعت أفكار داورن جيلًا جديدًا من القادة السياسيين والمفكرين الاجتماعيين والعلماء، بما اعتبروه تبريرًا بيولوجيًا ماديًا لسيطرة الألمان حول العالم، كما يذكر أستاذ التاريخ ريتشارد فيكارت: “الداروينية وحدها لم تنتج النازية، لكن بدونها لم يكن لهتلر أو لأتباعه النازيين أن يدعموا فظائعهم الوحشية بالأدلة العلمية الكافية لتحويلها إلى أفعال أخلاقية”[10].
يبدو الموقف الديني لأدولف هتلر لغزاً للوهلة الأولى، فعلى جانب صرح هتلر في أكثر من خطاب له أنه كاثوليكي مخلص، إلا أنه على جانب آخر كان مؤمناً للنخاع بالداروينية الاجتماعية، وهي فلسفة غارقة في المادية كما هو معروف.
لم يقتل هتلر باسم الإلحاد، ولكنه لم يقتل باسم الله كذلك، وإنما قتل باسم الداروينية الاجتماعية، وهي رؤية كونية تابعة للإلحاد لا لوجود الله، حيث أنها فلسفة تقوم على نفي أي دور للإله في الكون ومن ثم تستبعد بناء أي رؤية كونية تعتبر أن الله له تدخل في الكون من قريب أو من بعيد. ويقول: “إن عقيدة الألمان التي تقوم على بطش الانتخاب الطبيعي المبني على الصراع التنافسي القاتل هي بمثابة الكتاب المقدس للمفكرين الألمان”. وبذلك يظهر أن كلا من الإيمان بالله أو الإلحاد، لا يعد سببا في ذاته لارتكاب المجازر، بقدر ما تمثل الشرائع وما يلحقها من أفكار وتفسيرات، وما يتبعها من سلوك دافعا لتبرير قتل الأبرياء.
(المصدر: ميدان الجزيرة)