الإلحاد والاستبداد المتذرع بالدين
بقلم الشيخ محمد خير موسى
لا بدّ في البداية من التّفريق بين الاستبداد المتذرِّع بالدّين والخطاب الدّيني، إذ عادةً ما يَجمع المتحدثون بينهما، وفي الحقيقة أنّ بينهما التقاء وافتراق، ومن أجل تحريرٍ أعمق لقضيّة إلحاد ما بعدَ الثّورات فلا بدّ من التّفصيل بين دور كلّ من الاستبداد المتذرِّع بالدّين والخطاب الدّينيّ في بروز الظّاهرة.
وما أقصده بالاستبداد المتذرِّع بالدّين: ممارسة السّلطة باسم الدّين، أو وجود طبقةٍ كهنوتيّة قادرةٍ على إنفاذ أمرها باسم الدّين أو إخضاع الآخرين لسلطتها تحت عنوان تمثيل الله تعالى في الأرض.
وطالما أكّد علماء الإسلام أنّه لا طبقة كهنوتيّة ولا شريحة تسمّى رجال الدّين في الإسلام، لكنّ الواقع شهد خلاف ذلك، فشهدت مرحلة ما قبل الثورات وما بعدها طبقات كهنوتيّة مارست استبدادًا باسم الدّين ساهم في صناعة الإلحاد وبروزه.
وبين الاستبداد السياسي والاستبداد المتذرِّع بالدّين علاقة وثيقة، حتّى بالكاد يمكن الفصل بينهما، وقد عبّر الكواكبي عن عُمق هذه العلاقة في كتابه (طبائع الاستبداد) بقوله: “تضافرت آراء أكثر العلماء النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان، على أنَّ الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني، والبعض يقول: إنْ لم يكنْ هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التَّغلب وأمّهما الرّياسة، أو هما صنوان قويّان، بينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنَّهما حاكمان، أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب”.
ولذلك فإنّ الثّورة عادةً ما تكونُ على هذين الاستبدادين معًا، ومن ذلك شعار الثّورة الفرنسيّة الشّهير “اشنقوا آخر ملك بأمعاء أكبر قسّيس”.
ولكن عند المقارنة بينهما فإنّ الاستبداد المتذرِّع بالدّين أشدّ خطرًا وضررًا على الإنسان والإيمان من الاستبداد السّياسي.
وذلك أنّ الدّين أشدّ تأثيرًا في حياة الإنسان وتغلغلًا في أعماق عقله وروحه من السّياسة، وكذلك فإنَّ الاستبداد الدّيني يستند إلى مرجعيّة مقدّسة بخلاف الاستبداد السّياسي الذي يستند إلى مرجعيّة بشرية، فالمستبدّ السياسي يحكم باسم الشّعب بينما المستبدّ المتذرِّع بالدّين يحكم باسم الله.
والمستبدّ السّياسي يرتكز على نصوص لا تملك القداسة في النّفس البشريّة فهو يرتكز إلى نصوص الدّستور، بخلاف المستبدّ المتذرِّع بالدّين الذي يرتكز على نصوص لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فهو يرتكز إلى الوحي الذي لا يمكن الخطأ في حقّه، فالمستبدّ المتذرِّع بالدّين يضفي على نفسه العِصمة التي يستمدّها من مرجعيته المعصومة ولو ادّعى خلاف ذلك، كما أنّ المستبدّ السياسي يتعامل مع المخالفين له على أنّهم يخالفون أوامره البشريّة بينما المستبدّ المتذرِّع بالدّين يتعامل مع المخالفين له على أنّهم يخالفون الله تعالى ويعصونه.
وهنا تكمُن خطورة الاستبداد المتذرِّع بالدّين في أنّ الثّورة عليه تغدو ثورةً على المرجعيّة المقدّسة كلّها، فهي ثورة على الوحي وعلى الإيمان وعلى الله تعالى، والمستبدّ المتذرِّع بالدّين حريصٌ على إظهارها بهذا المظهر ليتمسّك بشرعيّته مما يجعل شريحةً من الثّائرين غير القادرين على التّفريق بين الدّين وبين الاستبداد باسم الدّين يثورون على الدّين كلّه وينعتقون من ربقته انعتاقًا تامًا.
ومن نماذج الاستبداد المتذرِّع بالدّين التي ساهمت ببروز ظاهرة إلحاد الشّباب:
الوليّ الفقيه:
ولاية الفقيه مصطلحٌ ناشئ في الفِكر السياسي الشّيعي الإمامي، وقد قامت الدّولة الإيرانيّة بعد “الثّورة الإسلاميّة” التي جاءت بالخميني وبالسّلطة الدينيّة على مبدأ ولاية الفقيه الذي يشرحه “آية الله العظمى الخميني” في كتابه (الحكومة الإسلاميّة) بقوله: “لو قام الشّخص الحائز لهاتين الخصلتين -العلم بالقانون والعدالة- بتأسيس الحكومة، تثبت له نفس الولاية التي كانت ثابتة للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، ويجب على جميع الناس إطاعته. فتَوَهُّمُ أن صلاحياتِ النبي -صلى الله عليه وآله- في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين عليه السّلام، وصلاحياتِ أمير المؤمنين عليه السّلام أكثر من صلاحيات الفقيه، هو تَوَهُّمٌ خاطئ وباطل”.
وفي شرحٍ مفصّلٍ أكثر للمفهوم يقول حسن نصر الله: “الفقيه هو وليُّ الأمر زمن الغيبة، وحدود مسؤوليّته أكبر وأخطر من كل النّاس، ويفترض فيه -إضافةً إلى الفقاهة والعدالة والكفاءة- الحضور في السّاحة والتّصدي لكلّ أمورها، حتّى يعطي توجيهاته للأمة التي تلتزم بتوجيهاته. نحن ملزمون باتباع الوليّ الفقيه، ولا يجوز مخالفته، فولاية الفقيه كولاية النبيّ والإمام المعصوم، وولاية النبيّ والإمام المعصوم واجبة، ولذلك فإنّ ولاية الفقيه واجبة.
والذي يردّ على الولي الفقيه حُكمه فإنّه يردّ على الله وعلى أهل البيت، فمن أمر الولي الفقيه بلزوم طاعتهم فطاعتهم واجبة”.
فالسّلطة للفقيه سلطةٌ مطلقةٌ لا يمكنُ لأحدٍ مخالفتُها لأنّه يخالف الله تعالى حينها، وهذا يفيدُ كثيرًا في فهم سبب استجابةِ كلّ هذه الميليشيات الشّيعيّة لطلب القتال في سوريا، فهي جميعها تتبنّى مبدأ ولاية الفقيه وفي مقدّمتها حزب الله اللبناني الذي جاء في بيان تأسيسه في 16 فبراير “شباط” 1985م: “إننا أبناء أمّة حزب الله، نعتبر أنفسنا جزءًا من أُمة الإسلام في العالم. إننا أبناء أمة حزب الله التي نصرَ اللهُ طليعتها في إيران، وأسّست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم، نلتزم أوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة تتمثل بالوليّ الفقيه الجامع للشرائط. كلّ واحد منا يتولى مهمّته في المعركة وفقًا لتكليفه الشرعيّ في إطار العمل بولاية الفقيه القائد”.
ولكن ما علاقةُ نظام الوليّ الفقيه بإلحاد ما بعد الثّورات؟!
إنَّ هذا النّظام القائم على الاستبداد المتذرِّع بالدّين وما قام به عقب الثّورات لا سيما في سوريا واليمن من إطلاق العنان للميليشيات لتقتل وترتكب الفظائع والمجازر باسم الدّين، وتمارس التغيير الديمغرافيّ الإحلاليّ باسم الانتصار لآل البيت.
هذه الميليشيات التي تمارسُ أبشع أنواع الاستبداد بأوامر من الوليّ الفقيه في إيران ساهمت بشكلٍ كبيرٍ أيضًا في العديد من ردود الأفعال، تجلّى جزء منها في ردّة فعلٍ تجاه الفكرة الإسلاميّة كلّها وتجاه الدّين كلّه، الدّين الذي يرفع هؤلاء رايته ويقتلون الآخرين باسمه ثأرًا لخلافات يزيد عمرها على 1400 عام، ويذبحون النّاس فقط لأنّهم أرادوا أن يتنفّسوا شيئًا من الحريّة التي يستحقّها الإنسان أيّ إنسان.
فردّاتُ الفعل تجاه نظام الوليّ الفقيه كانت عنيفةً بلغت حدّ ردّة الفعل تجاه الفكرة الدّينيّة في أوساط الشّباب الشّيعة والسّنّة على حدٍّ سواء.
في أوساط الشّباب الشّيعة الذين يعانون من ممارسات نظام الولي الفقيه الاستبداديّة عليهم في مناطق سيطرته المختلفة في إيران والعراق واليمن وسوريا ولبنان.
وكذلك في أوساط شباب السّنّة الذين ذاقوا اضطهاد قوّات وميليشيات نظام الوليّ الفقيه وعاينوا طائفيّتها، فكانت ردّات فعلهم تجاه الفِكرة الإسلاميّة كلّها، لاسيما أولئك الشّباب الذين يتعاملون مع الرّايات والاتّجاهات والمذاهب والطّوائف الإسلاميّة بالتّسوية بينها دون تفريق بينها بسبب جهلٍ بتفاصيل الخلافات من جهةٍ أو بسبب الانبهار بما تقوم به إيران وجماعاتها المختلفة من إعلان شعارات مواجهة أمريكا و”إسرائيل”.
داعش والقاعدة:
في الطّرف المقابل للاستبداد الشّيعي الطّائفي المتذرِّع بالدّين المتمثّل بالوليّ الفقيه يقف الاستبداد الدّيني الذي ينضوي تحت رابة الجهاد ويحمل الفكر القاعدي والدّاعشي.
وهذا الاستبداد ظهر جليًّا في المناطق التي سيطرت عليها داعش والقاعدة في سوريا والعراق وسيناء وليبيا واليمن.
فبعدَ امتداد الثّورات والتحوّل إلى الحالة المسلّحة سيطرت الفصائل المقاتلة على أجزاء واسعة من الأرض لا سيما في سوريا والعراق وليبيا، وكانت حصّة كبيرة من هذه الأراضي تحت سيطرة القاعدة وداعش المتآخيين في المنهج المختلفين إلى درجةٍ ما في الآليّات والوسائل.
وبعد أن بَسطت القوتان سيطرتهما على الأرض أعلنت داعش دولة الخلافة، ومارست فيها الصّورة الدّمويّة المتخيّلة للخلافة والتمكين، بينما مارست القاعدة بأسمائها المختلفة ذلك دون إعلان قيام هذه الخلافة الحلم.
في دولة الخلافة الدّاعشيّة ومناطق السّيطرة القاعديّة مُورست أبشع سلوكيّات الاستبداد والقهر والقتل والترويع والاضطهاد والاعتقال والتعذيب كما يفعل النّظام السّوريّ تمامًا، لكن هذه المرّة باسم الإسلام ومع استحضار التأصيلات الشّرعيّة والخطابات الدينيّة والنّصوص الفقهيّة.
مُنعت الحريات، ففرض على النساء إلى جانب تغطية الوجه لون اللباس وشكله، وجُلد الرّجال بسبب تدخين سيجارة، وأُقيمت المحاكم الهزليّة التي يحكم فيها صبية جهّال باسم الدين في دماء النّاس وأموالهم وأعراضهم.
قُطّعت الرّؤوس في السّاحات العامّة، ورُجمت النّساء، وأُقيمت أسواق لبيع السبايا، وكلّ ذلك باسم تطبيق شريعة الله في الأرض.
وإنّ قليلًا من التّدقيق في بعض الوقائع يصيب المرء بمزيجٍ من الرُّعب والغثيان معًا، فتخيّل أنّ رجلًا عجوزًا سبّ الدّين في لحظة غضبٍ فيعتقله أفراد الحِسبة ويحكمون عليه بالرّدة وإقامة الحدّ عليه دون استتابة، ويوضع في ساحةٍ عامّة مُكبّلًا ثمّ يُدعى ابنه المنتسب إلى داعش ليقوم بالتقرّب إلى الله تعالى بقتل والده بيده، وتحقيقًا لمعنى البراءة من الكافرين!!!
وفي واقعةٍ أخرى تُوضع امرأة شابّة في السّاحة العامة لها خمس أبناء أكبرهم عمره عشر سنوات وأصغرهم رضيع، وتهمتها الكُفر والردّة لأنّ الحِسبة سمعتها تقول لابنها الذي عاندها في الشّارع “يلعن غيمك” فَحكم عليها القاضي بالقتل بسبب ردّتها عن الإسلام.
وعشرات بلْ مئات الوقائع من هذا النّوع تعطيك تصوّرًا عن الرّعب الذي يحيا به الإنسان في ظلّ الاستبداد القاعديّ والدّاعشي المتذرِّع بالدّين.
ولك أنْ تتخيّل موقف النّاس لا مِن داعش وحدها بلْ من الإسلام كلّه بما يحمله من مفاهيم الاستخلاف والتمكين وتطبيق الشريعة التي شُوّهت على أيدي هؤلاء تشويهًا غير مسبوق.
ولذلك لا ينبغي أنْ نستغرب احتفاء البعض بخروج داعش من مناطقه بإعلان إلحاده وحلق لحيته، وإقامة حفلات راقصةٍ على وقع خلع بعض النّساء حجابهنّ تعبيرًا عن الخروج من ربقة داعش عن طريق الانعتاق من ربقة الدّين كلّه.
هدم الاستبداد المتذرِّع بالدّين:
وفي الختام لا بدّ من التأكيد بأنّ التخلّص من الاستبداد المتذرِّع بالدّين يكون من خلال هدمه في الواقع وفي نفوس النّاس.
أمّا هدمه في نفوس النّاس فيكون في رفض الاقتران بين الذين يمارسون الاستبداد باسم الدين وبين الدّين، من خلال حملات توعية تبيّن الانفصال التّام للدّين عن هذه النّماذج، وتمليك الشّباب منهجيّات واضحة لنقد الاستبداد أيًّا كان مصدره وأيًّا كان خطابه وأيًّا كانت رايته التي يرفعها.
وأمّا هدمه في أرض الواقع فيكون بالقضاء على الأجسام التي تمارس الاستبداد أيًّا كان توجهها، وتوجيه الثّورة ضدّها على أنّها صنو الاستبداد السياسيّ، وأنّ كلا الاستبدادين السياسي والمتذرِّع بالدّين ينبغي مواجهتهما ووضعهما في سلّة واحدة، وأنَّ القضاء على أحدهما هو مساهمةٌ فعليّة في القضاء على الآخر بالضرورة.
كما قال الكواكبي: “ويحكمون بأنَّ بين الاستبدادَيْن: السّياسيّ والدّينيّ مقارنة لا تنفكُّ، متى وُجِد أحدهما في أمّة جرَّ الآخر إليه، أو متى زال زال رفيقه، وإنْ صلح -أي ضعف الأوّل- صلح -أي ضعف- الثّاني. ويقولون: إنَّ شواهد ذلك كثيرةٌ جدًّا لا يخلو منها زمانٌ ولا مكان”.
(المصدر: موقع “على بصيرة”)