في رمضان وعلى إحدى الفضائيات حل الأمين العام لقوات أبو الفضل العباس إحدى أذرع الميليشيا الطائفية في العراق وسورية أوس الخفاجي ضيفاً ليدافع عن ميليشيات الحشد الشعبي، مبرراً وجودها ودورها السياسي المرتقب بعد دورها العسكري، واصفاً الحالة السياسية الراهنة في العراق بأنها (شلع قلع)!!
سأله محاوره عن الأحزاب الإسلامية السياسية فعلق بقوله «وجه الأحزاب الشيعية الإسلامية ليس أبيض وإنما رمادي»!، متمنياً أن تتنحى كل هذه الأحزاب الشيعية عن العمل السياسي في العراق.
والذي يهمني من إجاباته كلمته الخاطفة حينما قرر أن هذه الأحزاب أثرت على (شبابنا) حسب وصفه، الذين عرفوا الإسلام من خلال هذه الأحزاب ثم قال نصاً:
(بعضهم جاي يصير ملحد … بسبب أخطاء الأحزاب الإسلامية، تركوا المسجد تركوا العقائد)!
في مقال سابق لي بعنوان «داعش وميليشا الحشد الشعبي دعاة العلمانية والإلحاد الجديد» بينت كيف تحولت هذه التنظيمات إلى مادة ممتازة للأميركان وقوى الغرب في تحقيق أجندتها التغريبية والليبرالية بما في ذلك الإلحاد.
ويأتي اليوم تصريح أوس الخفاجي ليؤكد الواقع البائس وانعكاساته على الفكر والاجتماع.
وما أريد تأصيله هنا هو أن قناعات الإنسان وتحولاته الفكرية ليست ناشئة دائماً من تأمل عقلي بحت أو عن محاكمة منطقية صارمة، فكثيراً ما يخضع الإنسان لظروف وملابسات وتجارب تعصف بقناعاته السابقة، وحسب نضجه النفسي ومنطق تفكيره ومصالحه ونزعاته الشخصية يقرر ما يشاء في انقلابه على مبادئه السالفة.
سواء كان الانتقال من فكر ديني إلى فكر مادي لا ديني أو العكس فلكل حالة قصتها وخصوصيتها، بيد أنه يمكن أن نضعها في إطار معين ومن هذه الأطر (الإلحاد النفسي) القائم على ردة الفعل، وهو ما كثرت حوله الدراسات الغربية الرصينة وبدأت بعض المراكز العربية بترجمتها والتي من أبرزها كتاب (نفسية الإلحاد) لبول فيتر الذي ترجمه مركز دلائل.
ولعل من أوسع الدراسات العربية في الموضوع كتاب:
(الإلحاد مشكلة نفسية) للدكتور عمرو شريف.
وأضع بين يدي القراء هذه التجربة المريرة للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب الذي انضم في النصف الأول من القرن الماضي للحزب الشيوعي العراقي ثم كتب في 1959 كتابه (كنت شيوعياً) حيث تكشف له البعد النفسي والجرح النرجسي للذات والنكوص على ما كان يتماهى معه في شبابه (الأيديولجية الشيوعية).
واقرأ نصه التالي الذي جاء في آخر صفحات كتابه لترصد سرده للدوافع الشخصية البحتة (لا الموضوعية) في تبني العقائد والأفكار ولاحظ تكرار كلمة (تحدي) الانفعالية في المواقف.
قال السياب: «ومع أن الحزب الشيوعي العراقي لا يقر السكر والعربدة والتفسخ الخلقي، إذا كانت علنية، فلم نكن نرى بأساً في أن نعاقر الخمر جهاراً في تلك القرية المسلمة المحافظة فنتحدى تقاليدها ودينها وشيوخها. إن الكثيرين لا ينتمون إلى الحزب الشيوعي إلا تحدياً منهم لشخصٍ معين أو جماعة معينة أو لفكرةٍ تمسّهم شخصياً على الأقل.
فهذا يصبح شيوعياً تحدياً لجاره أو قريبه أو عدوه، أو حتى لأبيه الصائم المصلّي المؤمن بالله. وذاك تحدياً لجاره العربي الذي عيّره بأنه فارسي. وذاك تحدياً لفلان الذي لم يفقد إحدى عينيه والذي كان يعيّره بأنه أعور. وذاك يصبح شيوعياً لأنه ضعيف ولا يملك من وسيلة للانتقام ممن اعتدوا عليه، إلا بأن يصبح شيوعياً».
ليس من الموضوعية ولا من منهج البحث العلمي حصر ظاهرة اجتماعية بعينها في سبب أو اثنين فالمسألة متعددة الجوانب والمشارب ومتداخلة.
لكني من خلال دراسات ورصد ومتابعة أدركت مدى قوة الجوانب الذاتية والتجارب الشخصية وردات الفعل وحظ النفس (الأنا) والمصالح الخاصة وغير ذلك مما لا علاقة له بطلب الحقيقة المجردة والبحث العلمي الرصين، أدركت تأثيرها البالغ في تبني أفكار حادة أو جانحة وأيضا التعبير عنها بشكل عنيف سواءً كانت من قوم ينتمون إلى فكر ديني وروحاني أو فكر مادي وإلحادي.
(المصدر: موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)