مقالاتمقالات مختارة

الإلحاد الجديد.. بروزه ورموزه

بقلم محمد أمين خلال

كانت سنة 2001 مرحلة انتقالية في التاريخ الإنساني على جميع المستويات، السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والفكرية، على وجه التحديد إثر تداعيات 11 سبتمبر (أيلول) التي ستشكل انعطافًا كبيرًا وتغيُّرًا جذريًا، مَنَحَ للدول المهيمنة ليس صكًا على بياض فقط لبسط الأيدي على دول العالم العربي وحلب موارده الطبيعية واستنزاف طاقاته وخيراته، بل حتى اتُّخذت تلك الأحداث (11 سبتمبر) شماعة ومشجبًا لإعادة صياغة المفاهيم الفكرية للأمم وقناعات الشعوب العقدية، فخلفت هذه الأحداث حملة ردود واسعة، تلتها هجمات شرسة محمومة، ضد أتباع الأديان – والدين الإسلامي خصوصًا – باعتباره عقيدة إرهابية تهدد السلام العالمي، والمسؤولَ الأولَ عن تفجيرات أمريكا، وما سيعقبها من تفجيرات بعد ذلك وأعمال إجرامية في بعض الدول الأوروبية.

وهو ما يعتبره المتخصصون إرهاصات جنينية ومراحل طفولية تمخض عنها في وقت قصير جدًا صنم الإلحاد الجديد، الذي قاده في بداياته الأولى كهنة العلم التجريبي ودعاة النزعة العلموية التنويرية على وجه الخصوص، من ذلك ما أصدره عالم الأعصاب الأمريكي سام هاريس سنة 2004 في الحادي عشر من غشت، كتابُه المثير الذي عنونه ب: “نهاية الإيمان: الدين والإرهاب ومستقبل المنطق- The End of Faith: Religion, Terror, and the Future of Reason”، والذي استهلَّه كاتبه بالحديث عما أسماه (فترة الأسى والحزن) التي سَبَّبَها الدين عقِب أحداث 11 سبتمبر، والتي سيتخذها هاريس قنطرة ليعبر عليها إلى ضرب كل أنواع الإيمان والعقائد اللاهوتية. وقد حقق الكتاب شهرة كبيرة وصيتًا ذائعًا جدًا، ودخل في نفس الشهر الذي طبع فيه قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعًا.

بعدها بسنة واحدة (2005) قام الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري هو الآخر بنشر كتابه (نفي اللاهوت – Traité d’athéologie) الذي ستباع منه أزيد من 200 ألف نسخة في ظرف وجيز، في الجزء الأول من هذا الكتاب سيطور أونفري مذهب فريدريك نيتشه، لكنه سينتقد فكرته القائلة (مات الإله)، إذ يعتبر أونفري أن الإله لم يمت، ولا هو يُحتضر، ولن يموت إلا مع موت آخر إنسان، لأن الخرافة لا تموت، وعلى هذه المقدمة سيبني نقده اللاذع للديانات الإبراهيمية الثلاث في الجزء الثاني من كتابه.

بعدها بعام آخر (سنة 2006) قام الأحيائي البريطاني ريتشارد دوكينز بتأليف كتابه المثير للجدل (وهم الإله-The God Delusion) الذي سيقع عليه الطلب هو الآخر بشكل كبير وستباع منه أزيد من 1.5 مليون نسخة حتى سنة 2007 فقط، وسيترجم إلى 31 لغة من بينها العربية، وبعد هذا ستكون الطريق قد عُبِّدت لظهور مؤلفات دانييل دينيت، وكريتسوفر هيتشنز صاحب كتاب: (الرب ليس عظيمًا: كيف يسمم الدين كل شيء God Is Not Great: How Religion Poisons Everything، الذي نشره سنة 2007، والذي خصصه للهجوم على الدين بشكل مسعورٍ، بل خصص الفصل الثاني من كتابه الذي عنون له بـ(الدين يقتل) لإقناع القارئ أن الدين آلة مسمومة وسلاح فاتك يودي بالبشرية إلى الهلاك، من ضمن 19 فصلًا خصصها كلها للتحامل على الدين ونقد أسسه بشناعة وبشاعة.

ونستطيع القول إن هؤلاء الأربعة (هاريس – ودوكينز – وهيتشنز – ودينيت) يُعتبرون القادة الحقيقيين الذي نهضوا بفزاعة الإلحاد الجديد وقادوا عربة الهجوم على الأديان، حتى أنهم يُسمَّون بالفرسان الأربعة -The four horsemen، تعريضًا بفرسان القيامة الأربعة في الإصحاح السادس من سفر يوحنا، في عهد النصارى الجديد، وقد أطلق عليهم هذا اللقب عقب تقابلهم سنة 2007 في برنامج إلحادي بمقر إقامة هيتشنز.

وهذا إذا أضفنا إليهم فيكتور ستينجر، صاحب كتاب: (الرب: الفرضية الباطلة – God: Failed hypothesis) الذي أصدره سنة 2007، والذي ينضاف بدوره إلى قائمة الكتب الصاخبة التي أحدثت جلبة وضجة في الأوساط الإيمانية، والتي مهدت لأعاصير الإلحاد الجديد الجارفة.

أما إذا أردنا أن نضيف إلى هؤلاء بعض الكهنة الذين قادوا بدورهم عجلة الإلحاد الجديد، فسوف ندرج على القائمة كلًا من: الفيزيائي الأمريكي ستيفن هاوكينغ صاحب كتاب (التصميم العظيم – The Grand Design) وكذلك عالم الفيزياء الفلكية نيل ديغراس تايسون.. وغيرهم.

إلا أن هؤلاء كانوا أقل هجومًا على الأديان، فمعركة هاوكينغ في الغالب كانت مع الإله، بخلاف فرسان الإلحاد الأربعة، الذين كانوا يوجهون سمومهم نحو الأديان والمتدينين بشكل أكبر، ونذكر كذلك من بين الملاحدة المشاهير الذين قادوا عجلة الإلحاد، آيان حرسي علي صاحبة كتاب (العذراء السجينة: الإعتاق العلني للمرأة والإسلام 2006)، وكذلك كتاب (الكافر: حياتي 2006) لها أيضاً، ودان باركر صاحب كتاب (بدون إله)، و (محاربة الإله 2015) لديفيد سيلفرمان، وغيرها.

وبناء على ما سبق نستطيع القول إن هذه كانت الأسباب والركائز الحقيقية التي على أساسها نهض صنم الإلحاد الجديد في الغرب، وقام وذاع وانتشر، حتى إنه في السنة الفائتة 2017 أعلن بول مايرز رسميا عن حركة الإلحاد الجديدة، وهذا هو طاعون العصر الجديد الذي أصبح يشكل خطورة علمية وعملية على مستقبل الحضارة الإنسانية وتاريخها.

 الفرق بين الإلحاد الجديد والقديم

لا يجوز الخلط بين الإلحاد القديم والإلحاد الجديد، لاختلاف مناهجهما ومشاربهما، وأصول وسمات وأسباب كل منهما، فالإلحاد القديم كان في غالبه ذا طابع عقلي يبني خيمته على الفلسفة ويستنجد بها، وأما الجديد فهو ذو طابع تجريبي يبني عشَّه على العلم الإمبريقي والكشوفات الطبيعية، وقد كان القديم حكرًا على الطبقات البرجوازية والفئات المثقفة، أما الإلحاد الجديد فيكتسي ثوبا شعبويا ويستهدف جميع فئات المجتمع، ويتخذ خطابًا ساخرًا أو سوقيًا أو علمويًا في أغلب الأحيان، وقد كان الإلحاد القديم رغم عداوته أقل هجومًا على الأديان وأقل دعوة للكراهية والعنف، مقارنة مع الجديد الذي اتخذ موقفًا هجوميًا وأوقد نارًا مسعورة ضد الأديان وأتباعها في العالم، كما من الفروق بينهما أن الإلحاد الجديد أصبح له كهنته ومبشروه الذين يسوقون عربته وينشرونه بين الناس ويبذلون حياتهم في سبيل الدعوة إليه، على خلاف القديم كثيرًا، وإن تقاربا في هذا، ولا ننسى اختلاف الأسباب المؤدية لكل منهما، فالإلحاد القديم وإن تعددت أسبابه إلا أن أغلبها كان تِيهًا فلسفيًا وسفسطةً معرفيةً ونفسيةً في بعض الأحيان، أما الإلحاد الجديد فتتعدد أسبابه بين ما هو معرفي، وما هو نفسي، وما هو اجتماعي، وما هو شهواني، وما هو تربوي.. وغيرها مما سنفرده في مقال مستقل بحول الله، ولا ننسى الطابع الموضوي، الذي يكتسي به ثوب الإلحاد الجديد، إذ أصبح يُعتبر نوعًا جديدًا من الموضة والظهور والاختلاف المُلفِت، على خلاف القديم الذي كان متكتما وأميَل إلى التستر، ولا يعني هذا أن الإلحاد القديم قد انقرض، بل ما يزال حيًا عائشًا يكيد ويترصّد، وربما تداخل مع الإلحاد الجديد وتحالفا، إلا أن القديم أقل صيتًا منه وأقل ذيوعًا وضجة وجعجعة.

تصدير الإلحاد الجديد من الغرب إلى الشرق (وإلى المغرب خصوصًا)

يجوز لنا القول إن تداعيات القرن العشرين ومطلع الواحد والعشرين السياسية وثوراته العلمية والتِقَنية والثقافية، قد أسهمت بشكل كبير في دمج العالمين (الغربي – وما دون الغربي)، بعبارة أخرى: انتقل العالم إلى طور العولمة.

حيث أصبح العالم عبارة عن قرية صغيرة، يتلامس صدى قطبه الجنوبي مع الشمالي، وتؤثر عوامل ضفته الغربية على الشرقية، وهذا التأثير ليس مناخيًا بقدر ما هو فكري، وبقدر ما هو جيو-سياسي، وبما أن المغلوب على دين غالبه كما يقول عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته، فإن العالم العربي اليوم ومع كامل الأسف، يقبع في موضع التبعية والتقليد والانصهار والذوبان، إن لم يكن بالأقلية والأفراد فبالأغلبية والجماعات، وإن لم يكن بالافتتان والانقياد فبالسطلة والاقتياد، حيث أريد للعالم العربي في عصر انحطاطه الفكري والثقافي والحضاري وتفريطه في أعنة عقيدته وأرصنة شريعته التي حفظت له دينه ودنياه، أن يساق ويجَرَّ جرًا إلى موقع الرديف والتبيع الحضاري، الذي يقتات ويتعشى على مخلفات ما تطبخه الأنظمة السياسية الغربية، وما تشكله دول العالم الغربي.

تبعاً لهذا فإن ما نَبَت بساحة العالم الغربي من ظواهر إلحادية ولادينية، لم يلبث أن صُدِّر وهُجِّر إلينا على وجه السرعة والتزامن، أولا بفعل العولمة ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة، وثانيا بفعل الغلبة والتبعية والسيطرة الاستعمارية، هذا وذاك جعلانا لا نتأخر في تلقي موجة الإلحاد الجديد وتبنِّيها وسَقيها ورعيِها، والمغرب باعتباره بلدًا لصيقًا بالقارة الأوروبية وصلة وصل ماديةً وفكرية معها.

باعتباره كذلك مشاركًا بقوة، ومتطلعًا للمستجدات الفكرية والعلمية، سواء بالغرب أو المشرق العربي الذي كان ولا يزال حبلًا تواصليًا مربوطًا مع المغرب دينيًا وفكريًا، فقد جعله هذا بضاعة مغرية تستهوي العديد من المنظمات الإلحادية – والتنصيرية – التي تتبنى الطروح المعادية للإسلام، الذي كيد له ولأهله على هذه البلد السعيدة طيلة أمد مديد من الزمن، دون أن يمس ذلك شعرة واحدة من عقيدة الشعب المغربي الذي بنى صروحه على الإيمان والتسليم منذ أن اعتنق هذا الشعب تعاليم الإسلام الحنيف بصدر رحب وحضن محب.

ما عُرف المغرب إلا بحبه وتوقيره واكتنافه لهذا الدين على مر العصور والدهور، اللهم بعض الفتن والقلائل القليلة التي شابت مياهه الصافية، والماء إذا جاوز القلتين لم يحمل الخبث، إلا أن هذا الخبث بدأ يستبحر ويكثر شيئًا فشيئًا، لاسيما بعد سنة 2011 التي عرفت مدًا كبيرًا لموجات التنصير والألحدة، التي بدأت على البالتوك والمواقع والمنتديات المغلقة، لتنتشر فيما بعد وتنشب أظافرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي معلنة بذلك حالة طوارئ مستعجلة تستدعي العِتق والإنجاد.

يتبع.

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى