مقالاتمقالات مختارة

الإلحاد .. أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره وعلاجه

الإلحاد .. أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره وعلاجه

بقلم محمد الخضر حسين

في الناس من يضع إلحاده على طرف لسانه، أو على ظاهر يده، فيُريك ما في صدره، وهذا قد جعلك في حِلٍّ من أن تسميه ملحداً، ولم يحوجك إلى أن تنبه الناس لضلاله، أو تنصحَ لهم بالاحتراس من أقواله، إلا أن تعمد إلى ما يطعن به في الدين، فتكشف عن وجوه فساده، وتدفعه بالحجّة.

وفي الناس من يحمل في نفسه إلحاداً في الدين، ويُغضاً للشريعة، وإذا جلس إلى المؤمنين، حاول أن يضع بينهم وبين ما في نفسه حجاباً مستوراً، وإنما ينطلق بآرائه الزائغة حين يخلو بنفوس تَلَذُّ ما تَلَذُّ نفسُه من الطعن في وجود الإله الحق، أو في صدق النبوة وحكمة التشريع.

* أسباب الإلحاد:

للإلحاد مهيئات:

منها: أن ينشأ الشخص في بيت خالٍ من آداب الإسلام، ومبادئ هدايته، فلا يرى فيمن يقوم على أمر تربيته – من نحو والد أو أم أو أخ – استقامة، ولا يتلقى عنه ما يطبعه على حب الدين، ويجعله على بصيرة من حكمته، فأقلُّ شُبه تَمَسُّ ذهن هذا الناشئ تنحدر به في هاوية الضلال.

ومن أسباب الإلحاد: أن يتصل الفتى الضعيف النفس بملحد يكون أقوى منه نفساً، وأبرع لساناً، فيأخذه ببراعته إلى سوء العقيدة، ويفسد عليه أمر دينه، ومن هنا نرى الآباء – الذين يعنون بتربية أبنائهم تربية الناصح الأمين – يحولون بينهم وبين مخالطة فاسدي العقيدة، يخشون أن تسري إليهم العدوى من تلك النفوس الخبيثة، فتخبث عقائدهم وأخلاقهم.

ومن أسباب الإلحاد: أن يقرأ الناشئ مؤلفات الملحدين، وقد دسوا فيها سموماً من الشُبه تحت ألفاظ منمقة، فتضعف نفسه أمام هذه الألفاظ المنمقة، والشُّبه المبهرجة، فلا يلبث أن يدخل في زمرة الملاحدة الألداء.

ومن أسباب الألحاد: أن تغلب الشهوات على نفس الرجل، فتريه أن المصلحة في إباحتها، وأن تحريم الشارع لها خالٍ من كل حكمة، فيخرج من هذا الباب إلى إباحية وجحود.

* طبائع الإلحاد:

ساقتني صروف الليالي إلى ملاقاة طائفة من الملاحدة في تونس، وفي الآستانة، وفي الشام، وفي ألمانيا، وفي مصر، فرأيت هذه الطوائف تتشابه في أمور يبعد أن يكون تواردهم عليها من قبيل المصادفة، وإنما هي طباخ لما تواطأت عليه قلوبهم من جحود لآيات الله، وإنكار لدينه الحنيف، وهأنذا أتحدث عن شيء من هذه الطباخ التي لا تجتمع في شخص إلا أن يكون قلبه مصاباً بعلة الجحود.

* فرحهم بتهمة عالم كبير بالإلحاد:

يفرح الملحدون بإشاعة الإلحاد عن بعض العلماء المفكرين، والمثير لهذا الفرح: حرصهم على أن لا ينسب إلى الدين من ظهرت له أثارة من علم أو فكر.

* استهزاؤهم بالدين:

يستهزئون في مجالسهم بالدين، وربما رشحت ألسنتهم بهذا العبث في حضرة بعض المؤمنين؛ بزعم أنهم مازحون غير جادّين، كذلك كانت مجالس الزنادقة في القديم؛ أمثال: مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وحمَّاد عجرد، وأصحابهم، وهكذا حال ملاحدة هذا العصر.

* انهماكهم في الفسوق:

ولا ينتظر ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر أن يترك شيئاً من شهواته إلا أن يخشى الناس، والتاريخ يحدثنا عمن كانوا يتهمون بالزندقة، فيرينا كيف كانت مجالسهم قائمة على شرب الخمور وما يتبعها من الخبائث، وكذلك كانت مجالس أولئك النفر المعروفين بالإلحاد في عهد الدولة العباسية.

قال بعض الرواة: إن حمّاد عجرد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد نزلوا بالقرب منّا، فكانوا لا يُطاقون خبثاً ومجانة، وهكذا حال ملاحدة هذا العصر إذا خلوا في مجلس؛ فإنهم يرتكبون ما تترفع عنه مجالس الفضلاء، ومن تظاهر منهم بالرزانة وحسن السمت، فبمقدار، وإلى وقت.

* تناقضهم في الأقوال:

أشد النفوس طوعاً إلى الأهواء نفس لا تثق بأن لهذا العالَم مبدعاً حكيماً، أو لا تثق بأن وراء هذه الحياة دار جزاء، والنفوس المنقادة إلى الأهواء، قد تألف الشيء في وقت، وتنفر منه في وقت آخر، فتمدحه مرة، وتذمه أخرى، وقد تستقبح الأمر، وتستحسن ما يضاهيه من كل وجه، وربما استقبحت الشيء، واستحسنت ما هو أقبح وأشد مفسدة منه.

وانظروا ما يكتبه بعض الملاحدة في الاجتماع أو السياسة، تجدوه متخاذلاً يلعن بعضه بعضاً.

* إنكارهم المعجزات الكونية:

يرى الملاحدة أن المعجزة أساس للنبوة والرسالة، فيتوجهون إلى هدم هذا الأساس، فينكرونه، ويلقون حوله الشبه، ويقولون: إن حكمة الدعوة كافية في الدلالة على نبوة صاحبها.

وقد قال هذا البهائية، والقاديانية، وأشخاص في قلوبهم مرض.

وتراهم يعمدون إلى ما قصه القرآن الكريم من معجزات الأنبياء، فيخرجونه بالتأويل غير المعقول إلى معان مصنوعة، مثال ذلك: القادياني الذي ترجم القرآن إلى اللغة الإنكليزية، فإنه لا يمر بآية فيها معجزة صريحة إلا كتب معلقاً عليها هذياناً يخرجها من وجه دلالتها العربية.

وتبعه على ذلك أحد الجاهلين الضالين في أوراق سماها: تفسيراً، ومن قرأ هذه الأوراق، رآها بالغة الغاية في الزندقة.

* دسُّهم في الشريعة ما ينافي حكمتها:

يعمل الملاحدة لتنفير النفوس من الدين. ومن الطرق التي يسلكونها للتنفير: إلصاقهم بالدين أشياء لا تطابق الحكمة، وقد وضع الزنادقة أحاديث كئيرة نسبوها إلى النَّبي – صلى الله عليه وسلم -، كما وضعوا حديث “الباذنجان لما أُكل له”.

وقد كشف علماء الحديث عن الأحاديث الموضوعة، وبيّنوها للناس، ومن جملتها هذه الأحاديث التي وضعها الزنادقة.

* إنكارهم العمل بالحديث:

لا يزال السلف الصالح من الصحابة والتابعين يجعلون الأحاديث أصلاً من أصول الدين، يقفون عندها إذا وجدوها، ولا يتجاوزونها، حتى أخذت الزندقة تعبث من وراء ستار، فكان من مكايدها: أن أجرت على ألسنة شياطينها: أن مأخذ الدين هو القرآن وحده، وأن السنّة لا تستقل بإنشاء الأحكام، يقولون هذا؛ ليسقطوا جانباً كبيراً من أحكام الإسلام.

* تأويلهم القرآن على حسب أهوائهم:

يعمل الملاحدة لطرح السنَّة من أصول الدين، ثم يعمدون إلى القرآن المجيد، فيحرفون الآيات الحكيمة عن معانيها، ويفسرونها كما يشتهون؛ ليتم لهم بهذا التأويل تعطيل أوامر الدين ونواهيه، وذلك ما فعله الباطنية من قبل، وجرى فيه على آثارهم باطنية أهل هذا العصر؛ مثل: البهائية، والقاديانية، وأشخاص يطوون صدورهم على جحود غير قليل.

* صداقتهم للمجاهرين بالجحود:

من يشرح الله صدره للإيمان، لا ترتاح نفسه لصحبة الجاحدين، ولا يجد ودادهم إلى داخل نفسه سبيلاً، وقد يضطر المؤمن أن يلاقيهم ويشاركهم في بعض الأمور الحيوية أو الاجتماعية، فليكن اتصاله بهم على قدر الضرورة.

فإن رأيتَ شخصاً يصاحب جاحداً بآيات الله، وأحسست من لحن خطابه أن الصداقة بينهما محكمة، سبق إلى ذهنك أن منشأ هذه الصداقة التشابه في زيغ العقيدة {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].

* إلحاحُهم في الدعوة إلى حرية الرأي في الدين:

غاية الملحد أن يطعن في الدين، ويصد عن سبيله بقلمه أو لسانه، وقد يرى أن الحال لا يسعه لأن يطعن في الدين، أو يصد عنه في علانية، فتجده يحتال لأن يذهب إلى غرضه من طريق البحث وإبداء الرأي، فيبالغ في الدعوة إلى حرية الرأي في الدين؛ ليكون مطلق العنان، يقول ويكتب ما يشاء من آراء يقوض بها صرح الدين من أساسه.

يدعون إلى حرية الرأي في الدين؛ لتجد دعوتهم المعادية للدين سعة، ومن ملك من هؤلاء قوة، استعملها في اضطهاد رجال الدين المستقيمين، وسدَّ باب الحرية في وجوههم، فإن لم يفعل ذلك على طريقة مكشوفة، فعله من طرق ملتوية.

* بَسْطُ ألسنتهم في رجال الدين:

من طبائع الملحدين الحطُّ من شأن علماء الدين المستقيمين؛ باعتقاد أن هدم من يتمثل فيهم الدين القويم هدم للدين نفسه، فإذا بلغوا أن جعلوا الناس يزدرون برجال الدين، ويصرفون أسماعهم عما يدعونهم إليه من حق، فقد بلغوا أمنيتهم من تعطيل أوامر الدين، وإهمال آدابه، وإطفاء نور حكمته.

* دعوتهم إلى الإلحاد:

في الملاحدة من يعجز أن يكون داعية إلى الإلحاد، فيكتفي بأن يطلق لنفسه العنان في الإباحية، ومنهم من يدفعه بغض الدين إلى أن يعمل بلسانه أو بقلمه لهدم أصوله، والصدّ عن سبيله، ولهؤلاء طرق يأتمرون لتدبيرها، وهي شبيهة بطريق إخوانهم الباطنية، وذلك أنهم يبتدئون من يريدون إغواعه بعرض شيء من الشبه في صورة السائل، أو الحائر في دفعها، ثم ينظرون إليه ماذا يكون حاله من الاستخفاف بتلك الشبه، أو التأثر بها، فإن رأوه قد ضعف أمام هذه الشبه، أكثروا من إلقاء أمثالها عليه حتى يقع في حيرة، ويستبينوا منه أن إيمانه قد تزلزل، وعند ذلك يوحون إليه بما شاؤوا من الغمز في الدين، حتى يجردوه من عقيدة الحق، ويتخذوه عضواً في مجامعهم.

* مفاسد الإلحاد الاجتماعية:

عرفنا أن من طباع الإلحاد: اتباع الشهوات، والانطلاق في الإباحية، فالملحد لا يحافظ على عِرْضِ أحد، ولا على ماله، ولا على حرمه، إلا أن يعجز عن الوصول إلى شيء من ذلك، ومتى ساعدته الفرصة، وظن أنه بمأمن من العقوبة، عاث في الأعراض والأموال غير متحرج من انتهاك حرماتها، وقد يقع انتهاك الأعراض ونحوها من غير الملحد بدافع الشهوة، أما الملحد، فإنه يأتيها مستبيحاً لها، وضرر الطائفة التي ترتكب الفسوق مستبيحة له أشد من ضرر من يفعله معتقداً أنه يأتي أمراً محرماً.

ولنتخيَّل أمة مؤلفة من الملاحدة، أو كانت الأغلبية فيها للملاحدة، وننظر كيف تكون سيرتها، وماذا تكون عاقبتها في هذه الحياة؟.

لا شك أنها تسير في غير طريق، وتكون عاقبتها السقوط إلى الحضيض؛ إذ أن الملاحدة يبيحون موبقة الزنى وما يضاهيها من الفواحش، ويبيحون الخمور، ولا يتحرجون أن يضموا إليهم أموال غيرهم بغير حق، وإذا وجدت في أهل الدين من لا يفعل فاحشة، أو لا يعتدي على حق، ولو أمن من أن يطلع عليه مخلوق، فإن الملحد لا يكف نفسه عن الهوى، إلا أن يخاف ألماً يأتيه من الناس أكبر من ذلك الهوى.

وإذا وجدت في زائغي العقيدة من يتحدث عن الأخلاق، ويوهم الناس أن الأخلاق تكفي في استقامة السيرة والاحتفاظ بالعفاف، فإن ذلك كله رياء ونفاق. نَعَمْ، للأخلاق أثر في تقليل الشر، ولكنها لا تأتي بأثر عظيم في انتظام حال الاجتماع، إلا حينما تسير تحت مراقبة عقيدة دينية ثابتة.

* أسباب ظهور الإلحاد:

لا سعادة للأمة إلا بالوحدة، ولا وحدة للأمة إلا أن تكون سليمة العقيدة، سنية الأخلاق والآداب، فمن الحكمة: أن يراعى الإسلام هذه الوحدة التي هي وسيلة، ويأخذ في المحافظة عليها بالتي هي أحزم، فكان من أحكامه: منع الناس من أن يركبوا الطيش، ويعلنوا إلحادهم تحت رايته، فلم يكن الملاحدة قبل اليوم يعلنون إلحادهم، وما كانوا يدعون إليه إلا من وراء ستار، فكان الإلحاد في العصور الماضية لا يتجاوز نفراً قليلاً يعرفهم الناس في لحن أقوالهم، وبانهماكهم في الفجور، وقضاء أوقاتهم في المجون.

أما اليوم، فقد ظهر الإلحاد، ورفع رأسه، وتجاوز المجالس الخاصة إلى الصحف والمؤلفات، ولهذا – فيما أرى – أربعة أسباب:

أحدها: أن بعض الحكومات صارت تضع قوانينها الدستورية في عبارات لا يرى فيها الملحد قيداً يكفه عن إعلان إلحاده، أو الدعوة إليه كما يشاء.

ثانيها: أن كثيراً من المنتمين إلى علوم الشريعة، فرَّطوا في جانب الغيرة على الحق، فتراهم يوادّون من يصفهم الناس بالإلحاد، ويتملقونهم بالإطراء، ويشهدون لهم بالإخلاص للدين، يفعلون هذا رجاء متاع الحياة الدنيا، وهم يعلمون أنهم إنما يمدحون طائفة تفسد على الأمة أمر دينها وأخلاقها.

ثالثها: أن بعض الحكومات الإسلامية ترفع إلى مناصبها العالية من لم يتلقوا من علوم الدين ما يميزون به المفسد من المصلح، فيجد الجاحدون لديهم حظوة، ولو مع إعلانهم الإلحاد، وجراءتهم على الطعن في الشريعة الغراء، وإقبال كبراء الدولة على الملحد وتمكينه من المناصب التي يتخذها وسيلة لنفث سموم إلحاده، قد يكون مشجعاً لغيره من زائغي العقيدة على أن يجهروا بزيغهم، ويدعوا إليه وهم آمنون.

رابعها: أن بعض الملاحدة دخلوا في الحركات الوطنية، وتظاهروا بالغيرة على الوطن، فانخدع بهم الناس حتى خلعوا عليهم بلقب الزعامة، فأخذ هؤلاء الزعماء الملاحدة يعملون لنشر الإلحاد بين من يتصل بهم من الشبان.

* كيف يعالج الإلحاد؟

متى قيَّضَ الله للحكومات الإسلامية رجالاً يقدّرون فضل الدين في إصلاح حال الأفراد والجماعات، وفضله في إخراج رجال يطمحون إلى العزة، ويقتحمون كل ما يعترضهم في سبيلها من عقبات، وفضله في بسط الأمن في البلاد، متى قدر أولو الأمر فضل الدين، ومتى تضافر علماء الشريعة على الدعوة إلى الحق بحكمة، وعلى مكافحة الزائغين بالحجة، طهرت الأمة من خبث الإلحاد، وبلغت أقصى غايات المجد والفلاح.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

(المصدر : مجلة “الهداية الإسلامية” – الجزء الثاني من المجلد الحادي عشر، الصادر في شهر شعبان 1357 / رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى