مقالات مختارة

الإفتاء والمجال العام.. نحو تأسيس لفهم المصطلحات وحدودها

بقلم إسلام فرحات – اسلام أون لاين.

في محاولة لفهم خارطة التفاعلات الحياتية وما تنتجه من أزمات تفرض نوعا من التحدي لمواجهتها، يحتاج العقل المسلم دوما أن يدرك حدود المصطلحات التي تمثل أداة فهم هذه الخارطة باعتبار المكون المعرفي أهم مكونات عملية المواجهة مع تلك التحديات…

وفي هذه التفاعلات يتجلى دور الدين كأحد مستندات هذا التفاعل، وهو لدى البعض أحد محفزاته، ليس لكونه دينا بقدر كونه خاضعا لفهوم من يقومون بتفسيره معتبرين فهومهم وتفسيراتهم هي الدين ذاته!

وهنا تظهر الفتوى كأحد أبرز تجليات الحضور الديني داخل المجتمعات البشرية، حيث أثبتت الأحداث التاريخية والمعاصرة أنه لا يمكن فض الاشتباك الحاصل بينها وبين غيرها إلا من خلال إدراك واضح لمصطلح الإفتاء نفسه ومتعلقاته من الفتوى والمفتي وحالة “التفاتي” وكذا لكافة المصطلحات المتداخلة معه وحدودها، واهمها مصطلح المجال العام…

الفتوى والمفتي والتفاتي

وعلى الرغم من أن المقصد هنا ليس التعريفات الكلاسيكية المبثوثة في كتب الفقه أو التاريخ أو الاجتماع إلا أن الاستعانة بتلك التعريفات تظهر جانبا من طبيعة المصطلح لدى أصحابه وبالتالي طبيعة استخداماته وعيوبها وإشكالاتها..

فالفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع: الفتاوى والفتاوي، يقال: أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألته، والفتيا تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتوا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا.. بعكس التفاتي الذي يعني: التخاصم… (لسان العرب لابن منظور)

أي أن عملية التفاتي هي عملية إدارة الصراع بالفتوى وهي الواقع الأهم الذي يمكن مع فهم ملابساته أن نفهم كيفية تجنبه..

وهذا ما تحدث عنه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح في ” فتاوى الأمة وأصول الفقه الحضاري” حينما قال: ” المسار الذي يشكل الانتقال من الحالة الإفتائية إلى حالة التفاتي تسنده بيئة التفاتي بكل آثارها السلبية، وبكل أنواع الأداء التي تخرج عن دائرة ما سُمي في الكتابات التراثية بـ”أدب الفتوى”، سواء تعلق الأمر بالتعامل مع قضايا الفتوى، أو تعامل المفتين مع بعضهم البعض، أو اللياقة والكفاءة المنهاجية التي تُعد أهم عناصر أداء الفتوى (شروط المفتي – شروط المجتهد)، فضلا عن ذلك أدب الفتوى المتعلق بحصانتها ومقامها في التوقيع عن الله ووحيه بتخريج الأحكام وتنزيلها على الوقائع…”

ثم يوضح أن الأسباب والمظاهر المشكِّلة لبيئة التفاتي، تنتج دائما (الفتوى) و(الفتوى المضادة)، وكما عندنا في دول العالم الإسلامي ضمن ما يسمى بصناعة القاعدة القانونية والوظيفة التشريعية؛ فهناك “ترزية القوانين”، إذ لم يعدم حقل الفتوى “ترزية” من نفس النوع بل هم أضل؛ “يفصِّلون” الفتاوى على مقاس طالبها أو المستفتي، وقد يتطوعون بذلك حتى من غير طلب؛ إذ يستشعرون “المطلوب” و”المرغوب” ليفعلوه. صحيحٌ أن هذه الفئة وبتلك الأوصاف نادرة إلا أنها نافذة أو أريد لها أن تكون كذلك…”

التعريف إذن محاولة للفهم.. فلم تعد الفتوى توقيعا عن الله كما عرفها أصحاب الشأن من قديم بل صارت توقيعا عن السلطان او عن أصحاب الاهواء.. وهنا تكون بداية الاشتباك والتفاعل غير الصحي بين الفتوى وبين المجال العام بكل مفرداته الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو غيرها..

وحتى تكون المقاربة أكثر وضوحا فإن تعريف المفتي مثلا يدور في الأدبيات الفقهية حول “من قام للناس بأمر دينهم، وعلم جُمَل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السنن والاستنباط، فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم، ومن استحقه أفتى فيما استفتي فيه” (البحر المحيط للزركشي)

هذا التأكيد على الفهم والإدراك لكل ما يتعلق بالشأن الديني يقابله تأكيد كذلك على فهم الواقع وسياقاته المختلفة حيث يقول الزركشي: ” المفتي من كان عالما بجميع الأحكام الشرعية بالقوة القريبة من الفعل، والمستفتي من لا يعرف جميعها..”

هذه “القوة القريبة من الفعل” هي عنوان إدراك السياق وعنوان تحقيق المناط الذي ينبغي على المفتي أن يكون واعيا به مدركا له، حتى يجنب المستفتي والمجتمع ويلات الاشتباك بسبب فتواه..

ومن أجل أن نستخلص المعنى المحدد للفتوى نحتاج إلى التفريق بين معناها والفقه؛ حتى يدرك العقل المسلم طبيعة الفروق وبالتالي طبيعة العلاقة بين المفتي وهو القائم بالفتوى والفقيه.

رغم العلاقة القوية  التي تربط الفقه بالفتوى، فإن الفروق واضحة فالفقيه: يستنبط أحكام الله تعالى من الأدلة التفصيلية، وتلك الأحكام تحقق مقاصد الشريعة الكلية، والمفتي يدرس الواقع ثم يلتفت إلى الفقه ليأخذ منه حكم الله تعالى في مثل هذه الواقعة بما يحقق مقاصد الشريعة.

فالفقيه مثلا يقول: إن الخمر حرام لقوله تعالى: “إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ” (المائدة).  والمفتي يقول للمضطر بعد أن عرف حاله وطبق القاعدة الشرعية بوجوب ارتكاب أخف الضررين ودفع أشد المفسدتين: “اشرب الخمر مع حرمتها حتى لا تهلك”.

المجال العام

لا يمكننا الحديث عن هذا المصطلح دون ذكر الفيلسوف الألماني هابرماس من حيث هو الاسم الأشهر الذي تناول هذا المصطلح محاولا الإجابة عن سؤال سياسى أساسى هو: كيف يمكن تعزيز مشاركة واسعة النطاق ومتكافئة حول غايات المجتمع الحقيقية؟.

والمعروف أن مصطلحُ “المجال العام” ظهر فى الغرب مرتبطًا باجتهادات “هابرماس” الذى رأى أن كل إطار يمكن أن يجتمع من خلاله الأفراد من أجل تشكيل هيئة عامة دون النظر لأى فوارق اجتماعية بينهم هو بمثابة مجال عام، ففى سنة 1962 كتب هبرماس كتابه “التحول البنائي للمجال العام” والذى تمت ترجمته للإنجليزية سنة 1989 ومن بعدها أصبح مصطلح المجال العام منتشرا بشكل واسع وتم تبادله على أنه يعني “الإرادة الاتصالية فى الممارسة السياسية الديمقراطية”.

وعلى الرغم من أن إيمانويل كانط ظهر المصطلح على يديه للمرة الأولى في مقاله الشهير بعنوان: “ما هو التنوير؟”، والذي كان في سياق المناقشة التى طرحتها المجلة الألمانية المعروفة في هذا الوقت “مجلة برلين الشهرية” Berlinische Monatsschrift على مجموعة من المفكرين الألمان… إلا أن هبرماس يعتبر رائد هذا المصطلح ومؤطره…

وما يعنيني هنا هو تحرير المصطلح بطريقة توضح خطورة التداخل الحاصل بينه وبين التجلي الأهم للدين وتداخله معه وهو الإفتاء..

فالمجال العام يعني الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يتفاعل فيه الأفراد والجماعات، وفيه يتجسد الفعل الاجتماعي.. بعكس المجال الخاص الذي يمتد اجتماعي وثقافيا من الفرد إلى العائلة في بعض تعريفاته، وهو يستوعب التفاعلات المرتبطة بالأفراد والعائلات المعنية بالشأن الخاص. (د. باسم الطوسي.. الغد الأردنية)

وطبقا لهذا الفهم فإن دخول الفتوى لمساحة المجال العام دخول حتمي أملته طبيعة الظرف التاريخي الذي جعل مساحات التشابك أكبر من ذي قبل لطبيعة وسائل الاتصال..

أين الأزمة إذن؟ الأزمة تبدو في عدم قدرة مجتمعاتنا ونخبنا العربية والإسلامية تحديدا على التوافق بشأن تعريف القيم الأساسية وموقعها من المجالين العام والخاص، نظرا لعدم قدرة هذه المجتمعات على وضع الدين في موقعه الحقيقي كقيم إنسانية عليا تضمن قدرة هذه المجتمعات على بلوغ أعلى درجات سلم الحضارة…

الدين وأحد تجلياته وهو الفتوى لا يمكن أن يكونا أداة قيد على حركة المجتمع، ولا يمكن أن تتم إعادة موضعتهما ليكونا في خدمة الأهداف والأهواء سواء للنخب أو للأنظمة أو للجماهير، ولهذا لا بد من فهم الدور الحقيقي للفتوى باعتبارها عند الكثيرين تمثيل لحضور الدين في هذا المجال..

المفتي “موقع عن الله”، والله “يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” إذن لتكن قيم التيسير والرحمة والعدل والمساواة هي المحددات الأساسية لتداخل الفتوى مع المجال العام… تلك هي الرسالة وهذا هو نتاج فهم المصطلحات..

لكن في المقابل فإن هناك مجموعة من الإشكالات التي نتجت عن هذا التداخل وعن غياب موضعة تلك القيم العليا داخل منظومة الاشتباك بين الفتوى والمجال العام..

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى