مقالات مختارة

الإفتاء في النوازل

بقلم د. محمد صلاح الصاوي

الإفتاء في النوازل من فروض الكفايات، وهي ما يقصد حصولها من غير نظر بالذات إلى فاعلها، فهي واجبة على الكل، ويسقط الوجوب بفعل البعض، ويأثم الكل بتركها، فهي أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية ودنيوية لا ينتظم الأمر إلا بحصولها، فقصد الشارع تحصيلها، ولا يقصد تكليف الآحاد وامتحانهم بها، بخلاف فروض الأعيان فإن الكل مكلفون بها ممتحنون بتحصيلها، ففرض العين : هو المنظور بالذات إلى فاعله كالصلاة والصيام ونحوه.

ومن أمثلة فروض الكفاية الدينية: صلاة الجنازة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحجج والبراهين القاطعة على إثبات الصانع، وإثبات النبوات، والاشتغال بعلوم الشرع من تفسير وحديث وفقه، وتولي القضاء والإفتاء .

ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} وقول النبي صلى الله عليه وسلم : من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار . أخرجه الترمذي ( 55 / 29 ) من حديث أبي هريرة، وقال : حديث حسن صحيح .

قال المحلي في شرح المنهاج: ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج العلمية ، وحل المشكلات في الدين ، ودفع الشبه ، والقيام بعلوم الشرع كالتفسير والحديث والفروع الفقهية بحيث يصلح للقضاء والإفتاء للحاجة إليهما .

ويجب أن يكون في البلاد مفتون ليعرفهم الناس، فيتوجهوا إليهم بسؤالهم يستفتيهم الناس، وقدر الشافعية أن يكون في كل مسافة قصر واحد (ويجب لكل مسافة قصر مفت لئلا يحتاج إلى قطعها) مغني المحتاج 4 / 210 حتى قال بعضهم: إذا شغرت البلدة عن المفتين فلا يحل المقام فيها. (أدب المفتي والمستفتي 52) وإن كان التواصل عن بعد في واقعنا المعاصر حل كثيرا من هذه الإشكالات وملأ كثيرا من هذه الفراغات!

وهو يلزم في المقام الأول أهل المحلة التي وقعت فيها هذه النازلة، إذا لم يبادر غيرهم إلى بيانها بيانا تحصل به الكفاية، فما ينزل من النوازل في هذا البلد يتعين على أهل العلم من المقيمين فيه أن ينتصبوا لبيان أحكام الشريعة فيه، ويكون غيرهم من أهل العلم مددا لهم عند الاقتضاء. وذلك كما لو طرأ ما يقتضي تعين الجهاد في محلة فإن تعينه ابتداء يكون على اهل هذه المحلة، فإن لم تحصل بقيامهم به الكفاية امتد الوجوب إلى الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهكذا

والنوازل في هذا البلد ليست سواء، فمنها ما يعتبر من قضايا الرأي العام التي تتناولها أجهزة الإعلام، ويسير بها الركبان، وتصبح حديث القاصي والداني، كمشتهرات الأقوال وشذوذات الفتاوى، أو أعمال العنف التي تنسب إلى بعض أهل الإسلام إن صدقا أو ادعاء، وينفخ الإعلام في كيرها، ويسعى في أن يصطبغ بصبغتها الجاليات الإسلامية المقيمة في هذا البلد، والتي لا ناقة لها في ذلك ولا جمل! فيلزم بيان حكم الإسلام فيها وتبرئة الإسلام منها، ويأتمر في ذلك أهل الفتوى بينهم بمعروف، فمنها ما يتعين الرد عليه والتواصل مع رجال الإعلام بشأنه، ومنه ما قد تقتضي المصلحة تجاهله، وفي جميع الاحوال إذا ورد سؤال لزم الجواب وتعين البيان.

ومن معالم السياسة الشرعية التي يسترشد بها في هذا المجال أن يترك الإفتاء في نوازل كل محلة لأهلها إن حصلت بقيامهم بها الكفاية، فهم أعرف بالحال وأبصر بالمآل، والفتوى معرفة الواجب في الواقع، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكثيرا ما كان يقال: لا ينبغي لحديث العهد بالقدوم من الشرق أن يهجم على الإفتاء في النوازل الغربية حتى يستوعب الواقع ويقف على أبعاده لكيلا يضطرب ميزان الفتوى ويصيبه الشذوذ والشطط،

ولهذا فقد يكون من المناسب أن يقال إن الأصل في قضايا الشرق أن تترك لأهل الفتوى بالشرق، فهم أعرف كما سبق بالحال وأبصر بالمآل، وليس هذا من تجاهل قضايا المسلمين أو عدم الاهتمام بها، بل هو من الحكمة في توزيع المهمات، والتوازن في تحمل التبعات، فإن من البصائر في زمن الفتن ألا تنقل حرائق منطقة إلى أخرى! وأن يعنى أهل كل محلة بهمومهم ونوازلهم في المقام الأول، إلا إذا استنفروا في نازلة عامة، حتى لا تعم تبعات هذه النوازل ومحارقها الأمة كلها في مشارقها ومغاربها، وقد جاء في مغني المحتاج ( ولو لم يفت المفتي وهناك من يفتي وهو عدل لم يأثم فلا يلزمه الإفتاء) شرح مغني المحتاج 4 – 214

ولكن إذا تحول بعضها إلى قضية رأي العام تتناولها وسائل الإعلام، وتتخذ منها سبيلا إلى النيل من الجاليات الإسلامية في هذا البلد والتهييج عليها فهنا يجمل البيان، وأن يأتمر أهل الفتوى بينهم في ذلك، مع استنصاح القانونيين والإعلاميين والساسة في كيفية التعاطي مع هذا الحدث شكلا ومضمونا.

والخلاصة أن تخير ما يتم تنازله من النوازل المشرقية والغربية من مسائل السياسة الشرعية التي ينظر فيها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، ويتقرر حكمها في ضوء ما غلب! ما دام الامرلا يزال في إطارفروض الكفايات، ولم يبلغ بعد مبلغ التعين على أهل محلة بعينها

ومن المعالم التي يسترشد بها في الإفتاء في النوازل العامة المبالغة في إيضاح الحق بالعبارات البينة السريعة الفهم، قال القرافي رحمه الله: ومتى كان الاستفتاء في واقعة عظيمة تتعلق بمهام الدين ومصالح المسلمين، ولها تعلق بولاة الأمور، فيحسن من المفتي الإسهاب في القول وكثرة البيانات والمبالغة في إيضاح الحق بالعبارات السريعة الفهم. الإحكام (83)

ومن المعالم التي يسترشد بها كذلك أن بيان الحكم الشرعي للنازلة ينبغي أن يكون في إطاره العلمي بعيدا عن الشحنات العاطفية السلبية التي قد تسبب بعض الحرج القانوني أو الإعلامي في هذا البلد، وتدخل في مواجهات مع أصحابها حتى لا نقطع عليهم طريق التوبة، فإن استحياء النفوس بتألفها على التوبة والإيمان أحب إلى الله وأرضي له من هلاكها على الكفر والفسوق والعصيان! وقد أرسل الله موسى وأخاه هارون إلى فرعون فقال لهما (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)

قال القرطبي : ((فإذا كان موسى عليه السلام أمر بأن يقول لفرعون قولاً ليّناً، فمَن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه، . وقد قال تعالى وقولوا للناس حسنا)) فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجه منبسطا طلقا مع البر والفاجر والسني والمبتدع، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: “فقولا له قولا لينا، فالقائل ليس بأفضل من موسى و هارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون! ولأننا من ناحية أخرى قد تمس الحاجة إلى استنفارهم في بعض الأوقات العصيبة لنصرة بعض القضايا العامة المشتركة التي لا بد فيها من تضافر جهود الناس كافة من ناحية أخرى”.

ومن معالم السياسة الشرعية في الإفتاء في هذه القضايا أن يكون التركيز على بيان كيفية التعاطي معها دعويا وإعلاميا وسياسيا، وليس على البيان المجرد لحكمها، فإن حكمها في الاعم الأغلب يكون معلوما من الدين بالضرورة لأهل الإسلام، ودور المفتي في هذه الأجواء هو بيان كيفية التعامل مع هذه المواقف بما يحقق المصالح الدعوية المرجوة، ويدفع المفاسد التي قد يحملها مصادمة المألوف عرفيا ومجتمعيا، مع التركيز في الخطاب على إبراز حكمة التشريع، وإيراد الحجج العقلية والمنطقية لهذه الاحكام، وليس مجرد السوق المجرد للنصوص كما هو الحال في خطاب أهل الإسلام الذين اجتمعوا على أصل الإقرار بعصمة الرسالة والرسول

إن الحديث عن بطلان إمامة المراة للجمع، أو حرمة العلاقات الجنسية الشاذة مثلا لا يحتاج إلى كثير عناء في بيانه وتوجيهه فقهيا، فلا يكاد يجادل فيه مسلم غير مغلوب على عقله، ولكن يحتاج في الخطاب العام لمجتمع غير مسلم دعمه بالحجج المنطقية والعقلية والصحية التي تبرز إعجاز التشريع، وتبين توافقه مع الفطرة وكفالته بمصالح العباد في العاجل وفي الآجل.

المصدر: موقع الأمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى