بقلم جمال المعاند
- ما من أمَّة على وَجه البسيطة، تُخضع الخواطر والأقوال والأفعال؛ لخمس درجات من الضبط، تبدأ من أمر يَرتقي للواجب لمن استطاعه، وينتهي بالحرام – إلا أمَّة الإسلام؛ فسلطان الشريعة الغرَّاء عزيز على نَفس كلِّ مسلم مهما كان حظها من الالتزام، إلَّا النادر الذي هو في حكم العدم.
وانفرد عصرنا عصر الاستضعاف للأمَّة الإسلامية، بتبلور مناعة ذاتية تحاول استنهاض المسلمين، عرفت بالعمل الدعوي، الذي يعمل على إعادة الشخصيَّة الاعتبارية للأمَّة الإسلاميَّة، من هنا كان العمل الدعوي مزيجًا من التعليم المؤصل، والإرشاد المؤطر، والقدوة المحتذاة، ولا يمكن أن تتمَّ أي عملية مما سبَق دون استفسارٍ أو استشارة، وهو ما يصطلح عليه بالإفتاء المعاصر.
والحديث عن العمل الدَّعوي مترامي الأطراف ومتعدِّد المسالك؛ فآلاف من الدعاة أنَّى كانوا، وحيثما وجدوا، يقدِّمون جهودًا تستحقُّ التثمين والتدوين.
بيد أنَّ جهدًا من جهودهم يعتريه نوع من الغمط؛ إما ازدراءً، أو تسفيهًا؛ فمِن قائل: تدخَّل بلا علم حبًّا في التصدر، ومن يقول: تسرُّع ينم عن جهل… وبعض المنصفين يصفونه بحاجة أملاها الواقع؛ ذلكم هو الإفتاء الدعوي.
وللبيئة في الفقه الإسلامي عمومًا مكانة تؤخذ بعين الاعتبار، والبيئة الغربية مظنَّة التسهيل بلا خلاف بين من عندهم أنس بعلم، أو ما يعرف عند الفقهاء بحكم المكان، ونقل عن أئمَّة كبار قولهم بذلك؛ منهم عمرو بن العاص والنخعي والثوري…
وفي هذه العجالة رسم لملامح الإفتاء الدَّعوي في الغرب حصرًا، قد لا تنسحب بعض جزئياته على بيئة إسلامية أخرى.
فالإفتاء بعيدًا عن المعنى اللغوي والاصطلاحي الذي تذكره كتب الاختصاص: هو حالة تَصويبٍ لسلوك السائرين إلى الله؛ فالأصل التعلُّم ثم العمل، واصطلاح الإفتاء تبلور إسلاميًّا في نهاية القرن الرابع الهجري، واستقلَّ بمنصب علمي على قول الخضري في تاريخ التشريع الإسلامي، وشأنه شأن كل اصطلاح إسلامي لم يكن مجرَّد لقب، وإنما هو استحقاق نتيجة جهد مبذول؛ مثل الحافظ والقارئ…
والدعاة المعاصرون يعملون دعويًّا وَفق فهمهم لتعريف الشريعة، ولا تكاد تجد من بينهم أحدًا إلَّا ولسان حاله أو مقاله قول الإمام الجرجاني: عن الشريعة هي: “الائتمار بالتزام العبودية”؛ التعريفات ص (167).
ومن منطق العبودية التي هي لب التديُّن؛ فإنَّ المحافظة على جذوته متَّقدة أمر يتطلَّب نوعًا من المساعدة العلمية ونوعًا من الدربة العلمية، وهو ما يمكن وصف الإفتاء الدعوي به عمومًا، فلا ينتمي لتحرير المسائل العويصة، أو إيجاد الحلول لمستجد، وإنَّما يكاد ينحصر عمومًا في العبادات وبعض المعاملات…
وعند تأصيل الإفتاء الدعوي، الذي لا يعدو نطاقَ الجواب لِمن نقص عنده علم، أو إرشاد لعزيمة، أو أخذ برخصة، نجد أن علماءنا أصَّلوا لِمثل هذه المواقف، والبدء من حيث إنَّ فقه الأقليات هو فقه ضرورة؛ كما يذكر العلَّامة ابن بيه في بحث منشور له على موقعه عن وصف فقه الأقليات، بعنوان: تحقيق المناط في فقه الأقليات:
- “إنَّ أوضاع الأقليات المسلمة في ديار غير المسلمين، يمكن أن توصَف بأنَّها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يَشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص”.
وكما هو معلوم فإنَّ الضرورة تُسقط الواجب وتبيح المحظور وتقدَّر بقدرها وتزول بزوال سببها؛ فهي مؤقَّتة، أمَّا الحاجة فإنها تُبيح المحرَّم عند انتفاء علَّة التحريم وهي دائمة؛ وهذا هو فِقه الأقليات عمومًا يتأرجح بين طارئ مؤقت وفقدان علَّة دائم، يضاف لهما عموم بلوى.
وقد شرط العلماء للمفتي شروطًا تلائم البيئات الإسلاميَّة حيث وفرة العلماء، ولم يغفلوا عن ظرف طارئ؛ بل كانوا دائمًا يسعون إلى التسديد والمقاربة، وفرَّقوا بين: “علم الفتوى وفقهها”؛ المعيار المعرب للونشرسي (1/ 78).
وبين عِلم الفتوى وهو ما يَحتاط له بوضع الشروط، وصناعة الفتوى أو فقهها، يجب أن يؤخذ البعد المكاني بعين الاعتبار، ووفرة أهل العلم، وإن كان نَفْرُ طائفة من العلماء لفتيا الناس أمرًا مطلوبًا على أي حال وفي أي مكان.
وفي هذا يذكر العلامة محمد تقي الأميني – من كبار علماء الهند المعاصرين – في كتابه الموسوم: “الأسس الفكرية الإيمانية للدستور القرآني”، وهو يصف الفقيه:
“وفي مصطلح الشريعة هو: مَن يكون الفقه ملَكة له، وإن لم يكن حافظًا بالقانون الإسلامي، والفتاوى المتداولة؛ لأنَّ الفقه هو الملكة المؤهلة لاستنباط الأحكام ومعرفتها لمراعاة الأحوال والأوضاع والظروف”؛ ص (122).
لكن السؤال الذي يفرض نفسه:
- هل خلو المكان من مختصٍّ يعطِّل القيام به؟
إنَّ علماءنا من السلف فطنوا لمثل هذه الحالات، وأدلوا بحلول لها، منها:
ما قاله الإمام ابن حزم:
- “كلُّ مَن علم مسألة واحدة من دينه مع الرتبة التي ذكرنا جاز له أن يُفتي بها، وليس جهله بما جهله بمانعٍ من أن يفتي بما علم”؛ الإحكام شرح أصول الأحكام (2/ 121).
ولا ينكر إلَّا جاحد أنَّ الدعاة يعيشون الدعوة همًّا يوميًّا؛ بين ممارسة ومطالعة، وذَكر صاحب شرح الكوكب المنير، بجواز الإخبار عن فتوى بقوله:
- “أفتى فلان في كذا بالحكم الفلاني” (4/ 570).
وزاد الإمام السرخسي في الأصول:
- “فأما الكتب المصنَّفة التي هي مشهورة في أيدي الناس، فلا بأس لِمن نظر فيها وفهم شيئًا منها، وكان متقنًا في ذلك أن يقول: قال فلان كذا…”؛ (1/ 378).
وعضد العلامة المالكي ابن فرحون فقيه الحنفية ابن عابدين بقوله:
- “سئل الشيخ محمد بن أبي يزيد عن الرجل إذا لم يستبحر في العلم، وإنَّما نظَر في المدونة والموطَّأ والمختصر، ونحو ذلك يسأل عن النازلة؛ هل له أن يفتي بما رآه في هذه الدواوين… فأجاب: إذا سئل عن نازلة وجدها في هذه الكتب فليفتِ بها ويحمل نفسه عليها إن نزلت به”؛ تبصرة الحكام (1/ 75).
وقال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام:
- “ليس من شرط المفتي أن يكون عالمًا بجميع أحكام المسائل ومداركها؛ فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر”؛ (4/ 164).
وكيف يحيط إنسان حفظًا بفروع تصِل في الفقه وحده إلى ما يربو على المليون ومائتي فرعًا، قد تجد في الفرع الواحد أكثر من تسعين قولًا معتمدًا.
وزاد ابن حمدان الحنبلي:
- “من عرف القياس وشروطَه فله أن يفتي في مسائل قياسيَّة لا تتعلَّق بالحديث، ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها، وإن جهل أحاديث النكاح”؛ صفة الفتوى ص (20).
ويصل ابن النجار الفتوجي الأمر لحد الواجب فيقول:
“وإن لم يكن في البلد غيره لزمه الجواب قطعًا، ذكره أبو الخطاب إمام الحنابلة في عصره ت 510هـ”؛ النجوم الزاهرة (2/ 212).
حيث إنَّ الفتوى طبقًا لتعريف المالكية لها أنها:
- “إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة”؛ الذخيرة (10/ 121)، بمعنى من طرق تعليم الناس ونشر الدِّين.
وثمَّة نقطةٌ جديرة بالبحث، تكمن في تغيُّر بعض المعطيات في نازلة عما هو مسطر في الكتب القديمة؛ فإمام الحرمين الجويني في كتابه الغياثي، افترض أمورًا يمكن أن تحدث لا تنطبق عليها كافة الشروط، فعمد إلى المقاصد، ومما قال:
- “إذا خلا الزَّمان من حملة العلم الشَّرعي، فيجوز البيع لم يراع فيه إلا ركن التراضي”.
أمَّا ابن القيم فقال:
- “افتراض خلوِّ المكان من العدول فأجاز شهادة الفاسق”؛ القولان نقلًا من بحث ابن بيه عن المناط في فقه الأقليات على موقعه.
ونقل ابن عابدين في رسائله عن فخر الأئمة:
- “لو أفتى مفتٍ بشيء من هذه الأقوال في مواضع الضرورة؛ طلبًا للتيسير، لكان حسنًا”؛ (1/ 50).
ويؤصِّل الإمام المحلي في شرحه للمنهاج الإفتاء الدعوي بقوله:
- “ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج العلمية، وحل المشكلات في الدين، ودفع الشبه، والقيام بعلوم الشَّرع؛ كالتفسير والحديث والفروع الفقهية”؛ (4/ 216).
وربما يتبادر إلى الذِّهن أنَّ كلام الإمام المحلي يختصُّ بمن هو أهله للفتوى، ويوضح الإمام النووي في روضة الطالبين:
- “متى لم يكن في الموضع إلا واحدًا يصلح للفتوى، تعيَّن عليه أن يفتي وإن كان هناك غيره؛ فهو من فروض الكفايات”؛ (11/ 98).
لأن المقصود ليس التصدُّر أو التسرُّع، وإنَّما المحافظة على جذوة التديُّن، فقد ذكر د. محمد سعيد اليوبي، في كتابه “مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية”:
“أهم المقاصد المحافظة على الدين؛ بل هو لبُّ المقاصد كلها وروحها”؛ ص (192).
والأحكام الشرعية مبنية على أمرين:
1- أحكام مبنيَّة على الوصف.
2- أحكام مبنيَّة على العرف أو العادة.
وعند العرف لا يمكن إغفال عُرف البلد الذي يَعيش فيه المستفتي؛ من هنا نصَّ علماؤنا على قاعدتهم الشهيرة:
- “لا ينكر تغيُّر الأحكام بتبدل الزمان والمكان والحال والنية والعادة”.
وآلية إصدار الفتيا تتم وفقًا للقواعد التالية:
1- تصور النازلة.
2- تكييف النازلة.
3- بيان الحكم.
4- الجواب.
ويمكن القول: إنَّ الإفتاء الدعوي تضبطه الخطوات التالية:
أ- البعد الأصولي أولًا؛ فيبحث المفتي الدَّعوي عن قاعدة أصولية أو قاعدة فقهيَّة يتَّكئ عليها.
ب- البعد الفقهي اختيار قول يلائم الواقع.
ج- البعد الأخلاقي أو إدراك مآل الحكم.
وأهم القواعد الأصوليَّة والفقهية التي يستحضرها المفتي الدعوي هي:
1- قاعدة: لا ضرر ولا ضرار.
2- الوجوب يتعلَّق بالاستطاعة.
3- درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
4- رفع الحرج؛ حفاظًا على حرارة الإيمان من القنوط.
5- إذا ضاق الأمر اتَّسع، إذا كان ثمَّة مشقة فالرخصة.
6- السؤال عن المكونات في فتوى السلع.
7- اعتبار المآل عند كلِّ فتوى أو عاقبة النازلة.
8- تحقيق المناط – التطابق بين علَّة السؤال وعلَّة الحكم.
9- الأخذ بعين الاعتبار المكون الاعتباري، سواء للشخص أو الإسلام.
ممَّا سبق يتَّضح أن الإفتاء الدعوي جزءٌ من الممارسة الدعوية، وهو بالمقام الأول عملية إرشادية أملَتْها حركية العمل الدعوي وليس استخفافًا بالإفتاء، والدعاة أولًا وقبل كل شيء هم طلبة علم لا يفارقهم كتب إسلامية ولا تُخطئ مسامعهم يوميًّا من عالِم يتحدَّث، وتجول نظراتهم في عشش الشبهات، فتضبط عقولهم الإرجاف توثيقًا.
كل ذلك يعد ربطًا مستمرًّا بمصادر العلم من علماء ومراجع.
المصدر: شبكة الألوكة.