الإصلاحيان المجدّدان.. محمّد الطّاهر بن عاشور ومحمّد الخضر حسين
بقلم د. فتحي الشوك
يعتبر الشّيخان العالمان الإصلاحيان المجدّدان محمّد الطّاهر بن عاشور ومحمّد الخضر حسين قامتين علميّتين ومنارتين مضيئتين ما زال إشعاعهما مستمرّ إلى حدّ اللّحظة وإسهامهما في الفكر الإصلاحي التجديدي واضح وجليّ وقد تركا إرثا عظيما وساهما في نهضة أمّة غارقة في سبات عميق، مستكينة لواقع الذلّ، مسلوبة الإرادة وراضية بالدّون والمهانة. فما الّذي يجمع بين هذين الشّيخين الجليلين؟ وما الّذي يجعلهما استثناء مضيئا ومثالين لعالمين حقيقيين متميّزين ومختلفين عمّا نشاهده اليوم من علماء البلاط والسّلاطين؟
ولد محمّد الخضر حسين في مدينة نفظة التّونسية سنة 1876م ونشأ في أسرة علم وأدب وكانت نفظة حينها موطنا للعلم والعلماء إلى حدّ وصفها بالكوفة الصغرى، حفظ القرآن في سنّ مبكّرة وانتقل إلى تونس العاصمة والتحق بجامع الزيتونة وسنّه لم يتجاوز بعد الثّلاثة عشر عاما، وقد تتلمذ على يد خاله محمّد المكّي بن عزّوز ومشايخ أجلّاء آخرين لعلّل من أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب الّذي يعتبر من أعمدة الإصلاح في تونس( ولد سنة 1827 بمدينة بنبلة التونسية وتوفّي سنة 1924).
تخرّج الشّيخ محمّد الخضر حسين من جامع الزّيتونة سنة 1898م ليلتحق بالتدريس، وهو من أصدر أوّل مجلّة تونسية باللّغة العربية (السّعادة الكبرى) سنة 1904م ومن مؤسّسي الجمعية الزّيتونية، تولّى القضاء في مدينة بنزرت ثمّ هاجر إلى الشّرق بعد أن صار مستهدفا من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي الّتي وجّهت إليه تهمة “حمل روح العداء للغرب” واستقرّ بمصر حيث اختير في 16 سبتمبر1952 شيخا للأزهر شريف في سابقة لم تحدث من قبل ليتولّى المهمّة لمدّة سنتين قبل أن يستقيل في 7 يناير 1954. له كتابات عديدة في الفقه والتفسير والأدب لعلّ من أهمّها: رسائل الإصلاح (ثلاثة أجزاء)، بلاغة القرآن، الحرّية في الإسلام. توفّي رحمه الله واسكنه فسيح جنانه في 28 فبراير 1958.
ولد محمّد الطّاهر بن عاشور بتونس سنة 1879، نشأ في أسرة علمية عريقة ذات أصول أندلسية، أتمّ حفظ القرآن في سنّ مبكّرة والتحق بجامع الزّيتونة وهو في الرّابعة عشر من عمره ليتخرّج منها سنة 1896م ويلتحق بسلك التدريس بأروقته كما درّس في المدرسة الصّادقية ممّا أكسبه تجربة فريدة جمعت بين الأصالة والمعاصرة، تتلمذ على أيدي العديد من الشّيوخ الأجلّاء وكانت بصمة الشيخ سالم بوحاجب واضحة كما لدى الشّيخ محمّد الخضر حسين.
اختير شيخا لجامع الزّيتونة سنة 1932م كما سمّي شيخا للإسلام المالكي وقد استقال نتيجة للعراقيل الّتي واجهها عند محاولته القيام بإصلاحات جذرية في التّعليم الزّيتوني ليعاد تعيينه من جديد سنة 1945م ليتمكّن هذه المرّة من تحقيق برنامجه الإصلاحي معيدا للزيتونة إشعاعها.
ترك إرثا عظيما وكانت كتاباته بمثابة ثورة على التقليد الأعمى والجمود والتكلّس العقلي. ويعتبر كتاب التّحرير والتنوير من أهمّ التّفاسير في العصر الحديث وهو محصّلة خمسون سنة من العمل والاجتهاد مقدّما بذلك إضافة علمية نوعية في مجال التفسير. توفّي رحمه الله واسكنه فسيح جنانه في 12 أغسطس 1973.
كان الشّيخان محمّد الخضر حسين ومحمّد الظّاهر بن عاشور متخرّجين من نفس المدرسة ويحملان نفس الفكر، كانا عالمين مصلحين مجدّدين جعلا همّهما الأكبر الإصلاح والتجديد وإحياء علوم الدّين من خلال الإسلام في محاولة استحضار صورته المشعّة الصّافية الأولى وتنقيتها ممّا أصابها من شوائب لتنزيلها على واقع يشهد العديد من المتغيّرات، ولا يخفى تأثير الشيخ سالم بوحاجب عليهما الّذي كان قريبا من الشّيخ محمّد عبده ومتبنّيا لفكره الإصلاحي.
وقد واجه الشّيخان العديد من العراقيل والصّعوبات المتأتّية من المنتسبين للمدرسة التقليدية، الرّافضين لأيّ تغيير أو تجديد وكذلك من الّذين يبشّرون للتحديث والتمدين المتمثّلين في المستعمر الأوروبّي وما أنتجه من وكلائه الوظيفيين والّذين يرون انّ التغيير يتمّ من خارج الإسلام وعبر استبعاده.
تصادم الشّيخان مع المستعمر، كلّ بطريقته فاختار الشيخ محمّد الخضر حسين أن يهاجر ليكون سندا للمقاومة من الخارج بينما آثر الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور أن يمكث في الدّاخل ويقاوم (من مواقفه أنّ المستعمر في أزمة التجنيس سنة 1933م طلب منه إصدار فتوى تطبّع مع من تجنّس فأفتى عكس ما يراد منه بأنّ على المتجنّس أن ينطق بالشّهادتين لدى حضوره لدى القاضي وفي نفس الوقت يتخلّى عن جنسيته الفرنسية).
وقد تواصل صدام هذين الشيخين مع وكلاء المستعمر الأجنبي بعد نشوء ما يسمّى بالدّول الوطنيّة الوظيفية، فمن مواقف الشّيخ محمّد الخضر حسين استقالته بعد ضغوط جمال عبد النّاصر عليه لاستصدار فتوى تعتبر الاخوان المسلمين كفّارا أو خوارج أو بغاة فقال الشّيخ حينها: “معاذ الله أن أختم حياتي بهذه الفتوى وأضع دماءهم في رقبتي، معاذ الله أن أقول على الدّعاة بغاة” وأضاف: “وانّي أشهد أنّ الإخوان دعوة ربّانية عرفتهم ميادين البذل والعطاء والجهاد والتضحية، لم يخونوا ولم يغدروا بما عرفت عنهم وها أنا ذا أعلن استقالتي من كلّ منصب يحول بيني وبين إرضاء ربّي”.
ومن مواقف الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور المشهورة رفضه القاطع إصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان بعد أن طلب منه الحبيب بورقيبة ذلك سنة 1961م فما كان من الشّيخ إلّا أن صدمه بعكس ما يرغب فيه فتلا على المذياع آية الصّيام ليختم بقوله: “صدق اللّه وكذب بورقيبة”. هكذا كانت بعض مواقف هذين العظيمين، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولا يخافون في الحقّ لومة لائم. أمّا عن علاقة الشيخين بعضهما ببعض فيكفي أن نسرد ما كتبه الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور في رسالة شعرية للشّيخ محمّد الخضر حسين حينما كان في دمشق سنة 1912م حيث قال:
بعدت ونفسي في لقاك تصيد فلم يغن عنها في الحنان قصيد
إذا ذكروا الودّ شخصا محافظا تجلّى لنا مراك وهو بعيد
إذا قيل من للعلم والفكر والتّقى ذكرتك إيقانا بأنّك فريد
فردّ الشّيخ محمّد الخضر حسين فقال:
بعدت وآماد الحياة كبيرة وللأمد الأسمى على عهود
بعدت بجثماني وروحي رهينة لديك وللودّ الصّميم قيود
ليال قضيناها بتونس ليتها تعود وجسم الغاصبين طريد
رحم الله الشّيخين العالمين المستنيرين العظيمين وأسكنهما فسيح جنانه.