الإسلام ونشأة الكليات في أوروبا
نورمان دانيال
ترجمة: هند أحمد
مركز نماء للبحوث والدراسات
يوحي لك كتاب جورج مقدسي الذي يطرح العديد من الأسئلة المهمة أنك تستمع إلى محامٍ عظيم وهو يطرح قضية موكله المسكين. من المؤكد أن هذا المحامي يؤمن إيمانا شديدا بعدالة القضية وهو يرغب في إقناعنا بأن الشهادات والشواهد ليسا كما يبدو. ينقسم هذا العمل الأدبي إلى أربعة أقسام أو اثنين إذا ما أردنا التحديد، حيث تتناول الثلاثة الأرباع الأولى «المؤسسات» (بما في ذلك نظام قانون الأوقاف) والتعليم (وعلى وجه الخصوص المناهج) و«المجتمع المدرسي» (وربما علينا أيضا فهم «المجتمع الدراسي» حيث إن «scholastic» بالإنجليزية تعني الأمرين، وبشكل عام تعني المعلمين والطلاب وبخاصة «المناصب والمهن والوظائف» أو الجوانب الإدارية). ويُعنَى الربع الأخير من العمل بـ «الإسلام والغرب المسيحي» تحت الأقسام الثلاثة نفسها ويتمحور باقي الكتاب حول هذا الربع. ويقدم لنا الكاتب رؤىً ذات قيمة لفهم الحياة الطلابية في العالم العربي في ذروتها، وعلى وجه الخصوص خلال ما شاب القرن الرابع الهجري من تدهور، ولكن أكثر ما يُعنى الكتاب به هو احتمالية تأثر التعليم الأوروبي تأثرا خلاقا بالعالم العربي في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. إلا أن الكاتب لا يبذل أي مجهود ليوضح لنا كيف تحقق هذا التأثير وبأي السبل، بل هو يكتفي بعدد كبير من «المقارنات» ويرى في تراكمها برهانا على وجهة نظره. ويقر الكاتب بخطر الاعتقاد في مقولة «حدث بعده، إذا فهو سببه» ولكنه لا يعتقد أن من الممكن وجود مثل هذا العدد الكبير من أوجه التشابه بين الثقافات دون أن تكون أحدهما أصلا للأخرى، فهو يرى أنه من المستحيل أن تكون أوجه التشابه بمحض الصدفة كما لا يعتقد إمكانية حدوثها بتفسير آخر.
لكن هل هناك ما يدعو للتعجب في وصول العرب والأوروبيين عند تعاملهم مع ظروف متشابهة خاصة مع اتباعهم لذات الفلسفة اليونانية في إطار معطيات محددة إلى حلول متوازية؟ فناتج عشرة في صفر ما يزال صفرا، وعليه، لتقييم أطروحته علينا فحص قيمة كل من الأفكار المتوازية على حدة، إلا أن الكتاب طويل، وبالتالي لا يمكننا سوى اتخاذ القليل من الأمثلة. هناك سؤالان كان على الكاتب أن يطرحهما؛ أهناك مقارنات متشابهة أخرى توضح لنا أنه ليس هناك تأثير؟ وهل هناك فروق نجهلها تساوي قدر أهمية هذه المتشابهات؟ كما أضيف أن هذا الكتاب ذو قيمة خاصة بخلاف الرؤية التي يتمسك بها الكاتب بشدة.
ويعنى الأستاذ/ مقدسي أهمية كبرى للتشابه بين الوقف وصناديق الائتمان الخيرية الغربية، ويكمن التشابه في أن المتبرع يقوم بذلك طوعا بإرادته الشخصية دون أن تقوم «الحكومة المركزية» أو الكنيسة بدور الوسيط. ويقر الكاتب أن الجماعة في حد ذاتها ليس لديها متوازيات في العالم العربي في تلك الحقبة، ومن ثم يركز اهتمامه على مسألة الرابطة . تبعد فكرة «الحكومة المركزية» بشكل كبير عن مبدأ الإقطاع، ما لم يقصد بها «الملك»، وفي هذه الحالة يمكن تفادي الغموض بذكر كلمة «الملك». يحدد الإقطاعي ما يتبع إقطاعيته من بلدات من قانون دون تدخل من الملك. بل إن أسس المؤسسات الدينية الخاصة تسبق الأثر العربي المزعوم بمراحل، وهنا نطرح التساؤل: ما الكنيسة؟ فكانت هناك كنائس وأديرة وأبرشيات وكان تأثيرها يرتكز عامة على دعم صدق وحرية الواهب في وهب حقوقه بغض النظر عن مصلحة سيده. فكيف يمكن التمييز بين الرابطة والدير من وجهة النظر القانونية ؟ لقد نجحت البابوية فيما بعد الحقبة الجريجورية في دمج السلطة العقائدية والسلطة القانونية ولكنها لم تفكر في منع المؤسسات الخاصة. فلم تطرح مسألة الوساطة إلا من أجل استنكارها ومن ثم خلق فكرة موازية أخرى. ومما لا شك فيه أن النوعين من المؤسسات يتشابهان ومن دون حاجة إلى أي شرح.
إن ما يتطرق إليه الكاتب بشأن صاحب الفقيه والمتفقه له غرض اجتماعي وإنساني ولكني لم أقتنع بمقارنته «بالزميل» أو الشريك؛ فالأولى تعنى «الرفيق الدائم المريد » وهو بعيد كل البعد عن الشريك، وهي عضو في كيان قانوني وهي الرابطة. وقد يؤدي احتفاظ الحكام الإسبان بالحق في إنشاء جامعات إلى اتباع نموذج مغربي، وهذا ليس إلا افتراض ولكنه معقول. ونجد في نهاية الكتاب قائمة بالوظائف المدرسية والوظائف التي تعتبر في معظم الحالات نسخا طبق الأصل من قرينتها العربية. وإني لم أجد أية مناقشات حول مجموعة من هذه الحالات وفيما يبدو أن مجمع المسرد لم يجدها أيضا. والجدير بالذكر أن هذه الوظائف لم توجد إلا من خلال بعض التدخلات الخارجية، فيرجع التشابه في الآونة الأخيرة بين حارس العقار الفرنسي والبواب العربي إلى أن المباني الضخمة تتطلب هذه المهنة، من دون أن تكون احداهما أصلا للأخرى، وينطبق هذا أيضا على الوظائف المدرسية في القرون الوسطى، ولا سيما وإنه ينقصنا هنا تقديم برهان على العكس. فلنتناول مقارنة خادعة أخرى، ألا وهي محكمة تفتيش المأمون ومحكمة التفتيش الكبرى، بمقارنة الأمرين ، قد يتطرق للذهن وجود مؤسسة مستقلة ثابتة يقودها قضاة متخصصون في الكشف عن الهرطقة الخفية مثل محاكم التفتيش الإسبانية والرومانية. إلا أن مثل محاكم التفتيش هذه لم تعرف في بغداد بل بالأحرى هنا علينا أن نتحدث عن فكرة القمع من دون اقتراح أية متشابهات توحي بالمزيد عما هو موجود بالفعل. يمتد هذا الاتجاه إلى إجراء مقارنات أكثر مما تبرهن عنه الأحداث في ترجمة المصطلحات التقنية ، فمصطلح «Jurisconsult» هو الترجمة الوحيدة الممكنة باللغة الإنجليزية لكلمة الفقيه، وهذا هو السبب بالتحديد وراء ترك كلمة فقيه كما هي بدون ترجمة في الفرنسية؛ فوظيفة الفقيه تختلف تماما عن الفقيه القانوني بقدر اختلاف الفقه عن القانون الكنسي، خاصة وأنه على الرغم من أهمية رجال القانون في المسيحية بالنسبة للبابوية على الصعيد المالي، فهم لم يحظوا قط بذات القدر السياسي الذي ناله الفقهاء في خدمة السلاطين في القرن الرابع الهجري.
إلا أنه يبدو أن الكاتب يرى في المنهجية الجانب الأهم، فيبدو أن كلا من القراءة اللاتينية والقراءة العربية تتشابهان في تطورهما بشكل واضح. ومما يثير الدهشة للإنجليزي من أوكسفورد أن كلمة قراءة بالعربية قد فقدت معنى الاستذكار الذي كانت تحمله، بينما تحتفظ الإنجليزية بذلك المعنى في «read history». ولكن بما أنه كان هنالك أساتذة وتلاميذ وكان هناك أيضا نقص في الكتب المطبوعة، فالقراءة لم تتمتع بنفس الظروف في كلا الحالتين. أما بالنسبة للنحو، فيتحدث الكاتب عن علماء النحو في القرون الوسطى الذين تطرقوا إلى تبديل كلمة regere (وهي régir في الفرنسية الحديثة) بالكلمة القديمة exigere (وهيrequérir في الفرنسية الحديثة)، في حين يتناسب هذا المصطلح الجديد مع الاستخدام العربي لكلمة “عمل”. ومما يثير الفضول هنا معرفة هل هناك استعانة بالمصطلح التقني العربي أم أن هذه مجرد صدفة؟ ولابد أن نعرف أن النحو العربي لا علاقة له باللاتينية التي نقلت هذا الاستخدام، والذي لا ينسبه أي من المعاصرين إلى العرب؟ هذا حسبما يري الأستاذ/ مقدسي تأثير علماء النحو من ضمن المترجمين، والسؤال هنا كيف لهذا العدد الضئيل من المتخصصين التأثير على هذا النحو على أعداد لا حصر لها من المدارس اللاتينية إلى درجة تغيير مصطلح مستخدم في الحياة اليومية دون ترك أي أثار أخرى؟
والأهم ههنا هو التأثير المزعوم للإشكالية العربية حول منهج التدريس الغربي وخاصة لشرح «مأساة الظهور المفاجئ» (« dramatically abrupt appearance») لمنهج نعم ولا في الغرب. ويلاحظ الكاتب أن كتاب أبيلار ليس إلا تطبيق منهج قيد التنفيذ بالفعل على علم اللاهوت، كما لخص أيضا كتاب بيرتولا في فقرة طويلة خص فيها ما سبق من أدباء منذ عهد شارلمان. كان هناك بالطبع بعض التقدم، ولكن هل يمكنه أن يكون أقل «فجائية»؟ يذكر البروفسور مقدسي أن لا بد من وجود ثغرة («missing link») في تطور التعليم المدرسي في الغرب. كان من الأفضل هنا الاهتمام بتحليل ونقد مقدمة أبيلار نفسه؛
ويوضح البروفسور مقدسي أنه بالإمكان التعرف على إشكالية التعليق العربي أو بالأحرى على توابع إشكالية التعليق. ورغم ذلك فهو لم يثبت لنا في أي جزء من الكتاب أنه تم استخدام خلافا عربيا كقاعدة شفوية، وأن هناك أمرا يشبه التساؤلات المتنوعة التي لم يتحدث عنها. وتعد الخلافات التي يتحدث عنها من نوع «الرياضات الجماعية» أو match (على حد قوله باللغة الانجليزية). كانت هذه الخلافات حول الكلام ثم أصبحت بعدها تدور حول الفقه، وبما أن قواعد الفقه ترجع إلى القرآن فإن مناقشة هذه القواعد مستحيلة، بينما كان من الممكن مناقشة الطرق (أصول الفقه). فما هو وجه الخلاف؟ ناهيك عن الترادف المزعوم بين مناظرة ونظرة، فمما لا شك فيه أن مناظرة تعني «خلاف»، ولكني أكرر أن هذا الكتاب لم يذكر أبدا في أية حال من الأحوال استخدام خلاف كطريقة للتعليم. فهناك اختلاف كبير بين تعليم كيفية النزاع في جدل كتابي أو في مباراة كلامية. ومما لا شك فيه أن التعليم في النظامية ببغداد يجرى في حلقات. وتعد المقارنة بين ابن عقيل وسانت توماس مثيرة للاهتمام وطريفة أيضا ولكن فضل مقدسي منهج ابن عقيل على منهج سانت توماس في المجمل لأنه أسهل في القراءة، وربما لأنه مكتوب بحيث تتم قراءته؟ وبما أن ابن عقيل مثل سانت توماس قد علم أن الايمان يتفق مع العقل، فتكمن الإشكالية في قواعد الإفصاح في الإسلام وفي المسيحية. فمن الجانب الإسلامي يعود ذلك إلى المتكلم وليس إلى الفقيه، وعلى أية حال فليس لذلك أية علاقة بالمنهج. ونأمل أن يقدم لنا البروفسور مقدسي في يوم ما مقارنة أكثر تفصيلا بين هذين الأستاذين الكبيرين كل منهما في سياقه التاريخي.
نحن نتساءل في كل الكتاب عما يعنيه الكاتب، لكنه مقتنع بشدة بالتشابه بين المنهجيتين (ولكن في عصور لم يحددها بالتفصيل) لدرجة أنه لم يذكر سبل التواصل التي انتقل هذا التأثير من خلالها من العالم العربي إلي أوروبا، فالتأثير بالنسبة إليه هو واقع ويكفي ذكر أن هناك جذورا محتملة. فمن غير الكافي تكريس صفحتين فقط لهذه الجذور «channels of communication » أي قنوات التواصل. لقد زار فوتيوس محكمة المتوكل وهو صاحب كتاب quaestiones amphilochianae الذي يشرح فيه قواعد حل التناقضات. كانت الثقافة البيزنطية وطيدة في جنوب إيطاليا فكان من السهل أن يصل عمله الأدبي إلى هناك (« would have had no trouble in arriving») أو كان من الممكن أن يصل كتابه عن طريق طليطلة («may have come directly…»). كل ذلك مجرد افتراض، فمن لا يفترض عدم وجود طرق تواصل بين بيزنطة والغرب مثل تلك التي بين العالم العربي والغرب؟ وتلك ليست هي المسألة، فما نبحث عنه بدون جدوى هو التحديد الدقيق لمرور منهجية التعليم العربية بأحد هذه الطرق المحتملة. ويستشهد الكاتب بقسطنطين الإفريقي الذي نعلم معلومات ضئيلة عنه، إلا أن تراجمه تفتقر إلى الانتظام. والمثير للدهشة هو قراءة أن «بالرغم من أنه لم تتم ترجمة أي من كتب القانون أو اللاهوت – وهو ما ليس مؤكدا – فإن منهجية التعليم قد تكون انتقلت من خلال كتاب في علم الطب». وقد ذكر علم الطب لأنه قادر على تعيين كتاب عربي في الطب يتم تطبيق الخلاف عليه – ولكنه غير قادر على تعيين ترجمة من القرون الوسطى، فذلك يمثل إنشاء أدلة في رأيه الشخصي. ويعتبر الكاتب متشوقا لافتراض وجود أمر لأنه « ليس مؤكدا بتاتا» غير موجود، فلا يمكن ملء الفراغ بصورة إرادية. ورغم ذلك قد ظهرت بعض التراجم الضئيلة، ففي علم اللاهوت هناك كتاب ابن تومرت وترجمه مارك دو توليد وهو منشور من خلال دار ام تي دالفرني، وغيره من الكتب الفلكلورية بعض الشىء لفريق كلوني والمنشورة من دار كريتزيك، ولكن هذه الكتب لم تشهد استخداما للخلاف. وإن عدم وجود ملامح للفقه في القرون الوسطى اللاتينية لأمر غير لافت للانتباه بسبب محتوى هذه المادة، فقد تدارس العلماء الدومينيكان في القرن الثالث عشر الأحاديث في إسبانيا (وهي حقبة متأخرة كثيرا لإحداث تأثير على المنهجيات التعليمية) إذ إنهم لم يختارو من الأعمال الأدبية في الحديث سوى تلك التي تنم عن بغض لأخلاقيات المسيحية، وذلك بهدف الجدل. فلا توجد أية معالم لترجمة أي عمل أدبي في الخلاف، وبالرغم من ضعف احتمالية إجراء تراجم في الفقه، إلا أن فقدان أي من الأعمال الأدبية شىء وارد، ولكن بناء الأفكار على أمور احتمالية كمثل البناء على رمال.
ويضيف الكاتب أن أبيلار لم يكن يجهل (« was not unaware of ») الساراكينوس، لأنه ذكر أنه حظي باستقبال جيد منهم بعد أن اتهم بأنه مسيحي سيء. وتذكر مخطوطة أن اللفظ المستخدم من أبيلار كان païen لكن استبدله جان دو مون في الترجمة بلفظ ساراكينوس لإعطائه المعنى الحقيقي. ولم يكن جان دو مون يعلم ما يقصده أبيلار من هذا، لكنه علم أن païen في ذلك العصر كانت تعني ساراكينوس، أو غير مسيحي، (وعلى أي حال استخدم أبيلار لفظ سكان وليس وثنيين)؛ ومن البديهي أن المتعلمين (أو غير المتعلمين من المشعوذين) لم يكونوا على علم بوجود الساراكينوس، إذ إن أبيلار لم يكن على دراية بأمرهم قط، وهذا بالطبع ما كان ينبغي توضيحه . وتحمل هذه الألفاظ « تحت أي حكم » معرفة أكثر امتدادا، بالرغم من عدم ذكر ذلك في الكتاب. ولا تشكل أي من هذه الاعتبارات الضئيلة أي إثبات لانتقال المنهجية. بينما يتصور البروفسور مقدسي سائحا من بغداد (في حقبة غير محددة) يزور الغرب على مدى قرنين، فهو يتحلى بالثقة في حين ما يعلمه يعد ضئيل جدا. ويلاحظ أن أديلار الباثي يستعير المنهجيات العقلانية العربية في كتابه أسئلة طبيعية ولكنه لا يعطي أية علامة تدل على معرفة العربية (يظن هاسكينز أنه تعلم العربية بعد ذلك) إلا إذا كان الجدل هو مجمل الحوار. وتبعا لاستشهاد مطول لألفار دو كوردو (تم إدخال تعديل بسيط على مضمونه) والذي لم يتخذ في عين الاعتبار إطلاقا، فيرجع ذلك إلى أن تقبل المسيحيين المهزومين في إسبانيا للأدب العربي (الذي يتحدث عنه) في القرن التاسع ليس له أدنى علاقة بالتعليم في القرن الثاني عشر. ولم يثير دهشة هذا السائح تواجده في موقف اعتيادي، حين يفكر في رفاقه في بغداد القادمين من ايطاليا وفرنسا (فالأماكن ليست موضع النقاش). ويؤكد البروفسور مقدسي بشدة على التواجد العربي في فرنسا، ولكنه لم يذكر وجود مدارس لتعليم الفقه أو الكلام في المستعمرات في هذه المدة القصيرة في فرنسا وإيطاليا (خارج صقلية)، وكذلك لم يذكر أن هؤلاء العلماء قد زارو بغداد.
لم يصعب على الأوروبيين في القرون الوسطى إخفاء ما اقتبسوه من العرب، ولا سيما الأفكار، فمثلا أعمال ابن سينا (بغض النظر عن ابن رشد فهو حالة استثنائية) وذلك بالإضافة إلى صمتهم حول مسألة المنهجية، مما يبرهن على أن نظرية مقدسي تحتاج إلى إثبات. يقول البعض إني ذكرت أن علماء القرون الوسطى لم يعترفوا بعدُ بما اقتبسوه عن العرب، مع عدم ذكر المصادر المحددة مع الأسف، فإذا كنت قد ذكرت ذلك خارج السياق الديني البحت، فإني كنت مخطئا. وفي المجمل، يُعنى البروفسور مقدسي عناية شديدة بالمقارنات بين التعليم العربي والتعليم الغربي اللاتيني، ولكن الفحص الدقيق يقلل بشدة من حدة تراكم هذه التشابهات. فليس هناك أي برهان على أن منهجية نعم ولا لأبيلار التي عمل بها بالطبع أو أن استخدام سابقيه في تدريس القانون وفي الأدب الغربي لمنهجيات مشابهة، لها أصل عربي في الخلاف. ويبدو خياليا للغاية أن يكون تعليق الخلاف هو أصل توابع إشكالية التعليم اللاتيني، فإن توازي التناقضات ليس منهجية صعبة التكوين. ولا يمكن أن نزعم أن التعليق هو نسخ عن الشرح أو الحاشية، بل ينبغي عمل مقارنة شاملة لمجمل النظامين التعليميين وليس فقط لفت الانتباه حول التشابهات. وينبغي في المقام الأول تحديد الآثار الأصلية لانتقال أية اقتراضات.
ولكن من المؤسف أن أذكر عدم اتفاقي مع نظرية هذا الكتاب دون التطرق إلى فضائله غير القابلة للجدل. فأولا، من الممتع للغاية قراءة تفصيل دقيق كهذا رغم أن الفكرة غير مقبولة. فيعد هذا الكتاب هو نتاجلعقلية متفتحة وحية وتتمتع بالحساسية تجاه المناخ التعليمي العربي والمسلم حتى القرن الرابع الهجري. بالإضافة إلى ذلك، فشواهد من المصادر – التي تم اختيارها بعناية شديدة حتى أنها كانت تثبت عكس ما تهدف إليه النظرية – مثيرة للاهتمام، ولا يقلل من شأنها أي مما ذكرته. ويميز الكاتب جيدا التشابه الكبير بين الثقافتين وهذا ما يثير الدهشة لما يظهره من علاقة تلقائية. فإذا كانت الافتراضات، وحتى المرفوض منها، تحدث تقدما في العلم، فعلينا أن نهنئ البروفسور مقدسي لتوضيحه لنا حدود بعض الاحتمالات وإعفائنا من الإثبات بعيد المنال للتأثير المشكوك به. كما أن لديه مطلق الحرية في مدنا بالمزيد من المعرفة في كتبه المقبلة.